لطيفة باقا من الأصْوات المتميّزة في القصة المغربية. تكتب لطيفة باقا قصة ممتعة، تعتمد على الحكاية، وتخترق قصصها أصوات ودلالات مرافقة، تدرج القصة في سياق تلقٍّ لا ينحصر في التمتع بالقصة أو بالفكرة القصصية، بلْ ينفتح على مجال أوسع بتأطير النّص بما هو فكريّ وثقافيّ عام. إلى جانب البناء المحكم للقصة، ثمة موضاعات أثيرة عند لطيفة، وعلى رأسها: المرأة والطفل والظواهر الاجتماعية. ولكن سارد لطيفة يحب أن يحكي عن المرأة عن وضعها السلبي في المجتمع، إخفاقاتها، أحلامها، يحكي عن الطفل، عن العامل، عن التلميذ... عن شخصيات الهامش، يفعل السارد هذا ناقدا ومتعاطفا وهو ما يجعل القارئ يصطف إلى جانب السارد فيتعاطف بدوره مع هذه النظرة. أصوات الكتابة ثمة أصوات تخترق كتابة لطيفة القصصية، هذه الأصوات توجد في الخلْفية وتشبه منظور الكاتب لموضوع القصة. تتجلى نظرة لطيفة للكتابة في هذه الأصوات، أصوات تمتزج أحيانا بوصف السارد، أو بتعاليق الشخصيات... ومن هذه الأصوات: أ - صوْت اجتماعيّ: في كثير من نصوص لطيفة باقا، ثمة صوت ثاوٍ في الخلفية، صوت احتجاج اجتماعي، صوت يعرّي أحيانا، وقد يصل إلى درجة التحليل... هذا الصوت قد يرد بين قوْسين.. ورغم قوْسيّته قد يكون من المحركات الأساسية للكتابة. من أمثلة هذا الصوت قول السارد في قصة »»الغرفة المجاورة«:، ص 10: «»كانت في نهاية الأمر مومسا طيّبة من مومسات مغرب السبعينيات الأصيلات اللواتي لا يشبهن في شيء مومسات هذا الزمن»«. ولاحظ القيم المتعاطفة التي يسبغها السارد على موضوعه (طيبة، أصيلات)، وهي من قيم هذا الصوت. ب - صوت الطفولة: تعج قصص لطيفة باقا بذكريات الطفولة، وهي ذكريات يقدمها صوت طفولي نوستالجي إلى حد بعيد، إنه صوت طفل كبير كأنه يتلذذ بالماضي الجميل. الطفولة هنا عودة إلى الماضي. إنه أيضا صوت الأفكار التي مضتْ ولم تتحقّق.. صوت الطفولة يلعب في أحيان أخرى دور مغْربة موضوعات السرد: الفران، السوق، المدرسة، بائع الحلوى.. الخ. صوْت الطفولة يتجلى حتى في بعض الكلمات الطفلية، مثل «البوقالات». ت - صوت مغرب الفقراء ومن لا ينتبه إليهم (قد يكون صوت الانتماء) هيْمنة ضمير المتكلم نصوص مجموعة »»غرفة فرجينيا وولف»كلّها بضمير المتكلم. وهذه ملاحظة أساسية. ضمير المتكلم لا يتيح الوصف والحكي البارديْن، إنه يدعو إلى الانخراط، إنه يتيح التداخلات بسهولة، ويتيح أيضا الدخول والخروج من الحكاية. إنّه يورّط أيضا الكاتب في كتابته. السارد بضمير المتكلم يتماهى مع شخصية مؤنث، وهو ما يعزّز الربط بين الكتابة والحكي، وعدم وجود قطيعة بينهما. السارد يدخل الحكاية ويروي ما يقع للشخصيات وينقل بعين المشارك ما يقع من أحداث.. ولكنه يخرج فجأة إلى عالم الكتابة، إلى اللغة، إلى التحليل، إلى موازي النص. مثلا، ص 30 : «لقد كنت مكتئبة (أنا عموما لا أحب كلمة «لقد» هذه، لا تنتمي إلى عالم الحكاية، وإنما إلى عالم الكتابة».. الساردُ خرج من عالم الحكاية ودخلَ عالم الكتابة، ثم سرعان ما يعود أدراجه إلى الحكاية. هذا الدخول والخروج يقطع الخيْط الدرامي للحكي (الخيط الحكاية)، أو إنه ينقل الدرامية من الأحداث المحكية إلى العلاقة بين الحكْي والكتابة، أيْ إلى ذلك التوتر بين ما يكتب الكاتب (الحكي)) ونظرته إلى ما يكتبه ((الكتابة)). هذا الدخول يعبّر عنه العنوان و«الاستهلالات» المقتطفة من فيرجينيا وولف، والتي تسبق كلّ نص. ففرجينيا وولْف، رمز الكتابة، رمز نوع معيّن من الكتابة، يتخذ إطارا لما يكتب. طيف فرجينيا وولف يخيّم على النصوص، وبالتالي لابدّ للقارئ أنْ يبحثَ عن التلاقي وعن العلاقة. ولكن، ثمة نص يخلو من هذا الدخول والخروج، إنه نص «رائحة القسوة»: ربما شلّت القسوة السارد فجعلته لا يبرح مكانه.. في هذه القصة (وبدرجة أقل في قصة «غرفة فرجينيا وولف») يقع التماهي بين الحكي والكتابة.. هنا، الكتابةُ تُفعل ولا تُرى، لا أثر لها.. ما يشبه الحلم لطيفة تكتب غالبا في إطار ما يشبه الحلم.. إطار غير واضح.. تكتب من موقع بينيّ، ضبابيّ، مبهم.. انظر، مثلا، قصة «آيس كريم»، كأنّ السارد يحلم: »»لم يكن الزمن واضحا»«. وانظر قصة «غرفة فرجينيا وولف» : «أراني..». هذا الموقع غير المحدد يجعل السارد يستدعي أزمنة أخرى، زمن الطفولة، زمن ما يمكن أنْ يكون وقع، زمن ما يُرجى... الميتاقصة الميتاقصة هي أن تكون القصة موضع نفسها، أو أن يتحدث السارد عن فعل الكتابة فيما يكتب. في كثير من الأحيان يخرج سارد لطيفة إلى الميتاقصّة، ويكون الغرض التعبير عن قيمة من القيم: «كنت أخشى أن يسطر «وورْدْ» على شاشة حاسوبي عبارة «يحتسون النبيذ» هذه بحجة أنها غير صحيحة لغويّا أو أدبيا أو جيوسياسيا... لكنه طلع و لد الناس هذه المرة(ص33). الخروج إلى التعليق اللغوي المحشوّ بالرأي والتحليل والقيمة.. «قرأت عبارة «مكتنزة» لأول مرة في روايات إحسان عبد القدوس، ذلك الروائي الذي كان يملأ صفحات رواياته بنقط الحذف كلما اعترضت طريق حكيه لقطة جنسيّة» (ص33). الكاتب يتحدث عن معرفته ويحشوها بقيم: إنه يُضمّن معرفته عدم رضاه على طريقة إحسان عبد القدوس في مراوغة الحديث عن الجنس (تصنيف إحسان عبد القدوس). القراءة الأولى لنص «تفاحة آدم» أرسلت إليّ الأستاذة لطيفة إحدى قصص مجموعة «غرفة فرجينيا وولف»، وهي قصة »»تفاحة آدم».« قرأت القصة وأجبت: »»أعجبت كثيرا بهذا النوع من الكتابة.. كتابة فيها صوت معبر.. كتابة ساخنة، كتابة موقف.. كتابة ضمير المتكلم القوية والمباشرة.. وموضوع الرجل، والمجتمع، والمحرم، من منظور مريضة نفسيا.. القارئ يتقمص عين الساردة.. عين المريضة هي العين السوية.. والأسوياء مرضى...». وما أثارني فعلا هو ذلك المزج بين جسد الحكاية والخطاب الميتاقصصي.. غالبا ما يحذر القارئ من الميتاقصة لأنها تفسد الحكي في كثير من الأحيان، أو توقف انسيابه وتضطر القارئ إلى الخروج من »»النص»«، كما أنها تحمل معها نوعا من التعالي السردي والمعرفة الخارجية.. ولكنّني لاحظت أن الميتاقصة في نص «»تفاحة آدم»« منسوجة مع الحكاية.. هي جزء من الحكاية.. وهذا ما عدّد طبقات السرد ومنظوراته، و جعل الساردة ساردات. وهو ما أنتج معاني متعدّدة.. فالخطاب الميتاقصصي جعل القصة تدور حول الكتابة... الكتابة التي تحتاج إلى عين مثل عين هذه الساردة التي تلتقط الحياة في صورها الشفافة، وليس عبر غربال المفاهيم المعيارية المعلبة للإنسان ولرؤيته. عنوان النص أيضا ناجح، يوجه القراءة نحن الموضوع الأبرز في النص.. «تفاحة آدم». وهذه العبارة تختزل الكثير من الأشياء، فمثلما هي عنوان للنص، هي عنوان لمجموعة من مظاهر المجتمع. لديّ تعليق بسيط حول عبارة «ما يسمى بالقصة القصيرة» التي وردت في نهاية النص. هذه العبارة وكأنّها جاءت لتدوير النص، أو لإقفاله.. عبارة مبنية على معرفة معيّنة بما تكتبين.. وكأن العبارة تتضمن موقفا تقييميّا لما تكتبين، وما يكثّف هذا الإحساس عبارةُ: «ما يسمى».. أحبّ السارد الفقير في المعرفة الكتابية، الغنيّ في معرفة شخوصه وأحداثها وسياق الحكي وتفاصيل الأوضاع التي تصفها القصة... وإضافة إلى هذا، أحب الانفتاح والحيرة والضياع (هذا ذوق خاص طبعا). شكرا على منحي متعة قراءة هذا النص. فيه لطيفة التي أعرف كتابتها وأقدّرها، وفيه نظرة وتعبير جديدان. مزيدا من العطاء في هذا النوع الأدبيّ الذي نحبه».