2 2 الخاصية الثانية تتعلق بما يجعل محكي الانتساب العائلي مختلفًا عن تلك الأشكال السابقة. وهكذا، يبدو أن ما يميز محكي الانتساب العائلي أنه لا يسرد الحكاية العائلية بطريقة كرونولوجية، من الأجداد إلى الأحفاد، بل هو محكي ينكتب من الحاضر، وهو ثمرة بحثٍ ويتقدم في شكلٍ غير مكتمل. وإن كانت الطريقة الكرونولوجية في الحكي حاضرة إلى حدٍّ ما في « سلالم النهار «، فإنَّ المحكيَّ لا يخضع لخطٍّ كرونولوجيٍّ مسترسلٍ من البداية إلى النهاية، أي من الماضي إلى الحاضر، أولا لأنَّ المحكيَّ مقسَّمٌ إلى مجزوءات بعناوين موضوعاتية، ويتناوب ساردان(فهدة/ابنها) تناوبًا يوحي هو نفسه بتناوب الماضي(الأم) والحاضر(الابن). والأكثر من هذا أن الساردين معًا ينطلقان من الحاضر، بما يطرحه من أسئلةٍ وإشكالاتٍ، في اتجاه الماضي، ومن الماضي في اتجاه الحاضر. ويتقدم المحكي، في مجموعه، في شكلٍ غير مكتمل؛ وإضافة إلى أن بياضاتٍ عديدة تبقى حاضرة في محكي فهدة كما في محكي ابنها، فإنَّ نهاية الرواية بقيت هي الأخرى مفتوحة، وبقي السؤال معلقًا: كيف انتهت حكاية فهدة العائلية؟ كيف انتهت حكاية الابن العائلية؟ ويمكن أن نزعم أن أهمَّ ما يميّز محكي الانتساب العائلي هو هذه العلاقة الإشكالية بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهناك ما يسميه لوران دمانز: « مشقَّة في النقل والانتقال» من زمن إلى آخر، بحيث يبدو أن السؤال الإشكالي المطروح هو: هل هناك خيوط بين الماضي والحاضر والمستقبل بإمكانها أن تنسج مسارًا متماسكًا؟ هل يصلح الماضي ليكون الرَّحم المولّد للحاضر؟ هل المستقبل قابلٌ للإدراك؟ وفي المحكيين معًا(محكي فهدة/محكي ابنها)، يبدو السارد في شكلِ وَارثٍ إشكاليٍّ، وتبدو علاقة محكيه بالماضي علاقة إشكالية، فهذا المحكي ليس محكيًّا للأيام السعيدة الماضية التي تستعيدها الذات بغير قليلٍ من الحنين(باستثناء محكي فهدة عن زوجها ضاري في المجزوءات الأولى من الرواية، لكنها ستعود إلى نقد تلك المرحلة في نهاية الرواية). فالماضي في « سلالم النهار « هو موضوع مساءلة وقلق، ويشكل حملا ثقيلا على الذات، ويتقدم في شكل لغز، وهو لا يقدم نماذج أو مُثلا عليا من أجل تفسير الحاضر وبناء المستقبل. ومن هنا، نجد الذات(الساردة)، في المحكيين معًا، تشعر بالذنب من دون أن تكون مذنبة، وتكتشف أنها من دون هوية، يتيمة، تبحث عن فهم زمانها والارتباط بماضيها، وتبحث عن تجسيدٍ لذاتها من خلال مختلف أوجه الماضي الأبوية والأموية: « من أكون؟ ... لم أحلم بأيّ نمط، ولم يكن هناك لديّ أيّ نمط أو نموذج أو قالب جاهز. لا شيء يشدني ... لاشيء يثبتني في الحضور. لهب في داخلي ... هو البحث الحائر، هو السؤال الذي لا يكنّ ولا يهدأ، لشيء مجهول، غامض، يتخبّط فيّ»(ص152). ومن هنا، فإنَّ أهمَّ ما يميّز محكي الانتساب العائلي عن الرواية العائلية ورواية الأصول والرواية الجنيالوجية أنه محكيٌّ أكثر مما هو رواية، حريصٌ على أن يُقدِّم عملا نقديا يسائل الماضي أكثر مما هو حريص على الحبكة الروائية. وبعبارة أخرى، ففي محكي الانتساب العائلي يتمّ الاشتغال بالمادة البيوغرافية دون أن تكون مسألة الجنس الأدبي هي مركز الانشغال والاهتمام، فالمحكي في « سلالم النهار « يقف على حدود الرواية والأوتوبيوغرافيا، وتتشابك فيه المقالة والنقد الشعري الأدبي(نقد الرومانسية ونزار قباني) والأفكار النقدية الفنية والسوسيولوجية(لنلاحظ المجزوءة الأولى حول الرقص) وأدب الجسد والجنس والأفكار الدينية والروحانية... 2 3 الخاصية الثالثة في محكي الانتساب العائلي تتعلق بما يمكن تسميته ب « الهُوية الغائبة «، بحيث تتقدم الذات(الساردة) مجردةً من انتماءٍ مشهودٍ عليه إلى عائلة معينة: تنتمي فهدة إلى مجتمع ال « بدون»، إلى عائلة غير معترف بها، إلى عائلة من دون أصل أو هُوية. وابنها يبقى من دون اسم، لا اسم له، ولا هوية له، يبقى موزعًا بين عائلة أمِّه(عائلة ال « بدون «) وعائلة أبيه(عائلة أصيلة وغنية ولكنها لا تعترف بانتمائه إليها، ولا يهمُّها هذا الابن في شيء، ما يهمُّ هو مال أبيه الذي ينبغي أن يبقى في أيدي العائلة). ومن خلال فكرة « الهُوية الغائبة «، يقدّم محكي الانتساب العائلي تصورًا عن الإنسان باعتباره « طبقاتٍ من الهُويات المتتابعة» (5)، ومعنى هذا أن الهوية تتميز بالتعدد، وتتأسس في شكل طبقاتٍ من الحيوات السابقة: فهدة ابنة البدون، فهدة الطالبة الجامعية، فهدة الراقصة، فهدة زوجة ضاري، فهدة المتدينة المتشددة.../ ابن فهدة لا اسم له في الرواية/ ابن فهدة دمه مختلط من جهة الأم ودمه صافٍ من جهة الأب/ ابن فهدة هو ولد المعزب/ ابن فهدة هو خالي الرشوش/ ابن فهدة لعبة في أيدي خاله وعمه... ولنلاحظ ما تقوله فهدة عن أمها: « شخصيات وأقنعة تدخل فيها وتخرج منها بكل سلاسة وسهولة، من غير اصابات ولا ضرر. طبيعتها المرنة والمطواعة مكنتها من تمثيل الأدوار كلها، والتلبس فيها بالتطابق الكامل. وفي الكل كانت صادقة ومقنعة ومقتنعة بما تعمله وتصفه وتقوله، ومؤثرة تمام التأثير»(ص 147). وفي أكثر من مكان، تشير الرواية إلى هذا التعدد في هوية شخصياتها: لنلاحظ تعدد هويات العمّ جاسم، والتحول في هوية أبو الكلام، ولنقرأ ما يقوله ابن فهدة عن الخال مرداس ننه: « مرداس ننه ... موهوب بالفطرة وقادر على الدخول في كل الأدوار والأطوار. وفي كل دور منها هو مقنع جدا، صادق، وواثق.»(ص 156). في رواية « سلالم النهار « يحتلُّ البحث في الأصول العائلية ومساءلة الحكاية العائلية مكانة أولية، وبشكل يقدم أوجهًا مختلفة للذات، وينسج صورة صارخة عن هشاشة الهوية، وبطريقةٍ يتقدم بها الماضي العائلي كأنه حملٌ ثقيلٌ أو جرحٌ غائرٌ في الأعماق. لنسجل أن محكي الانتساب العائلي في « سلالم النهار « يكشف النقاب عن قلقٍ في الذاكرة، قلقٍ من الأصول العائلية الغريبة المقلقة. وهذه الغرابة المقلقة مصدرها أشياء عديدة، منها أساسًا أن فهدة تعود أصولها العائلية إلى مجتمع ال» بدون «، هل نقول بدون جنسية، بدون هوية، بدون اعتراف بالمواطنة، لنترك الراوية صاحبة الشأن تعبّر عن أصولها العائلية وعن الفوارق الاجتماعية في مجتمع طبقي منقسم إلى فئات وطبقات، لبعضها الحق في كل شيء، ولا حق لأخرى في أيّ شيء: « الأشياء التي تفرق بيننا وبينهم كثيرة. لعل أوقعها وأصعبها على الروح هو أنهم فيها مواطنون ومنتمون إليها. ونحن ليس لنا حق في مواطنتها، ولا الانتماء إليها ولا التمتع فيها.. نحن لسنا بوافدين.. ولسنا بمقيمين .. ولا جئنا باتفاقات وعقود .. نحن « بدون « بدون أيّ شيء يحمينا أو يغطينا أو يؤمننا .. نحن عراء منبوذ في بدون.»(ص 23 24). ولنلاحظ، ثانيًا، هذا الغياب الكبير للأب داخل المحكي، فالراوية فهدة لا تقول الشيء الكثير عن أبيها، ويبدو من كلماتها كأن الأب هو الغائب الأكبر من ذاكرتها، ولا يمكن لذلك إلا أن يكون مصدر قلق وغرابة: « لا أحفظ تفاصيل وجه أبي، ولا كثيرًا من ذكرياته». « غالبا البنات ليس لوجودهم أية أهمية على خريطة الوالد، الحظوة لو وجدت فهي من حظ الذكور فقط». « والدي لم يهتم بي ولم يعلم بدراستي الجامعية إلا بعد حصولي على شهادة التخرج». وفي محكي الابن، لا نجد كلامًا كثيرًا عن الأب، فقد ازداد الابن بعد موت أبيه، ويَتمُّ استحضار أعضاء آخرين من العائلة، كالأم والجدة والخال والعم، ولا نجد إلا إشارات قليلة عن الأب، وإن كانت لا تخلو من دلالة، من مثل كراهية الابن لأبيه. وفي المحكيين معًا(محكي فهدة ومحكي ابنها)، يمكن أن نفترض أن غيابَ الأب مستقرٌ في قلب الذاكرة وفي قلب المحكي العائلي. بل إن ماضي الأب وأصوله(خاصة أب فهدة) يكادان يؤلِّفان الفصلَ الفارغ أو شبه الفارغ في الذاكرة. ولاشك أن غياب الأب، وما يَحفرُه هذا الغياب في قلب النفس والذاكرة، هو الذي يجعل السارد الابن يمارس لعبة غريبة مقلقة حين يمزج بين الماضي والحاضر، ويقلب أدوار الزمن، مدعيًا أنه هو الأصل أما أبوه فهو الصورة لا الأصل(ص144). وانطلاقًا مما تقدم أعلاه، هل يحق لنا أن نربط بين الإبداع وغياب الأب والهوية المتعددة الهجينة؟ يمكن أن نسجل أولا أن الرواية نفسها تربط بين هذه « الهوية الغائبة المتعددة الهجينة « وبين الإبداع والفن، مدعية « أنَّ كلَّ مَن يعمل في الفن هنا هم من ذوي الدماء المهجنة ... الإبداع في هذا البلد لم يأت من ذوي الدماء الزرقاء أو الأصول الأصيلة، بل كلها الإبداعات جاءت وولدت من الدماء المختلطة «(ص155). وينبغي لنا أن نسجل ثانيًا أن الرواية عند فوزية شويش السالم( في الرواية موضوع الدراسة، أو في رواياتها السابقة: مزون، حجر على حجر، رجيم الكلام) تبدو كأنها عبارة عن جمع إشكاليٍّ يستخدم المرايا والعاكسات، ويعتمد التضعيفات التخييلية، ويستحضر محكيًا آخر داخل المحكي، ويجمع بين السرد والشعر، ويدمج الميتا تخييل داخل التخييل، ويخلق زواجًا خلاقًا بين عناصر متنافرة: أوتوبيوغرافية وبيوغرافية حقيقية وعناصر روائية تخييلية وشعرية رمزية، ويُعَدِّد أصواتَ السرد وزوايا النظر... وبعبارة أخرى، فالنص الذي تكتبه فوزية الشويش هو نصٌّ يجمع بين عناصر متنافرة، ويعمل من أجل أن تنصهر وتذوب في بعضها البعض، ويتحول بذلك إلى نصٍّ هجينٍ، يرفض الارتباط بالقيمة التي كانت ل» طهارة « الجنس وصفائه ونقائه، فهُوية النص الروائي، مثل هُوية الكائن الإنساني، لا يمكن أن تكون إلا هجينةً مركبةً متعددة، ذلك أنَّ اللاتجانسية أي التعايش هو ما يشكّل الواقع، واقع الإنسان كما واقع الكتابة. 3 محكي من داخل الأَلَم: ويبقى أن نسجل، في النهاية، أنَّ أهمية محكي الانتساب العائلي تعود، في افتراضنا، إلى خاصيتين رئيستين: أنه يشكل نوعًا أدبيا جديدًا في الأدب الإنساني، وأنه نوعٌ مثمرٌ لأنه يشكِّل نوعًا من التفكير المعمَّق في الحاضر والماضي، في العصر والذاكرة، وأنه محكيٌّ يتأسس على كلام يبدو أنه نابعٌ من داخل الوجع والألم، يريد أن يؤلِّفَ مشروعَ استعادةٍ وتركيبٍ للماضي، ومشروعَ تفكيرٍ في المستقبل والمصير. n هوامش: 5- Laurent Demanze, Encres orphelins, Josi Corti, Paris, 2008.