في نصوص باقا، تبدو العلاقة بين البنت والأم علاقة إشكالية، فهناك صعوبة في التواصل، وهناك مشكلة في العلاقة بالجسد الأمومي، والأم الأصلية لم تكن ابنتها موضوع حبها، ولم تكن تؤدي وظيفتها باعتبارها أمًّا، كأنها لا تريد أن تضحي بنفسها كامرأة وأن تتحول إلى أم، وهذا ما قد يكون سبب حرمان البنت من حبِّ الأم، وكرَّس غيابًا كبيرًا للأم في حياة الراوية / الشخصية؛ لكن قصص باقا وإن كانت تستبعد أمَّ الراوية، فهي لا تستبعد الأمومة، بل إنها في أكثر من قصة نجدها، كما تقول فرجينيا وولف في نصها " الغرفة الخاصة "، تفكر من خلال الأمّ، وهذا ما يسمح بالسؤال: ألا تشير نصوص باقا إلى أن الغائب الأكبر في عوالمنا العائلية المعاصرة هو تلك المرأة التي تكون أمًّا أكثر مما تكون امرأة، وأن الأكثر حضورًا اليوم هو الأم التي تريد أن تبقى امرأة أكثر من أن تتحول إلى أمّ؟... 1 قد يبدو حضور فرجينيا وولف ثانويا عند لطيفة باقا، فهي ليست شخصية من شخصيات قصصها، وهذه العبارة التي تؤلف عنوان المجموعة: غرفة فرجينيا وولف(1) وهو عنوان إحدى قصصها أيضًا لا تعني بالضرورة أن العمل مُكرَّس لهذه الكاتبة الانجليزية، فالأمر لا يتعلق باشتغال ببيوغرافية كاتب/ة سابق/ة كما هو الحال في بعض الأعمال السردية التي صدرت مؤخرًا بالمغرب، وقد لا يكون استحضار (اسم) هذه الكاتبة الأجنبية إلا مجرد جزئية من دون قيمة أو حيلة فنية في أحسن الأحوال؛ لكننا نفترض أن هناك رغبة في إعادة الارتباط بهذه الكاتبة الانجليزية المعروفة والمُعْتَرَفِ بقيمتها التي عاشت في زمن سابق، وكأن الأمر يتعلق بالرغبة في الانتساب إلى أدب هذه الكاتبة بالضبط، إذ يبدو أن قصص لطيفة باقا، وهي تتأمل ذاتها في المرآة، تقوم بإعادة الحياة إلى أدبٍ سابقٍ، أدب فرجينيا وولف. ظاهريًا، قد يبدو العنوان كأنه لا يتعلق إلا بمطلب نسوي طالبت به هذه الكاتبة في محاضرة ألقتها سنة 1928 بجامعة كامبردج، ونشرت في شكل نص سنة 1929 تحت عنوان: A room of one?s own، وفكرتها الرئيسة، وهي تتحدث عن مكانة المؤلِّف من الجنس النسوي في تاريخ الأدب، أن على المرأة أن تكون رهن إشارتها غرفةٌ خاصة إذا أرادت إنتاج عمل روائي، ولا يمكن أن تنتزع الاعتراف بها كاتبةً إلا انطلاقا من اللحظة التي تملك فيها غرفة خاصة بها. وهكذا، فالأمر يتعلق أولا بمطلب نسوي لا بالكاتبة نفسها، وإن كانت أول من دافع عن الفكرة؛ وهذا المطلب النسوي هو الذي تعبِّر عنه القصة القصيرة التي تحمل عنوان المجموعة، فالراوية تقول: " سأكون في هذه اللحظة قد حققت بالتأكيد ولو متأخرة مطلبا صغيرًا انشغلت عنه من فرط ذوباني في حياة أبنائي وزوجي والآخرين، ذلك المطلب الذي يلتقي ربما بمطلب فيرجينيا وولف الشهير في امتلاك غرفة خاصة"(ص51). وقد يبدو هذا العنوان / المطلب كأنه يؤشر على الرغبة في الانتساب إلى الحركة النسوية التي تعتبر فرجينيا وولف أحد رموزها الكبار، وأن المؤلفة قد اختارت عنوان هذه القصة عنوانا للمجموعة للتعبير، ربما، عن الانتساب ذاته. ومع ذلك، فإن الأمر لا يتعلق بالانتساب إلى الحركة النسوية فقط، وربما ليس هذا هو الانتساب الذي يهم المؤلفة كثيرًا، بل إن ما يشغلها أكثر هو، في افتراضي، ما يسميه دومينيك فيار بالانتساب الأدبي(2)، أي أن تنتسب المؤلفة إلى سلالة ما من سلالات أهل الأدب والكتابة، وأن هذا الانتساب الأدبي يقوم، ربما، بَدَلَ الانتساب العائلي، أو أنه، على الأقل، انتساب يقتضي اتخاذ مسافة من العائلة وفضاءاتها المشتركة، فغرفة فرجينيا وولف يمكن أن نعتبرها تكنية على الفضاء الحميمي الخاص الذي يسمح بعزلة الفرد عن هذه الفضاءات العائلية المشتركة، فمن دون هذه العزلة العائلية لا يمكن للكتابة أن تتحقق، على الأقل كما دشنتها فرجينيا وولف، منفتحةً على تيارات الذات وشلالاتها الداخلية، منخرطةً في حوار داخلي مع العالم الخارجي، مع الآخرين، متورطةً في هذه المنطقة البينية المعقدة التي يتلاقى فيها الخارج والداخل، الحدث والاستبطان، اليومي والنفسي، الإحساس والتذكر ... فهل نقول إن نصَّ فرجينيا وولف هو النص القبلي Avant-texte الذي تعود إليه قصص لطيفة باقا من خلال محكيِّ انتسابٍ يعيد استثماره مؤسِّسًا لنفسه متخيلَ تناصٍ خاصٍّ به؟ 2 وهذا السؤال يقودنا إلى التساؤل عن ما نسميه ب " الانتساب النصي ": إلى أي حد يمكن للقارئ أن يلمسَ تعالقًا أو تشابهًا نصيًا بين نصِّ الكاتبة الانجليزية وقصص لطيفة باقا؟ * لنلاحظ أولا كيف أن فرجينيا وولف لا تستقبلنا على عتبة المؤلَّف فحسب، بل إنها تستقبلنا على عتبة كل قصة من قصص المجموعة، وكأنه لا يمكن أن ندخل إلى غرفة الراوية / المؤلِّفة إلا بعد أن نمرَّ من غرفة فرجينيا وولف، وكأنما هذه مرآة تلك، وكأنما فرجينيا وولف هي الاستعارة الكبرى التي تؤطر هذا المؤلَّف القصصي في مجموعه. وهي تستقبلنا بمقتبسات من نصوص، من محكيات أغلبها بضمير المتكلم، بشكل يسمح لنا بأن نتحدث في هذه المجموعة عن مقتبسات تشكل محكيا مستقلا بذاته يقع في مقابل قصص محكية بضمير المتكلم تشكل في مجموعها محكيا مستقلا بذاته، وكأنما لا يمكن أن ندخل إلى المحكي الأساس إلا بعد أن نَعْبُرَ هذا المحكي المصاحب؛ ويبدو كأن هذا الأخير ليس نصا مصاحبا ثانويا، بل يبدو كأنه النص الأشد تكثيفا واختزالا للمحكي الأساس نفسه، أو كأنه الإطار الذي إليه يعود الفضل في ميلاد هذا النص الجديد، كأنه المصدر الأصل الذي إليه يريد النص الجديد أن ينتمي وينتسب. * ويمكننا أن نتساءل، ثانيا، إلى أيِّ حد يمكن أن نتحدث عن نوع من الانتساب الموضوعاتي، فالعديد من الموضوعات المفضلة في نصوص فرجينيا وولف تعلن عن حضورها في قصص لطيفة باقا( الغربة، الوحدة، العزلة، الاكتئاب، الانقسام، التشظي، الجنون، الانتحار، الموت...)، وفي أكثر من قصة نلمس هذه الرغبة في أن تقول الذات عزلتها وانعزالها، وأن تنقل هذا الطابع المتشظي المتفكك للعالم وللكينونة؟ * وليكن سؤالنا الثالث عن التشابه في الخطاطة التي يسلكها الكلام داخل الكتابة: هناك هذا الإيقاع الخاص الذي تؤلفه الذكريات والتكرارات والاسترجاعات والاستطرادات، هناك هذا الذهاب والإياب بين الحاضر والماضي، بين الداخل والخارج، بين الأنا والآخرين، بين الذاكرة والإدراك...؛ هناك هذا النشاط الذي يأخذ خيط الكلام، فيتجاوزه، ثم يستعيده، من دون أن يقطعه أبدًا، من دون أن يضع له نهاية أحيانا( أستحضر قصة: تفاحة آدم)، بنوع من الحياكة Tricotage التي تضجر من الحبكات التقليدية( أستحضر قصة: واحد إثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة) ، فقد تكون القصة في مجموعها نقلا لهذه الذرات المنفصلة التي تتساقط على الوعي والشعور؛ ومن خلال الأحلام وأحلام اليقظة والمحكيات النفسية والمونولوجات التذكرية، يبدو كأن كلَّ ما تغامرُ الكتابة من أجله هي أسرارُ الحميمية، هي تلك الصور المُضمَرة في الذاكرة، تلك العلامات المشرقة في المَتْحَف المُتَخَيَّل.. وإجمالا، يمكن أن نلمس في قصص باقا العديد من التشابهات المتعلقة بالموضوعات، أو بصيغة السرد، أو ببنية النص ولغته، أو بغير ذلك مما يوضح هذا الانتساب إلى نصِّ فرجينيا وولف، لكن يبقى السؤال: ماذا يعني هذا الانتساب الأدبي الذي ترغب فيه الكاتبة المؤلِّفة؟ وما علاقة هذا الانتساب الأدبي بالانتساب العائلي الذي تُعَبِّر عنه القصص على مستوى الحكاية؟ وهل هناك من علاقة بين الإثنين في هذه القصص: الانتساب الأدبي( على مستوى الكتابة) والانتساب العائلي( على مستوى الحكاية) ؟ 3 سجلت مجموعة من الملاحظات والافتراضات والأسئلة التي قد تضيء جوانب من قصص باقا، وتمنح هذه الأسئلة مصداقيتها ومشروعيتها: * ألاحظ أن هذه القصص هي في مجموعها محكية بضمير المتكلم( بينها العديد من الصلات ذات الطابع السردي والموضوعاتي، وكأنها تشكل نصا واحدًا؟)، وتندرج في إطار ما أسميه في دراسات أخرى بالتخييل الأوتوبيوغرافي ، ونعني بذلك أننا أمام محكيات استرجاعية استذكارية تركز على الحياة الفردية للراوية، فالأنا هنا لا تحيل إلا على هوية الراوية في عمل إبداعي تخييلي(3) . * أفترض أن قصص لطيفة باقا من النصوص التي أعادت الاعتبار للحكاية؛ ومن خلال إعادة الاعتبار للحكاية، أعادت الاعتبار لعنصرين أساسين: الذات والعائلة، ساعية إلى مقاربة هذه الروابط والتداخلات والتوترات القائمة بين العالم الداخلي للذات وبين العالم العائلي الذي تنتمي إليه؛ * أن التخييل الأوتوبيوغرافي في هذه القصص يفسح المجال أمام قلقٍ أو انشغالٍ يمارس الحفر في الماضي من أجل أن ينصت إلى كل تلك البقايا الحية التي تكشف النقاب عن جزءٍ لامرئي، عن غرفةٍ سريةٍ، في دواخل الذات؛ وكأن الكتابة، بعيدًا عن هذا الزمن الحاضر الغريب والمقلق، تستمع إلى لحظات من الزمن الماضي بحثًا عن آثارٍ ماضٍ يكاد يختفي ويندثر؛ وليس من دون دلالة أن تُفتتح المجموعة بمحكي لا تواجه فيه الذات حاضرها الموحش والبارد إلا بما تبقى من ذكريات / علامات تكاد وحدها تختزل المعنى كله، معنى الكينونة والوجود : بيت العمة، الغرفة المجاورة، الحلزون اللذيذ... * أن التخييل الأوتوبيوغرافي هو علامة على ما يسميه فيليب لوجون(4) ب " الاضطراب الذي يصيب الوظيفة الأبويةFonction parentale( المقصود وظيفة الأبوين)؛ وبالنظر إلى قصص باقا، ففي ما يتعلق بالأمِّ، نلمس، في أماكن مختلفة من مجموعتها، أن العلاقة بالأم الأصلية لم تكن أبدًا، ومنذ الطفولة، على ما يرام، فهي علاقة توتر وانفصال لا مكان فيها للحب كما يبدو من هذه العبارات: - " في الهاتف جاء صوت أمي ضعيفا كالعادة قبل أن يتماسك ويصبح عاديا أي يصبح صوتها الجهوري النافذ الذي كان يرعبني في طفولتي. كنت قد أصبحت أتعود على هذه " الدخلة " الباردة لمكالماتنا القليلة والمتباعدة والتي تقول لي الكثير ابتداء من عتابها على قلة اتصالي وانتهاء بمرضها الغامض الذي يأخذ كل يوم اسما جديدا، وبحاجتها المستعجلة لزيارة الطبيب..."(ص20)؛ - هذه المرأة التي أنجبتني وكانت تنسى أن تقبلني وأنا أخرج للمدرسة وقد عقصت شعري الأجعد بالأستيك الأبيض المؤلم "(ص21)؛ - " هي لا تحبني وأنا أيضا .. لايهمني حبها "(ص21) في نصوص باقا، تبدو العلاقة بين البنت والأم علاقة إشكالية، فهناك صعوبة في التواصل، وهناك مشكلة في العلاقة بالجسد الأمومي، والأم الأصلية لم تكن ابنتها موضوع حبها، ولم تكن تؤدي وظيفتها باعتبارها أمًّا، كأنها لا تريد أن تضحي بنفسها كامرأة وأن تتحول إلى أم، وهذا ما قد يكون سبب حرمان البنت من حبِّ الأم، وكرَّس غيابًا كبيرًا للأم في حياة الراوية / الشخصية؛ لكن قصص باقا وإن كانت تستبعد أمَّ الراوية، فهي لا تستبعد الأمومة، بل إنها في أكثر من قصة نجدها، كما تقول فرجينيا وولف في نصها " الغرفة الخاصة "، تفكر من خلال الأمّ، وهذا ما يسمح بالسؤال: ألا تشير نصوص باقا إلى أن الغائب الأكبر في عوالمنا العائلية المعاصرة هو تلك المرأة التي تكون أمًّا أكثر مما تكون امرأة، وأن الأكثر حضورًا اليوم هو الأم التي تريد أن تبقى امرأة أكثر من أن تتحول إلى أمّ؟... وأما في ما يتعلق بالأب، يمكن أن أفترض بأن نصوص باقا تنطلق من مقاربة جديدة بخصوص التشييد الأدبي النسائي للأب، فهو لا يمثل دوما تلك القوة القامعة المدمرة الشمولية الحضور، بل إنه يمثل في أكثر من قصة ذلك الشيء المفقود، ويبقى هو ذلك الآخر موضوع الحب الذي وإن مات ورحل، فإنه يظلُّ حاضرًا في الذاكرة، حيًّا في النفس، يتكرر حضوره في الأحلام، وفي أبهى صوره: " كان يقبض على يدي بيده الدافئة الرطبة، التي كانت تكفي فيما مضى لأشعر بالأمان .. ويسحبني من خلفه، أما الخاصية الثانية والأساسية في هذا الحلم فكانت أن أبي هذه المرة وعلى غير عادته في أحلامي التي لا تخلو منه، كان شابا أقصد كان أبي في شكله لأيام طفولتي الأولى: وسيما وأنيقا ويبتسم ابتسامته السخية التي تستطيع أن تفرحني بسرعة قياسية، لم يكن مريضا وشاحبا كعهدي به في أيامه الأخيرة قبل أن يغادر دار الفناء ويلتحق بدار البقاء.."( ص19).... لكن صورة الأب في مجموع القصص لا تأتي منظمة ومتماسكة، فالراوية / البنت طفلةً وامرأةً تستخدم كل شيء من أجل أن تتجنب تثبيت صورة واحدة موحدة عن الأب، ولنلاحظ ما انتهت إليه القصة الأخيرة من المجموعة، وهي عبارة عن حلم، وعنوانها آيس كريم : تتحول ابنة أبيها إلى زوجة أم( من دون زوج؟)، ويتحول أبوها إلى طفلٍ لها، والآيس كريم موضوع الرغبة الاستعاري الذي لم يكن يقبل الأب أن يشتريه لابنته، تشتريه الابنة/ الأم لأبيها الذي تحول طفلا؟ * أن التخييل الأوتوبيوغرافي يبدو كأنه النوع الأدبي الذي يمكن أن نصفه، على حد تعبير لوران دومانز(5)، بالنوع اليتيم، ذلك لأنه يأتي صدًى لهذه العزلة العائلية للذات( أبٌ ميت وأم غائبة)، فتبدو محكيات الراوية العائلية كأنها محكيات يُتْمٍ متولدة من هذا الحدث العظيم: أن يموت الأب ويرحل، وأن تتوقف تلك الطفولة الطويلة التي كانت تبدو كأنها لن تتوقف أبدًا؛ وكأن هذه البنت التي تعيش الحداد بعد رحيل أبيها لا تجد من سلوان إلا في أن يبقى هو حاضرًا في أحلامها وأحلام يقظتها وحكاياتها العائلية، وأن تبقى هي منغلقة على نفسها داخل محطة الطفلة التي لا تريد أن تنمو وتنضج، تريد أن تتقدم باعتبارها الطفلة التي شاخت، أو كأنها تريد أن تقول بلسان روسو في اعترافاته: Je suis un vieil enfant ... الطفلة التي شاخت، لكنها لا تزال تحتفظ بانفعالات الطفولة في غرفة سرية حميمية من الرموز والاستعارات( الغرفة المجاورة، حلزون العمة اللذيذ، آيس كريم..)، بحيث تبدو نصوص باقا كأنها تعود بنا إلى طفولة اللغة؛ * أن التخييل الأوتوبيوغرافي في قصص لطيفة باقا لا يتولد إلا من داخل " رواية عائلية " بالمعنى الفرويدي( الرواية بمعنى الحكاية عند فرويد)؛ ويبدو كأنما الذات الراوية ترمي، من خلال سرد هو في أغلبه تذكري استرجاعي، إما إلى إعادة بناء " عائلة / رواية عائلية "، وإما إلى ابتكار انتساب عائلي جديد. ففي أكثر من قصة، نجد ما يسمح بأن نصف العائلة بما يسمى في التحليل النفسي ب: الغرابة المقلقة، فالأب قد يكون من دون أصل مقطوع من شجرة، والأم قد تكون من عائلة الشواذ والعاهرات، كما في هذين النموذجين: - " خالتي أم دنيا وزوجها أبو دنيا، كانا " ناسْ" بالفعل، لكنهما كانا منفصلين منذ زمن طويل، وبسبب الفقر والتفكك العائلي لم يكترث أي منهما بمصير المخلوقات التي كانا سببا في مجيئها إلى هذا العالم، فكانت الحصيلة كالتالي: البنت الكبرى اشتغلت عاهرة بشهرة تجويف إضافي في المؤخرة، الابن الأكبر تخرج من شعبة الاسلاميات لبيع الزريعة وكاوكاو على عربة يدوية صغيرة أمام باب مدرسة ابتدائية، ميزته الأساسية إدمانه على القنب الهندي وشعوره بالخزي. تليه دنيا شيوعية بشعر أحمر وكوفية حول عنقها، كانت تحلم بأن تصبح ممثلة مسرحية لكنها ستتزوج قبل الأوان وتنتهي في مستشفى الأمراض العقلية. الابن ما قبل الأخير خريج سجون بسبب عراكه الدائم مع شباب الحي كلما أثير الحديث عن أخته فاطمة التي كانوا يلقبونها أمامه بسناء. أصغر الأبناء جمع كل مواهب أخواته وإخوانه، فهو عاطل، يتعاطى المخدرات والسكر العلني والسري، لا يؤمن بوجود خالق لهذا الكون السخيف، ومثل أخته صاحبة التجويف كان يمارس الدعارة مع الصيادة." (ص 66 67) - " ...الله يَخليها عائلة " كان يقول أبي المقطوع من شجرة (عن عائلة دنيا) لأمي التي لم تكن تستطيع الرد عليه، فهو وإن كان بلا عائلة، فهذا لم يكن مصدر عار بالنسبة له ... أن تكون بلا عائلة أهون بكثير من أن تكون لك عائلة من العاهرات والشواذ.."(ص67). تتقدم العائلة بنية رهيبة تنتج الشذوذ والعنف والجنون، والتفكك والإحساس بالإهمال والوحدة والكآبة من علامات غرابتها المقلقة، هذه الغرابة المقلقة في عوالمنا العائلية التي يبدو أنها أسٌّ للكتابة عند لطيفة باقا؛ * أن التخييل الأوتوبيوغرافي يصور الآباء في صورهم الشديدة الواقعية المخيبة للآمال، ويضعنا أمام محكي راوية يتيمة تصطدم برحيل الأب وغياب الأم، وينسج رواية عائلية غريبة ومقلقة، لكنه التخييل الذي يسمح بإعادة تشييد أو خلق روايات عائلية جديدة ومغايرة، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الأم الأصلية مستبعدة من دون استبعاد للأمومة، وأن الأب يبقى حاضرًا في صورة طفل، فإن السؤال الذي يبقى حاضرًا هو: ما هو الوجه العائلي الذي تمثله فرجينيا وولف في هذه الرواية العائلية البديلة؟ أهي التي تحل محلَّ الأم الأصلية وتعبِّر رمزيا عن غيابها الكبير أم أن الراوية من خلال وجه فرجينيا وولف تمارس بحثًا معمَّقًا عن الأم، عن الأمومة، أم أن فرجينيا وولف لا ترمز إلا إلى هذا الفضاء الحميمي الذي يسمح للطفلة بأن تلتقي، بعيدًا عن الأم، بالأب، موضوع حبها، ومن هنا التركيز على: غرفة فرجينيا وولف؟ قد نفترض أننا أمام " رواية عائلية "، بالمعنى الفرويدي، تشكو في العمق من نقصٍ في الكينونة ( رحيل الأب وغياب الأم )، وهي لذلك تبدو بكماء غير قابلة للاختزال، ولا يمكنها التعبير إلا من خلال وجوه التشبيه والترميز والاستعارة، إلا بالعودة إلى وجهٍ أدبي نسائي من زمن سابق، ففي هذه وفي ذلك ما قد يساعد على ردم فراغ كبير في هوية الذات ونَسَبِها. لكن يبقى السؤال: عندما يعترف نصٌّ جديدٌ، صراحةً أو ضمنًا، أنه ينتمي إلى نسبٍ أدبيٍّ محددٍ، ألا يعني ذلك الاعتراف بأن ذلك النسبَ هو الأصل، هو المصدر، وأن النصوص الجديدة هي الفرع، هي وريثة ذلك الأصل، هي ابنة تلك الأم: فرجينيا وولف؟ هوامش: 1 لطيفة باقا: غرفة فرجينيا وولف، دار توبقال للنشر، سلسلة: نصوص أدبية،2014. 2- Dominique Viart : Filiations littéraires, in : écritures contemporaines2, lettres modernes minard, Paris ? Caen, 1999. 3- Philippe Gasparini, Est ? il je ?, Seuil, Paris, 2004, p20. هذا من أحدث الكتب التي تناولت مسألة الفصل بين الراوي والكاتب بوضوح وعمق كبيرين. 4- PH. Lejeune, Le pacte autobiographique, ed. Seuil, Paris, 1975,p101. 5- Laurent Demanze, Encres orphelins, Librairie José Corti, p43.