يأتي فيلم «نصف السماء» للمخرج عبد القادر لقطع تخليدا سينمائيا لما يسمى سنوات الرصاص، إذ يلخص السيرة الذاتية للشاعر والمثقف المتحرر عبد اللطيف اللعبي، أحد رموز المرحلة، وهو الذي كان يدير مجلة «أنفاس» ذات الخط اليساري الداعي للكرامة والتغيير والثقافة الحداثية، الشيء الذي قاده إلى قضاء ثماني سنوات من السجن (1972-1980)، عاشها بعيدا قريبا من جوسلين ومن أطفاله الثلاثة، فكان التواصل ممتدا حتى من خلف القضبان القاسية: جوسلين الزوجة المترقبة الصامدة الوفية حتى الموت لزوجها الحبيب، والأطفال الآملون في عودة أبيهم الحازم ذات يوم قريب.. إن فيلم «نصف السماء›› هو سادس أفلام عبد القادر لقطع الروائية الطويلة بعد :«حب في الدارالبيضاء» و«الباب المسدود» و«بيضاوة» و»وجها لوجه» و»ياسمين والرجال»؛ وهو فيلم مقتبس عن رواية جوسلين اللعبي الموسومة ب «la liqueur d›aloès» أو «رحيق الصبر»، حيث اشتغل كل من عبد اللطيف اللعبي وعبد القادر لقطع على سيناريو الفيلم، حتى يتسنى الوصول إلى غور الشخصيات وعمق أحلامها التواقة للحرية. وهذا ما انعكس على بنية الفيلم الذي اعتمد، كتقنية وبناء، على تحطيم بنية السرد التقليدي، والمراهنة على تشابك عنصري الزمان والمكان وتداخل الأزمنة، الشيء الذي جعل المتلقي يتماهى وشخصيات الفيلم و يغوص في أعماق المحكي. يستهل المخرج فيلمه بأرشيف لقطات توثق لمغرب السبعينيات، مرفوقة بتعليق جوسلين اللعبي (صونيا عكاشة) وموسيقى تصويرية، وتوضيب(spleen screen) هدفه استقطاب المتلقي وإغرائه بمتابعة أحداث قصة مستمدة من تاريخ المغرب، ثم يظهر مباشرة عنوان الفيلم «نصف السماء»، لتبدأ حكاية الفيلم. يدرك المشاهد من خلال تتبعه لأولى المتواليات الدفء الذي يكتنف أسرة اللعبي، إلى جانب انشغالاته السياسية التمردية، إذ لم تأت الأمور متصاعدة أو بيسر، فرجال «الأمن» يداهمون بيت عبد اللطيف (أنس الباز) فجأة وبدون مقدمات ليترك جوسلين (صونيا عكاشة) تطرح ألف سؤال عن مصير زوجها. جروح بليغة داخل المعتقل من داخل المعتقل، يحول المخرج ذاك الواقع الضيق إلى أجزاء وقطع، يتم تركيبها بطرائق متعددة حسب إمكانات اللغة السينمائية، لأن عدسة الكاميرا تبئر وتؤطر، لتنقل لنا ما يعانيه اللعبي في مقر التعذيب، فتنوع اللقطات (من مكبرة إلى عامة) هو اختيار معلل من طرف المخرج، وما يزيده عنفا هو عتمة المكان والألوان الشاحبة الباعثة على الوحشية .. هذا، فضلا عن الجانب البروفيلمي الذي يتجلى في الديكور والفضاء الذي يؤثث المعتقل، ناهيك عن السجل الصوتي الذي يترجم ما نراه بصريا من قهر وسب وشتم.. الشيء الذي يستميل المتلقي بمنطقية، ويدخله في عوالم القصة. حكمت مشاهد المعتقل كاميرا موضوعية تحيل على سارد خارجي، أي ذات ساردة غير مشاركة في الحدث القصصي، وكأنها كاميرا تتغيا حضور قوة خارجية تمارس عنفها على اللعبي، في حين تجلت الكاميرا الذاتية، من منظور عبد اللطيف الذي يعيش داخل الحدث مغمض العينين خاضعا، وئيد الخطوات، هو ذات المصير المبهم الذي ينتظره وراء الكمامة وخلف القضبان، أي نفس المصير الذي يفزع جوسلين خارجها، حيث الحرية غدت حلما مستعصيا، يكون الموت هو من يمشي إلى جواره، فتضيق الحياة حتى في أرحب الأمكنة. يطلق سراح عبد اللطيف اللعبي ليعود إلى بيته، و يجد طفلته «قدس» التي رزق بها وهو ما يزال في المعتقل. جوسلين وعبد اللطيف.. مسافات من الحب بعد إطلاق سراح عبد اللطيف المؤقت، كانت فرحة لا توصف لدى جوسلين.. هو حنان غامض تجاه خدوش زوجها التي ستصير جزءا من ذاكرة جسده.. تلك المرأة التي بدت أكثر تعاطفا مع تلك الخدوش، تأملتها وبكت بمرارة نستشفها من لغة سينمائية تمثلت في مجموعة من اللقطات المتباينة، بين المكبرة والمبئرة ليديْ جوسلين، ولقطات متوسطة للزوجين معا، ويحكم هذه اللقطات قطع حاد ورؤية تتداخل بين الموضوعية والذاتية. يعود عبد اللطيف إلى ما وراء القضبان ويستمر وفاء جوسلين وأطفالها له، حيث يأتون لزيارته ويتبادلون الرسائل، يحاول الميتاسارد أن يمرر لنا هذا الارتباط القوي بين اللعبي وعائلته، عبر تواتر لقطات ثابتة وأخرى بانورامية للأطفال وهم يكتبون لأبيهم ويخبرونه عن آمالهم في عودته، وفيما تبئر لقطات أخرى بناية المعتقل حيث يقبع عبد اللطيف وهو يرد على رسائل أطفاله بأخرى، ساردا لهم عكس ما يكابده من عنف و عذاب. علا التصفيق قاعة المحكمة عند إصدار القاضي لحكم المعتقلين، وسرى تيار كهربائي لسع جوسلين، كما احتجت عائلات المعتقلين وسط القاعة بأصوات متعالية، مما دفعهم للنضال من أجل توفير أبسط ظروف الكرامة للمعتقلين كرؤية أطفالهم خارج الزنزانة المخيفة، وإمكانية الزيارة أكثر من مرة خلال الأسبوع... رغم صعوبة المواقف، والهزات النفسية القاهرة، تابعت جوسلين السير إلى الأمام، آمنت بفكرة الانتصار حد التطرف، ولا تزيدها الخطوات إلا إصرارا على التواطؤ مع زوجها جوهرا وكنها، فهي لم تكل من الوفاء إلى صورته.. وصارت جل عائلات المعتقلين – و خصوصا النساء منهم- يطالبن بالكرامة من أجل ذويهم في المعتقل، بل تداخلت أصواتهن لتصبح مطلبا وحيدا، يجعل الدولة تعترف بأن ملف هؤلاء المعتقلين هو قضية اعتقال سياسي. هكذا حملن هؤلاء النساء نصف السماء على أعتاقهن، كما يقر بذلك المثل الصيني، تلك السماء المفتوحة الرامزة للحرية واللانهاية..