الضوء الآسر الذي يأتي من الخلف. الولع القديم بالقاعة المظلمة. غواية السينما التي جعلتنا شديدي الارتباط بالصور، وجعلتنا نحلم ونهزم الأشرار، كما ساعدتنا على مقاومة الضجر. في ذاكرة كل واحد منا فيلم شاهده وتأثر به، بل أصبح جزءاً رئيساً من كيانه الروحي والعاطفي. فيلم يقع خارج التقييم الفني، ولا يخضع إعجابنا به لأي منطق، لأن العلاقة معه مبنية على العاطفة أساسا.. في هذه السلسلة التي نبدأ بنشرها اليوم، حكاية كاتب أو مثقف أو فنان مع الفيلم الذي كان له وقع عليه.. نشأت في مدن هامشية إلى حدود السابعة عشرة من عمري. في ميسور وتنجداد وأزرو وإفران وميدلت لم يكن هناك سينما ولا مسرح ولا حتى مكتبة. نشأت على شعور بالنقص من ساكني المدن الذين يتوفرون على تلك الأشياء. يجب أن أتحدث عن واقع الأشياء كما حدثت في حياتي، فقد كنت أصبو في صغري إلى تثقيف نفسي لكني لم أكن أجد الى ذلك سبيلا. وصلت إلى الرباط في سن السابعة عشرة، ولم يكن لدي ثمن تذكرة السينما. لهذا لم أرتد القاعات السينمائية إلا بعد تخرجي وحصولي على وظيفة. هذا واقع حال الطبقات المسحوقة التي لا سبيل لها إلى وسائل التثقيف والترفيه ومن الظلم أن نطلب ممن لا يملك ثمن تذكرة سينما ومسرح وثمن كتاب أن يثقف نفسه. بعد أن اشتغلت صرت مدمنة على قاعات العرض في حدود إمكانياتي المادية طبعا، ولم يفك عقدتي إلا الانترنيت حيث يمكن تحميل أجمل الافلام السينمائية. شاهدت تقريبا كل الذي فاتني بسبب الفقر والعزلة. شاهدت روائع السينما العالمية وعشت مع شخصيات بيلي وايلدر وهيتشكوك وجان لوك غودار وسبيلبيرغ وكوبولا ولارس فان ترير وآخرين. في البداية كانت تثيرني الإنتاجات الهوليودية الكبيرة والأفلام التاريخية، لكني وجدتني بعد ذلك أميل الى سينما أكثر استقلالية عن شركات الانتاج الكبرى، فكان أن اكتشفت أفلام جون كاسافيتس، وشاهدت أفلامه كلها، وتأثرت كثيرا بطريقة التصوير والسيناريو وفن توجيه الممثلين؛ فهو مخرج يترك الكثير من الحرية للممثل حتى يبدو الارتجال جزءا من عمل الممثلين. بهاته الطريقة أطلق طاقات جينا رونالدز التي كانت زوجته حيث أنه لا حدود لتماهيها مع الأدوار المسندة إليها. أعجبت بها في فيلم «الليلة المفتوحة» قبل أن أشاهد «امراة مستلبة» حيث لعبت دور زوجة تنهار نفسيا وتصاب بنوبة جنون وتدخل مستشفى الأمراض العصبية. شاهدت هذا الفيلم مرات عديدة في فترة حرجة من حياتي فقد كنت بدوري أدخل في أزمة ذهانية حادة قادتني إلى المصحة لشهر كامل. يدور الفيلم حول قصة أسرة امريكية من الطبقة المتوسطة (التي يهتم بها كاسافيتس بصفة خاصة). هاته الأسرة تواجه الأزمات العصابية للزوجة. تنزلق هاته الأخيرة نحو الجنون بهدوء ويعجز زوجها عن مساعدتها، فهو لا يفهم أصلا ما يحدث. الفيلم يرتكز على تقنيات تصوير متميزة حيث يتم التصوير من زوايا متعددة وبالاعتماد على لقطات مطولة، وهذا يمكن من التقاط كل الطاقات العاطفية للممثلين. على امتداد ثلاثة أيام. شاهدت هذا الفيلم، وأعدت مشاهدته دون انقطاع. كان يبدو لي أن قدر مابيل لونيتي البطلة هو نفسه قدري فقد كنت أتردى كل يوم في حالة ذهنية تبعدني عن الواقع والآخرين. كنت ازداد غرابة واغترابا كل يوم ولا أتعرف على الناس القريبين مني. مابيل لونيتي كانت تواجه عدم تفهم الآخرين لحالتها وبدت لي قريبة مني، فأهلي لم يكونوا يفهمون حالتي ولا يريدون القبول بها، وكانوا يشعرون بالإحراج من حالتي، وتحولوا منذ بدء الأزمات في سن السابعة عشرة إلى العنف الجسدي والنفسي من أجل أن أقلع عن مايسمونه « الفشوش». زوج مابيل لونيتي، وجسد دوره بيتر فالك «الكوميسير كولومبو» كان يشعر بالإحراج من حالات زوجته أمام أصدقائه. لهذا كان يعلمها كيف تحادث الآخرين، لكنها كانت قد انصرفت إلى قدر آخر. قدر اللاتفاهم مع العالم والآخرين. لم يسع كاسافيتس في هذا الفيلم إلى صنع الفرجة. هكذا لم يصور إقامة مابيل في المستشفى. إقامة لستة اشهر. وركز أكثر على اللقطات الحميمية حيث خيل إلي أنني اتناول طبق السباكيتي مع البطلة صباحا، وأرافقها وهي تقود أبنائها عند امها. قوة كاسافيتس هو أنه يخلق هذه الحميمية مع شخوصه. الفيلم أخرج في سنة 1974؛ وفي السبعينات بدأت السينما تهتم بأقدار الناس العاديين بالجنون اليومي الناتج عن ظروف الحياة الصعبة في المجتمعات الصناعية حيث الفرد مستلب من طرف الرأسمال الوحشي والشركات الكبرى وشكل معاصر لتدبير الموارد البشرية» الماناجمانت» يدفع بالناس إلى أشكال جديدة من العصاب الفردي والجماعي. فيلم « امراة مستلبة « هو دعوة إلى تجربة انسانية ووجودية مخلخلة. نعيش مع مابيل لونيتي أقسى درجات العزلة والانسحاب من القدر الجماعي. فالجنون هو هذا بالضبط: انسحاب من القدر الجماعي إلى قدر آخر مخيف ومثير، وهو ما سميته في أحد نصوصي قدر نحن فيه عربات لحم يقودها خوف قديم. نحن مسكونون بمخاوف قديمة وهي التي تعود لتقودنا إلى الانفصام عن ذواتنا والعالم الخارجي. الفيلم حكاية صراع امراة تبحث عن وسيلة مختلفة للتواصل مع العالم الخارجي والناس الذين تحبهم. حكاية امراة تقبع في البيت فيما زوجها يشتغل في ورشات متعبة ولا يملك الوقت، ولا الامكانيات للاهتمام بأسرته وزوجته. ورغم أن الفيلم لا يقدم أطروحات نسائية إلا أنه يجسد صراع امراة من أجل الخروج من وضعية حرجة. وضعية امراة لا تشتغل وتنتظر عودة الزوج والأبناء، وفي انتظار ذلك تواجه دواخلها المعتمة والمثيرة. إنه توصيف لدواخل امراة وعالمها الباطني الذي استعصى حتى على أعتى المحللين النفسانيين. يغوص كاسافيتس في تلك القارة المظلمة كما يصف فرويد أعماق المراة. يغوص هناك ويعود بأحد أقوى أفلام السينما المستقلة الأمريكية وقد نالت جينا رونالدز جائزة الغولدن غلوبز عن دورها فيه. فيلم «امراة مستلبة» أثر في كثيرا. فلأول مرة، أعي طبيعة الحالات التي تنتابني وفهمت طبيعة نظرة المجتمعات إلى المرض العقلي. بعد مشاهدة الفيلم بثلاثة أيام قدت جسدي السقيم إلى مصحة متخصصة وأقمت فيها شهرا واستعدت عافيتي. كانت تلك أول مرة اعي فيها بأهمية العلاج في هاته الحالات، وتخلصت تماما من نظرة الأهل والمجتمع. وبقدر ما أمتعني الفيلم وأداء بيتر فالك وجينا رونالدز بقدر ماقادني إلى مغامرة لذيذة مستمرة منذ خمس سنوات، هي تجربة التحليل النفسي، بل قادني الفيلم إلى إعداد ماجيستير في علم النفس. أعتقد أن هناك أعمالا فنية كما يقول غادامير تغير الانسان والعمل الفني الناجح هو الذي يغير الانسان الذي يشاهده، وهنا قوة العمل الفني.إنه تجربة روحية يخرج منها الانسان مختلفا، وإلا فلا قيمة للفن. الفن له قوة الاديان على تغيير الانسان، ولهذا فهو يعوض الله الذي مات في الحداثة الغربية.