بخطى وجلة، لكنها ثابتة تتقدم القاصة والمسرحية سناء شدال لتعلن عن حضورها الابداعي المتميز والمتنوع، هي القادمة من المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي، تهوى تصميم الملابس، وقد حازت عدة جوائز في هذا المجال، ولعل هوسها بالتصاميم ونسج نصوص مرئية تضاعف الحدث الدرامي في المسرحية، هذا الانشغال انسحب تأثيره على نسج وتصميم حكايا وقصص ضمتها اضمومتها الاولى التي اختارت لها عنوان النص الاول في ترتيب النصوص وهو عنوان مفارق: أبي.. ليس له أنياب. المجموعة صادرة عن دار أزمنة بالاردن بمنحة من مؤسسة المورد الثقافي بغلاف من تصميم وفوتوغرافيا القاصة نفسها، لذلك تخلق المجموعة ميثاقا تداوليا انطلاقا من النص البصري الذي قد يوجه أفق التلقي، فالصورة المقترحة تكشف عن جد غير مكشوف أولا لكونه مدثرا، ثم لغياب الرأس والرجلين، اذ تم تبنير اليدين في وضع تقاطعي ما بين البطن وأسفله جاعلة من الكف اليسرى نقطة الارتكاز وهو جسد أنثوي تحيل عليه حركية إيقاع اللقطة لحظة الالتقاط، كما أن طبيعة اللون الرمادي كثفت من بلاغة الغموض الذي ترهص به الصورة، وفي إطار التعالق يمكن قراءة الجملة التي صدرت بها القاصة مجموعتها: علمتني مرآة المرحاض المشروخة أن أرسم وجهي وأتنفس... هل هي رغبة في استحضار الوجه المغيب من الصور بما هو تغييب لهوية مقصاة، هوية الانثى التي تعيش أقصى درجات عزلتها رغم حضورها الفيزيقي المشروط بعدم الافصاح عن كينونته، ولعل النص الاول يبلور هذا الزعم، من خلال الافصاح عن معاناة الام بما هي تكثيف دلالي ورمزي للأنثى وهو الذي اختارت القاصة ان تعنون به المجموعة. ينفتح النص بعنوان فرعي: أمي... أبي.. بشكل يكشف عن الرغبة الثاوية لدى الذات الساردة في إنصاف الام عبر تبنيرها في النسيج الحكائي لتعضد الجملة الاولى هذه الرغبة لتشرع الحكاية على منطق التقابل بين شخصيتي الام والاب: «علمتنا أم ان الحلوى لاتشبع والصراخ والبكاء لاينفعان. علمنا أبي ان أمي دائما تكون على خطأ وهو على صواب . أبي لايخطىء ابدا أبي آلة لاتتعب». 1 هكذا تضاعف الشخصية ذاتها عبر شخصية الام حيث تغدو الاخيرة تكثيفا دلاليا لها كأنثى تسعى لتأكيد وجودها واستعادة أناها، لذلك نفهم تمرد الشخصية ضد كل محاولة للتدجين وإعادة انتاج نموذج الاستكانة والخضوع، اذ من خلال عنوان فرعي: مرآة وجه أمي نقف على موقف صريح من الهيمنة الممارسة: «أمي عادة سيئة تعلمتها بالفطرة. اغضب، فتقول: أنت لاتفهمين يابنت، بل أفهم، أمي ، أريد مرآة لاتتكسر في وجهي، لم أجد وجها، أين وجهي؟؟ أين المرآة؟ أمي أرجوك ، أريد فقط مرآة امرأة لأقابل حبيبي أحمد». 2 إنه إحساس بالرغبة في التحرر وبناء الشخصية لتكون هي ذاتها: « ما أجمل كلمة حياتي. لم أجرب يوما ان ألبس حياتي ، أتخيلها دائما كبيرة على مقاسي، المناكب عريضة جدا والاكمام طويلة جدا والطول ليس له نهاية، او ربما ضيق البيوت يجعلنا نحلم بالشساعة. ربما ستصير حياتي في الشارع على مقاسي، فأقفز هنا وهناك دون رهبة من السقوط، وسأسرق قفل الباب والصرير المخيف ايضا... الى الشارع». 3 غير أن هذا الشارع المفضي الى المدينة لايمنح الاحساس بالخلاص، فالمدينة فضاء التيه والضياع يعمق الشعور بالتلاشي والانسحاق والخواء ما يدفع الشخصية مرة أخرى الى الانعتاق من هذا الفضاء المشيء والذي رغم شساعته يشعر بالاختناق لتعود الشخصية مرة أخرى الى فضاء البيت الحاضن كملاذ للاحتماء من صقيع علاقات متكلسة: «أكره المدينة التي أهدتني السعادة، سعادة اللحظات المتقطعة. عدت الى البيت، احمل كل شيء ، حتى الموت احمله على اكف أمينة، موسيقي اديث بياف تصدح من هاتفي.. هو نبرة الصوت نفسها، اسمعه بتمعن وارد عليه بكلمات محبطة». 4 تجربة الحب في النص، تجربة المفارقة والالتباس فنحن أمام رغبة في امتلاك حبيب مؤمثل ينحث فيه مفهوم الحب أكثر مما هو كائن حي وبذلك يتلاشى الحبيب في العلاقة بما هو مجرد ظل لعاطفة الحب مما يسوغ نزوع الشخصية نحو محاولة القبض على حب زئبني يتأبى على الامتلاك: «حسام الذي كان يدور العلم حوله، وكنت بدوري احاول مستميتة تسلق خيوط سحره وكشف لغزه الذي كان يحيرني. عمر يتعبني . عمر يخنقني حتى في قمة لحظات استرخائي. حسام كان يغريني لاكتشفه أكثر، ربما لأني كنت أحبه أكثر، ضغط عمر على يدي اليمنى بقوة، سحب يدي من يديه ونهضت من الكرسي دون أن أنبس بكلمة، أخذت محفظتي واتجهت الى الباب. تناهى الى مسامعي صوت عمر وهو ينادي علي، خرجت بينما ظل صوته حبيس المقهى الحجري، صوت واحد بداخلي كنت أسمعه بقوة، سأرحل للبحث عن رجل آخر يستطيع ان ينسيني كل الرجال». 5 مرة أخرى يخيب هذا الخارج أفق انتظار الشخصية ممارسا بذلك دوره الاستثاري من خلال إذكاء الاحساس بالعبثية واللامعنى: «تنظر الى الساعة الحائطية والى اليومية ثم الى الشارع المكتظ بالسيارات والكثير من الفتيات اللواتي يجعلن الرغبة تقفز الى حلقك، هذه فقط جعلتك تسرع لارتداء ملابس العمل المحترمة وللاسراع الي السيارة والشارع والمكتب والمدير. واجتماع العاشرة والنصف ، طبعا، جعلك تسرع الى موعد صداع الرأس على الساعة الخامسة والربع... و... و....». 6 يكاد يكون هذا الإحساس باللاجدوى خيطا ناظما لبنية نصوص المجموعة ، حيث اللايقين والوقوف على حافة الهباء يجلي افعال الشخصيات، فنحن امام ذوات منذورة للفجيعة نسيت كيف يمارس الفرح والالتذاذ باللحظات الجميلة. لذلك نجدها تئن تحت وطأة لحظات اسيانة موجعة، وقد تم تكثيف ذلك في نص يرهص من عنوانه الموسوم: «اثنان واربعة... ستة» بالاشتغال على عنصر الزمن النفسي ويتبدى ذلك عبر استثمار علامات الترقيم الداعية للدلالة مما سمح بجعل النص متراوحا بين جمل قصيرة مضغوطة تولد الاحساس بالاختناق واخرى متلاشية بنقط الحذف الى جانب ذلك يهيمن معجم قوامه الاعداد: «بالاعتراف بالنشوة او بالامتلاك او بالغضب او بالسؤال او بالاتصال او بالخوف او بالامان او بالغيرة... فكرت.. ربما لن أكون سوى عاهرة من تصنيف آخر. خائنة مسمومة لزوجة ترقد بسلام في بيتها. ليس باستطاعتي ان أكون الا وردة دافئة تعبق بعطر أنوثة أزلي ينتمي لزمن راكد، للحظة ، للحظة فقط لليوم الرابع والعشرين». 7 اضافة الى الاشتغال الواعي على علامات الترقيم يلاحظ الحرص على تسخير الدعامات البصرية لمنح النصوص إمكانات تداولية وتأويلية فسيحة وقد انطلقت العملية من العتبة الاولى كما تمت الاشارة الى ذلك في غلاف المجموعة لنلمس اطراد العناصر الكرافية والايقونية في نسيج النصوص في نص «رسائل» وظفت القاصة تقنية الرسالة لكنها رسالة بيضاء وقد لذلك صفحة تصدرتها في الاعلى كلمة: استاذي وفي اسفلها: تلميذتك» لتظل الصفحة فارغة من الكتابة فقط. من العناصر المسهمة في بلورة تقنية كتابية متميزة بحضورالعناوين الفرعية التي تخدش خطية السرد وتعين على ترجمة التفكك والتصدع في علاقات الشخوص بواقعها. من المفارق في ترتيب نصوص المجموعة ، نص القفل المعنون ب: «تكرار» والمبني بناء دائريا كما هو الشأن في نصوص أخرى وعمدت الى تكرار دلالي ولفظي في هذا النص بإعادة لفظة مكرر في نعوت لكلمات العناوين الفرعية. إن الاحساس بالتكرار والرتابة ميسم دمغ عالم نصوص المجموعة القصصية الاولى للقاصة سناء شدال التي أعلنت بها حضورا متميزا يعد بالكثير. هوامش: 1 - ص من المجموعة 2- ص 11 3- ص 15 4- ص 48 5- ص 43 6- ص 23 7 - ص 50