أثارت انتفاضة الشعب التونسي وما أدت إليه من «انقلاب» في أعلى هرم سلطة الدولة، أثارت أسئلة حول مفعولها الارتدادي على محيط تونس المغاربي خاصة، والعربي عامة...بل، تحدث البعض عن حتمية انتشار «عدواها» عربيا، باعتبار تشابه أغلب أنظمة الحكم العربية من حيث هيمنة الحاكم بالقمع والفساد وسد كوى الديمقراطية على الشعوب. تلك الأسئلة تجد في انتفاضة الشعب المصري الجارية وهم الجواب عليها...»العدوى سرت وشذى الياسمين فاح في أنفاس الشعب المصري»...وهو جواب مستمد من قراءة سطحية لانتفاضة الشعب التونسي، قبل أن تكون قراءة سطحية في انتفاضة الشعب المصري. إذ لكل حالة تاريخها الخاص وهي نتاج تفاعل عوامل خاصة بكل شعب، حتى وإن تزامنتا وتشابهت أهدافهما وروج بعض الإعلام لتبادل التأثير بينهما. ومن بين ما قرأت وسمعت في «عدوى» انتفاضة تونس إلى الشعوب العربية، وجدت الأكثر سطحية وشرودا عن المنطق، ما قاله الصحفي الشاب والمعترض الدائم (وليس المعارض) السيد بوبكر الجامعي للأسبوعية الفرنسية (لو نوفيل أوبسيرفاتور) في عددها ما قبل الأخير. الأخ، أصلا، نفى نفسه اختياريا خارج المغرب، لأن البلد لا تسع لطموحاته وليست في مستوى وعي اعتراضاته الكثيرة ونبوءاته المتعددة، أيام كان يصدر أسبوعية «لوجورنال». فلا عجب اليوم أن يتحدث من خارج التاريخ، حيث يتنبأ لنا أو يهددنا «بثورة أكثر دموية من ثورة تونس». لأن المغرب (حسب قوله) توغل في «البنعلية» السياسية والاقتصادية منذ سنوات، هو ما سبق له أن حذر منه في أحد أعداد مجلته. . ولأنه يريد لنا «ثورة أكثر دموية من غيرها» فإنه يشي بملك البلاد إلى الإسلاميين، ليحرضهم ضده، لأنه ارتكب، في رأيه، سلسلة من» الأخطاء السياسية» لم يحدد لنا واحدة منها، وأبرز فقط استثمارات خاصة في شركات لا علاقة مباشرة للملك بها ولا هي سياسية. هاجس الاستثمار المالي حاضر بقوة في كل تصريحه، وخاصة حين يعتمد روايات برقيات ويكيلكس (وهي ليست أكثر من روايات لدبلوماسيين أمريكيين)، كأنما يعبر عن تذمر من ضيق فرص الاستثمار أمامه وأمام من يمثلهم من «الرأسماليين الجدد» (وذلك هو أصل إصدار «لوجورنال» كمجلة اقتصادية مختصة أكثر في التعاملات المالية). الرجل، منذ أن أدمج في سياق مؤشرات بث النفس في الشباب في الإعلام مع «العهد الجديد»، وأخرج من تقوقعه في الاختصاص المالي، وأحيط برعاية خاصة لطموحه، منذ ذلك الحين، وهو يصعد من «أناه» وينفثها حواليه حتى بات لا يرى في محيط رؤياه إلا هو. صغرت أمام قامته، الدولة، الأحزاب، جمعيات المجتمع المدني وقل بالجملة: المغرب. تذكروا كيف كان يأمر في مجلته بمغادرة، كل من لم يعجبه، المسؤولية التي كان يتقلدها، وكان أول من طالب برحيله المجاهد الفذ عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الأول آنئذ، ولم يكن قد مضى على تشكيل حكومة التناوب إلا أشهر قليلة...أما سعيه إلى «تقزيم» أحزاب الصف الوطني التقدمي فقد جعل منه منهج عمل. وتذكروا كيف سينتقل إلى السرعة القصوى، باعتماد التطاول على الملكية واستفزازها خطا تحريريا. و كيف ينتهي إلى معاداة حكومة الأستاذ عباس الفاسي (حكومة المنهجية الديمقراطية) بصفة مطلقة منذ ما قبل تأسيسها وإلى أن وضعت مجلته أنفاسها الأخيرة. ولأنه لا يرى المغرب فقط إلا من وراء أناه أو من بعض ما تسمح له أناه برؤيته في المغرب، فإنه لا يرى المغرب الحقيقي. والمغرب الحقيقي هو الذي انخرط منذ أزيد من عشر سنوات في إنجاز ثورته العميقة، المتواصلة والهادئة، ثورته التي يقودها توافق تاريخي بين الملك والقوى الحية للبلاد. ثورة خطت لنفسها مسارات متوازية ومتفاعلة، اجتماعية، سياسية واقتصادية. مسارات متباينة السرعة، بعضها يتعثر، وبعضها مرات تحدث فيها كبوات، ولكن خط سيرها هو نفسه لا يتغير ولا سبيل فيها للنكوص أو التراجع بل التقدم فيها حاصل حتى ولو ببطء. وليس بوبكر الجامعي ولا غيره من سيكون أكثر وعيا بمعضلات البلاد ومشكلاتها التنموية ولا أكثر تشخيصا لها من ملك البلاد ومعه القوى السياسية الحية المنخرطة معه، سواء من موقع الحكومة أو من موقع معارضتها في إدارة الانتقال التاريخي للمغرب...الانتقال الديمقراطي بكل أبعاده العميقة، الثقافية، الاجتماعية، السياسية والاقتصادية. إن ذلك التشخيص الدقيق لكوابح التقدم وتلك المصارحة الشفيفة للذات المغربية ومعها، هو ما مكن من إرساء إرادة التغيير (وليست الثورة في عمقها إلا التغيير وليس لها دائما ممر دموي) على وضوح الاختيارات، وعلى معقوليتها وعلى تدرجها وعلى قابليتها للتراكم في إنجاز التطور النوعي. ذلك التشخيص وما نتج عنه من تدقيق الاختيارات، سمح به وأنتجه إطلاق الحريات العامة من حجزها، وضمنها حرية الصحافة وقد أنتجت لنا، مثلا، أسبوعية «لوجورنال» على رعونتها، وحتى بعض مثيلاتها. نفس حرية الصحافة المستمرة والمكفولة، ولا أدل على ذلك من توزيع مجلة «لو نوفيل أبسرفاتورر»، حتى مع ما فيها من إسفاف وترهات الشاب المعترض الدائم بوبكر الجامعي، في أكشاك المغرب. تلك الحريات العامة المصانة بل والمنصوص على احترامها في المفهوم الجديد للسلطة، والتي سمحت، مثلا، بأكثر من 2000 احتجاج اجتماعي بمشاركة أزيد من 360000 مواطن خلال سنة 2010 وحدها. إنها ثورة حقيقية، بمشاركة كل الشعب المغربي، بكل طبقاته، كل قواه، كل مؤسساته وكل تعبيراته، ثورة متواصلة، عميقة هادئة تحث خطاها نحو تحقيق أهدافها، تصحح مسيرها كلما تعثرت وتحفز على المزيد من التقدم. السيد بوبكر الجامعي، النحو اللغوي يتعلم في المدارس، أما «النحو السياسي» فيكتسب مع التجربة والمران والنباهة والتعاطي المباشر مع الشأن العام المجتمعي . ولأن في الأمر مجتمعا حيا، بتاريخ عريق و بثراء في هويته، فهو يستدعي عمقا فكريا وتمكنا سياسيا رصينا، وأساسا صفاء سريرة وصدق منطلق، لقراءته القراءة الصحيحة، المنتجة، المفيدة وأساسا الوطنية والتي لا تقبل إرضاء الأهواء والطموحات الخاصة على حساب المصلحة العامة للوطن....فلماذا لا تنصرف إلى ما تجيد من اهتمام بشؤون حركة الأموال وتدع عنك ما لا تعرف، وما هو جليل وعميق، من حركة التاريخ.