من أروع دروس المستقبل أنه يحتاج أحيانا كثيرة إلى نظارات تنظر إلى الماضي. المستقبل لا يزحف، ولا ينمو بلا جذور. وحتى ونحن نفكر في أنه بلا جذور يعود، في خفة تاريخية لا تحتمل من طرف الثقلاء، إلى ذاكرته. يحدث هذا اليوم، عندما نسمع الحديث عن أمغالا، بلا مسببات سياسية. يعود هذا اليوم عندما نرى أن السياسة هي ترخيص بالمستقبل من طرف الماضي. عندما سمعت أمغالا عادت إلى ذهني ثلاثة أحداث.. أولها أمغالا (1) وأمغالا (2)، وعدت إلى شريط الأحداث وشريط الهجوم، لا لأننا نسيناه، بل لأنه كان بحيرة للمستقبل وبحيرة لإمكانية وجود المغرب. مصدر الماضي هو الخوف من المستقبل، لهذا نعود خفيفين إليه كما تعود الطيور إلى جدول صغير، وتعود أسراب النحل إلى عتمتها الحلوة. واليوم عادت بي الذاكرة، إلى محطة ثالثة، عادية شبه مستحيلة في نفس الوقت. عدت إلى حديث مع سيدي حمو عبد العظيم نشرته «النشرة»، وكان قد أجراه الزميل أحمد ويحمان عند أقدام الأطلس الكبير، وعلى مشارف تدغة.. نحن هنا في زمن منفلت من التوثيق الرسمي، وسيدي حمو عبد العظيم، رحمه الله، يتحدث بسليقة المناضل العائد من المنفى، ومن جحيم الإعدامات والتشريد. كنا أول من يسمع ماذا جرى في أمغالا، قبل أمغالا. كنا لا نعرف بالضبط أين توجد أمغالا، كما لا يعرف الشهيد الأغوار التي يموت فيها. ولكن اسمها جاء على لسانه كوصفة سحرية من مختبر تشي غيفارا. حدثنا السي عبد العظيم رحمه الله، وقال كانت الجزائر قد جاءت بالجنرال جياب الفيتنامي إلى مشارف الحدود. واختار لها مدخل أمغالا لكي تتسرب إلى الصحراء عبر جنودها وعبر مستخلصيها. الجنرال فو نغيويين، الذي اشتهر باسم جياب رجل عسكري أحبه أعداؤه كما يحبون سوامينهم من العذاب. عاش حرب الهند الصينية، التي يتعثر فيها لسان أهالينا ويسمونها لاندوشين، وحرب الفيتنام. كان الجنرال الوحيد، تقول سيرته، الذي هزم الجيشين الفرنسي والأمريكي في حياته، وارتبط اسمه باسم ديان بيان فو. والجنرال جياب لم يتلق أية دراسة في أية مؤسسة عسكرية.. ولهذا أفهم لماذا جاء على لسان رجل أمازيغي بسيط يدعى حمو عبد العظيم. صديق هو شي منه، الذي لم يحبه الجلادون المغاربة قط، ولا أحبه المخزن، الجميل منه والقبيح، كان الرجل الذي أشرف على خروج القوات الأمريكية من جنوب الفيتنام، وكان وراء سقوط سايغون الذي خلدته السينما بما فيها سينما العود الأمريكي. اشتهر بثلاثيته الشهيرة في دعوة جنوده، السرعة، الجرأة ، والنصر المضمون! اشتهر بكونه عبقريا عسكريا لم يفشل أبدا، إلا عندما واجه رجلا من المقاومة المغربية، طرده العهد القديم وحاكمه وأمثاله بالإعدام. هذا الرجل البسيط سيدي حمو كانت له علاقات في أوساط الانفصاليين الهاربين، في بداية السبعينيات، من القمع أكثر مما هم هاربون من الدولة والوحدة. وصله خبر وصول الجنرال جياب إلى الجزائر، وكيف أمكنه جمع العسكريين الجزائريين واقترح عليهم الدخول من أمغالا وهو يعدهم «إذا دخلتم أمغالا فستمكثون فيها إلى الأبد ». لم يكن لهم ذلك أبدا، ولعل من يشاهد اليوم شريط الهجوم الجزائري ستعود إليه ثلاثية جياب: السرعة والجرأة والنصر.. لكنه غير مضمون هذه المرة. ووصل الخبر عن طريق قائد - معارض هو أيضا - إلى من يهمهم الأمر، وعوض أن تبقى كتيبة من القوات المساعدة، وجد الجيش الجزائري جيشا حقيقيا وفشلت الخطة. هل أصدق الحكاية؟ نعم أصدقها، لأنني أصدق رجلا وجد في المنفى ولم يخن بلده أبدا. ولو حفرنا قبره لوجدنا قلبه مازال ينبض بالمغرب. ولم ينل من البلاد التي أحبها سوى ذلك الشبر. ترك الآخر للعمران وللمقاولين ولأصحاب النفوذ الكبار.لم ينل سوى هذه الكلمات من عبد ضعيف مثله، لكنها صادقة وكلمة حب ووفاء أرفعها في وجه كل الذين لا يستطيعون الموت من أجل بلادهم سوى .. في أغاني بيغ !! الذين لا يجرؤون على الموت إلا إذا كانوا يقتلون أحدنا أو يقتلون آمالنا. لهؤلاء هذه الأحجية الاتحادية النضالية المقاومة، أحجية الأطلسي الفقير الذي هزم الجنرال جياب... بمعلومة فقط في الوقت المناسب. ومع ذلك مازلنا نصارع من أجل الحق في الخبر. يا سلام أخبار انكار!