غارسيا ماركيز قضى سنوات طويلة في التفكير في « مائة سنة من العزلة « و « وقائع موت معلن « قبل كتابتهما همنغواي أعاد كتابة آخر صفحة من روايته « وداعا للسلاح « 39 مرة بروست كان يرفض رائحة العطر و يغلق الغرفة عليه و يكتب في السرير أبولينير كان يكتب في المطبخ و هنري ميللر لا يستطيع الكتابة في مكان مريح و ليوباردي يربط رجليه بالكرسي .. قلة من الكتاب كانوا يستمعون للموسيقى أثناء الكتابة . و أغلبهم يكتب في صمت مطلق مناسبة هذا الملف ، هو نزول الإصدار الجديد للكاتب الإسباني خيسوس غريوس « التنقيب بين السحب « للمكتبات بإسبانيا في شهر يونيو 2015 ، و هو كتاب مثير خصصه لأسرار الكتابة و خبايا المطبخ السري لكبار المؤلفين في صنع أعمالهم الشهيرة و غرائب عوائدهم ، و طريف طقوسهم ، و نظرتهم للكلمة و دور الكتابة .. يتحدث خيسوس غريوس في هذا الملف المنجز في شكل حوار أجريناه معه تخليدا لذكرى عبوره من مراكش ، بعد أن أقام بها أزيد من 12 سنة و قرر خلال شهر ماي 2015 مغادرتها ، يتحدث عن كُتاب من طينة غارسيا ماركيز و مرغريت يورسينار و و ليام فوكنر و هنري ميللر و إرنست همنغواي و بروست و فلوبير و بول بولز و خورخي بورخيس و جورج أمادو و يوسا فارغاس و إستفنسون و خوان غويتصوللو و تريمان كابوتي وغيرهم .. و يستحضر طقوسهم الغريبة في التأهب لفعل الكتابة ، حيث يفصح الإبداع عن المكان الدقيق من الحياة الذي يؤهله للنضج و الاكتمال . خيسوس غريوس روائي إسباني من جزيرة دي مايوركا أصدر عدة أعمال لاقت نجاحا كبيرا ، في مقدمتها رواية « زرياب « التي استلهم فيها حياة شخصية زرياب بالأندلس . كما أصدر مجموعات قصصية و نصوص مسرحية و كتب سيناريوهات لأفلام سينمائية . ويليام فوكنر قال إن المكان الأمثل الذي يلائمه للكتابة هو وكر العاهرات ، و ماركيز كتب أول رواياته ببيت لعاملات الجنس ■ التنقيب بين السحب ، عنوان غريب للتعبير عن المجهود الذي يبذله الكُتاب من أجل انتزاع فكرة كتبهم . ما الذي دفعك إلى تأليف كتاب من هذا النوع لمطاردة أسرار الكتابة لدى كبار المؤلفين في العالم ؟ في البداية كان هذا العمل عبارة عن محاضرة ألقيتها في عدة مدن كمدريد و مايوركا و غيرهما ، بعدها فكرت أنه يمكن تطويرها في كتاب ذي موضوع طريف ، و هو كيف يتمكن الكُتاب من الوصول إلى صياغة القصص التي يؤلفون ؟ أول شيء وصلت إليه هو أن كل الكتاب الكبار يقولون أن الوقت الذي استلزمهم الوصول إلى فكرة العمل أطول بكثير من الوقت الذي استلزمته كتابته . لأنهم كتاب محترفون ، متمكنون من تقنيات الكتابة ، لذلك فالصعوبة و المعاناة الحقيقية بالنسبة إليهم هي الوصول إلى فكرة أصيلة للعمل . عندما تنضج الفكرة و تكتمل في ذهن الكاتب يصبح بإمكانه تحقيقها في كتاب . ■ هذه هي المعادلة إذن : فكرة الكتاب أصعب من كتابته .. بالضبط ، غابرييل غارسيا ماركيز قضى 15 سنة في التفكير للوصول إلى فكرة " مائة سنة من العزلة " و 30 سنة في التفكير في " وقائع موت معلن " ، كما أنه كتب 300 صفحة من رواية " خريف البطريرك " ( صدرت سنة 1975 ) فاستغنى عنها بكاملها ، و لم يحتفظ منها سوى باسم هذه الشخصية فقط ، و الباقي ألقى به في سلة المهملات . أما رواية " ليس للكلونيل من يكاتبه " ( صدر 1961) فقد أعاد كتابتها تسع مرات . و في كل مرة كان بجد أن المنجز لا يرقى إلى ما يسعى إليه . أما الفرنسية " مارغريت يورسينار " التي اشتهرت بروايتها " ذاكرة أدريان " ، فقضت عشرين سنة في كتابة هذا النص ، و لم تحتفظ من صيغته الأولى سوى بجملة واحدة ، و الباقي استغنت عنه و تخلصت منه في القمامة . ■ يعني هذا أن الكاتب المحترف ، ليس شخصا متلهف على النشر ، و أن إشباع النص لطموحه الفكري و الأدبي و الجمالي ، أي للصيغة المثلى التي تصور بها العمل ، مسألة حاسمة و أولوية قصوى قد تؤجل عملية نشره ، و تُلزم الكاتب بإعادة كتابته عدة مرات .. يمكننا أن نقول ذلك . إرنست هيمنغواي مثلا ، أعاد كتابة آخر صفحة من روايته " وداعا للسلاح " 39 مرة ، لأنها لم تحظ برضاه . بالنسبة للقارئ سيمر بسهولة على هذه الصفحة ، و قد يجدها عادية ، دون أن يعرف أنه لكي تصل إلى نتيجتها النهائية استلزمت من همنغواي عملا كبيرا .و هذا نموذج لكي يدرك القارئ قيمة المجهود الذي يوجد خلف الكتب التي نقرأها بسهولة . و ذلك ما يؤكده خورخي بورخيس ، الذي كان يقول : " كل صفحة مما كتبته ، هي حصيلة صيغ متعددة في إعادة الكتابة .. " ■ و ماذا عن مصدر فكرة العمل ، أي من أين يستقي هؤلاء الكتاب فكرة مؤلفاتهم ؟ بالنسبة لغبرييل غارسسا ماركيز ، فمنطلق العمل يكون دائما صورة ما . مثلا رواية " ليس للكولونيل من يكاتبه " جاءت فكرتها عندما شاهد غارسيا ماركيز رجلا واقفا قرب النهر ينتظر وصول الباخرة التي تحمل البريد . هذه الصورة ألهمته من خلال 30 سنة من التفكير ، كتابة هذه الرواية الجميلة . هكذا دائما بالنسبة لهذا الكاتب كل أفكار كتبه مصدرها صورة شاهدها أو تخيلها . أما كاتب المغامرات الإنجليزي " إستفينسون" فكان يجد مصدر فكرة أعماله في أحلامه الشخصية . و بالنسبة للورنز دوريل ، فكان يقول إنه يبني أعماله من خلال الكلمات ، الأمر بالنسبة له لا يتعلق لا بصورة و لا بحلم ، حيث كان يقول " الكلمات توجد في جيب سروالي و تبدأ تكبر و تكبر إلى أن تصبح عملا " ■ الكتاب يختلفون أيضا في الشروط التي يخلقونها و التي تجعلهم متهيئين أكثر لإنجاز أعمالهم ؟ في الأعم هؤلاء الكتاب ، عندما يكونون شباب ، أو في كامل نضجهم الجسمي ، يشتغلون بالليل . ويليام فوكنر ، مثلا ، قال إن المكان الأمثل الذي يلائمه في الكتابة هو وكر العاهرات . لأنه يكون بالليل صاخبا و في الصباح هادئا ، لكون محترفات الدعارة يستسلمن للنوم فيه . و كذلك الأمر بالنسبة لغارسيا ماركيز ، عندما كان صحفيا ، في السن صغير ، اختار السكن في منزل لعاملات الجنس . فكان يستغل هدوء الصباح و يشتغل بقوة ، و في الليل يشتغل بالجريدة . و أول رواية له ، و التي كانت بعنوان" الأوراق الذابلة " (صدرت سنة 1955) كتبها هناك في هذا المنزل . أما الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر الذي مارس تأثيرا على مجموعة من الكتاب كغبرييل غارسيا ماركيز و يوزا فارغاس و خورخي بورخيس ، فكان يقول " سمعت عن الإلهام ، لكنني لم أره قط " بمعنى أن العامل الأساسي بالنسبة له هو الانضباط . الورد الأصفر لماركيز و السرير لبروست و المطبخ لأبولينير ■ و ماذا عن طقوس الكتابة ؟ كلهم يقولون إنهم في شبابهم يشتغلون لساعات طويلة ، كموظف عمومي . و لكن عندما يتقدم بهم السن ، يعملون أكثر في الصباح الباكر . لأنه لا ينبغي أن ننسى هذه الحقيقة ، فلكي نكتب فنحن في حاجة للطاقة الجسدية . شخصيا ، عندما كنت أكتب رواية « زرياب « كنت أشتغل على الأقل ثماني ساعات في اليوم . الآن لا أستطيع أن أقوم بمثل هذا المجهود . فاكتفي بخمس ساعات و نصف في الفترة الصباحية ، و بعد الظهر أخرج للتجول و الاسترخاء . جسميا لم تعد لي نفس الطاقة . ■ و ماذا عن بعض العوائد التي تلازم الكتاب أثناء الكتابة ؟ نعم هناك عوائد غريبة . فلوبير مثلا ، كان يشتغل دائما مديرا ظهره للنافذة ، لأنه يرفض أي منظر قد يشتت تركيزه . بروست كان أغرب منه ، كان دائما يكتب في السرير ، في غرفة مغلقة . و كان مصابا بالربو ، و مع ذلك لا يفتح النافذة ، و هو ما يشكل خطرا على صحة من هو مصاب بهذا المرض . بروست أيضا كان يكتب بالليل ، و يرفض رائحة العطر ، و كانت خادمته تشم كل من يهم بزيارته ، فإذا كان يحمل أدنى أثر لرائحة العطر ، تمنعه من الدخول عند بروست . و كان أيضا ، و هو في سريره بغرفته المغلقة تحيطه صفحات مخطوط العمل الذي يشتغل عليه ، يستدعي من حين لآخر فرقة موسيقية لتعزف له ما يروقه من مقطوعات . الكاتب الأمريكي ترومان كابوتي ، كان يكتب أيضا في سريره . و كان يقول عن نفسه « أنا كاتب أفقي .» و بالنسبة لغارسيا ماركيز ، فلكي يكتب ينبغي أن يكون الورد الأصفر على طاولته ، و إلا فهو لا يستطيع الكتابة . حاول ذات مرة ، أن يكتب ، فتلكأ كثيرا ، فانتبه إلى غياب الورد الأصفر عن مكتبه ، فذهب أحدهم مسرعا لجلبه . الورد الأصفر ، بطريقة ما مصدر لإلهامه . هنري ميللر قصة أخرى . فهو لا يستطيع الكتابة في مكان مريح . إذ يفضل دائما العمل في شروط غير مريحة : غرفة ضيقة و على طاولة صغيرة .. الفضاء المريح لا يُسعفه على العمل . غيوم أبولينير كان يكتب في المطبخ . أما بلزاك فكان يكتب بالليل مع سترة قصيرة بيضاء من الكشمير و القهوة حتى لا يُداهمه النوم ، كان يستنفد الليل بكامله في الكتابة . و بالنسبة للشاعر الإيطالي ليوباردي ( القرن 19) كان لكي يُكره نفسه على الاستمرار في العمل ، يربط رجليه بالكرسي ، لكي يمكث بمكانه و يواصل الكتابة . و نلاحظ هنا أن عامل النجاح الأساسي بالنسبة للكاتب هو الانضباط في العمل . ■ هل الإنصات للموسيقى أثناء الكتابة ، عامل محفز على استثمار أكبر لإمكانيات الكاتب ؟ قلة من الكتاب كانوا يستمعون للموسيقى أثناء الكتابة . و أغلبهم يكتب في صمت مطلق . الموسيقا تصبح عامل ترفيه ، و هو يؤثر على تركيز الكاتب و يشتته . ■ هل نفهم ، انه من خلال النماذج التي اشتغلت عليها في كتابك هذا ، أن الكاتب أثناء قيامه بمهمته هذه لا يحتاج إلى كثير من الترفيه ، و ربما احتاج أكثر لفضاء فقير، لا ينال من قدرته على التخيل . و هذا يُعاكس تصورات بعض الناس الذين يعتقدون أنك ستكتب أحسن عندما تكون أمام منظر خلاب كحديقة جميلة أو شاطئ أزرق .. لأن العالم الذي يقيمون فيه أثناء الكتابة هو الخيال ، و لا ينبغي للواقع أن ينتزعهم منه . إذا كانوا أمام حديقة جميلة فلن يشتغلوا بشكل جيد ، لأن جمالها سيستبد بانتباههم و يحرمهم من التواجد القوي في العالم الذي يحاولون بناءه . إذا كان أمام الكاتب منظر خلاب فإنه سيكون مُشبع ، و هذا يمنعه من البحث عن شيء آخر في عالم الخيال . كابيلو خوسي سيلا و هو آخر كاتب إسباني حصل على جائزة نوبل ، كان لكي يركز في عمله أكثر ، و يضمن أقصى درجات العزلة عن العالم الخارجي ، يقيم خيمة سوداء داخل مكتبه بمايوركا ، و يُغلقها عليه تماما ، و فيها كان يكتب . ■ إذا أردنا أن نؤول هذه الاختيارات ، سنقول إن الكتابة هي العزلة المطلقة .. نعم ، لكن بالمقابل ، همنغواي الشاب كان يكتب بالمقهى ، و كذلك الكاتب الإيطالي لابيدوزا صاحب رائعة « الرحيل « ، كان يكتب بمقاهي باليرم بسيسيليا، حيث يلتهم الكثير من الحلوى و يقرأ شكسبير و يكتب . أما خوان غويتصوللو ، فيكتب بمكان إقامته ، و دائما بيده و بواسطة قلم الرصاص ، و لم يستعمل قط الآلة الكاتبة أو الحاسوب ، لأنه يكرههما .