يعتبر فيلم «إطار الليل» أول فيلم روائي مطول للمخرجة تالا حديد، بعد تجربة إخراجية قادتها لإنجاز مجموعة من الأفلام الوثائقية والقصيرة، لعل أبرزها هو الشريط القصير «شعرك الأسود إحسان» الفائز بالعديد من الجوائز، كان من أهمها جائزة أفضل فيلم قصير بمهرجان برلين السينمائي. حاز فيلم «إطار الليل» على الجائزة الكبرى بالمهرجان الوطني للفيلم بطنجة في دورته السادسة عشرة لسنة 2015. وقد أنجز الفيلم بميزانية ضئيلة، ولكن بطموحات فنية وجمالية كبيرة. فيلم يطرح قضايا إنسانية كونية برؤية جمالية وإخراجية متميزة. شخصيات كوسموبولتية: زكريا شاب مغربي عراقي الأصل، يعيش في بريطانيا، حل بالمغرب بدعوة من زوجة أخيه يوسف للبحث عن هذا الأخير الذي ذهب ذات يوم إلى العراق ولم يعد. يبدأ رحلة بحث لا يعرف عنها سوى أن أخاه رحل بمساعدة شخص من مدينة الدارالبيضاء، وصورة فوتوغرافية ليوسف وهو طفل، وكذا بقايا صور أخيه في ذاكرته يستعيدها عبر الحلم ( مشهد للطفل يوسف وهو يرتمى في النهر ليختفى في السراب). عائشة طفلة مغربية يتيمة تبيعها إحدى قريباتها إلى عباس بدراهم معدودة. عباس جزائري الأصل يتنقل بين المغرب وفرنسا، وهو متخصص في تهريب وبيع الأطفال للأجانب قصد استغلالهم جنسيا. يسعى عباس بكل الوسائل تسيلم عائشة إلى أحد الفرنسيين مقابل مائة الف يورو. نادية عشيقة عباس ورفيقته، وهي شابة مغربية تعيش في المهجر. عاشت نفس مصير عائشة كما تبين من خلال حديثها مع هذه الأخيرة أثناء احتجازها من طرف عباس، لذلك لم تتوانى في مساعدتها على الهرب. جوديث أستاذة فرنسية تعيش في منزل معزول بإحدى القرى الجبلية بالمغرب. من خلال أحداث الفيلم نكتشف أنها كانت عشيقة زكريا وفقدت طفلها كما يظهر ذلك من خلال بقايا لعب في الغرفة التي كانت تنام فيها عائشة بعد تهريبها من طرف زكريا. شخصيات إذن بهويات مركبة وثقافات ولغات مختلفة. شخصيات كوسموبولتية غير مستقرة لا ترتبط بمكان معين، تبدو هشة وتائهة وغامضة نوعا ما، تعيش أجواء مثيرة وقلقة وكأن لعنة ما حلت بها. تبحث عن هويتها وعن ذاتها وعن معنى لوجودها وعن معنى للعالم عبر سفر داخلي في الذاكرة وفي الحلم، وعبر سفر خارجي في فضاءات هجينة وغير متجانسة تمتد في جغرافيات متعددة من المغرب إلى العراق مرورا بتركيا. تعدد مسارات الحكي: يعتقد المتفرج في البداية أنه بصدد حكاية عادية توحي عناصرها أننا أمام فيلم من نوع أفلام «الرود موفي»، لكن سرعان ما يتبدد هذا الاعتقاد بعد أن التقت شخصيات الفيلم صدفة أثر عطب سيارة عباس، لتبدأ مسارات الحكي في التعدد والتشابك. مسارات تتقاطع أحيانا وتفترق في كثير من الأحيان، مما جعل الفيلم يكاد يكون شذرات وأشلاء أو نتف وجب على المتفرج بدل مجهود كبير لتجميعها وإعادة تركيبها، وهو أمر قد يستعصي على البعض، كون الحكايات متشعبة وغير مكتملة، تلعب الصدفة فيها دورا أساسيا (العثور على الطفلة عائشة في الغابة والتقاء عباس ونادية صدفة مع زكريا إثر عطب أصاب سيارتهما). هناك غموض يلف مصير هذه الشخصيات. لا ندري في النهاية مصير عباس وصديقته نادية ونفس الشيء بالنسبة لجوديث، ولا مصير عائشة التي استقلت حافلة ثم اختفت لتظهر برهة وهي تلعب مع الأطفال في أحد الحقول (لا ندري أين ولماذا وكيف وصلت إلى هنا) ولا حتى زكريا الذي كان يقتفي أثر أخيه ثم اختفى في النهاية في متاهة وسط نساء يرتدين عباءات سوداء. هناك غموض يلف مصير يوسف أيضا، لا ندري هل ذهب للعراق إلى الجهاد أم إلى العمل، هل هو مناضل سياسي يساري أم جهادي إسلامي. ما يزيد الأمور تعقيدا كون المخرجة لا تقدم حبكة درامية منطقية ولا تعطي حلولا درامية أو إجابات بقدر ما تدخل المتفرج في متاهات وتأملات أشبه بخواطر فكرية وفلسفية تخلق لديه حالات انفعالية وجمالية تدفعه دوما إلى التأمل والتساؤل وإعادة التساؤل. وهو ما جعل الفيلم مفتوحا على كل الاحتمالات والقراءات والتأويلات الممكنة. مصير مشترك: إن الفقدان والغربة والتحرر من ثقل الماضي والبحث عن الخلاص هي الخيوط الرابطة بين شخصيات الفيلم. فعائشة فقدت والديها ولم يتبق لها في الوجود ما تحتمي به، لتجد نفسها عرضة للاستغلال وظلت تبحث عن كل السبل للانعتاق والحرية. نفس المصير عاشته وعانت منه نادية عشيقة عباس. أما زكريا فقد فقد أخاه وذهب للبحث عنها آملا في أن يجده في العراق. وجوديث، التي فقدت طفلها وعشيقها، تبحث عن الخلاص من هذه الذكريات التي صارت تؤلمها. بينما بدا عباس وكأنه فقد كل شيء ودفعه وضعه الصعب إلى البحث عن المال بكل الطرق. شخصيات تحمل ذكريات أليمة وتبحث عن الأمن والاستقرار وعن مستقبل يبدو غير محدد المعالم. ورغم هذه الهواجس فإن البعد الانساني هو السمة الطاغية على جل شخصيات الفيلم؛ فباستثناء عباس الذي بدا وحشا لا يرحم، نجد أن زكريا أنقذ عائشة من وحشية عباس وسلمها لجوديث عشيقته الفرنسية التي تعاملت معها بنبل. كما أن نادية أبدت تعاطفا كبيرا مع عائشة وساعدتها على الهرب. أما بائعة الهوى فتعاملت مع زكريا بلطف سواء في السرير أو حين سلمته ساعته اليدوية التي نسيها. نفس الشيء بالنسبة للشيخ صاحب المكتبة الذي أبدى تعاطفا مع زكريا وأوعز لأحد أحفاده بمساعدته في البحث عن أخيه. استيطيقا ما بعد حداثية: يحتل مفهوم التهجين «hybridation» أهمية قصوى في استيطيقا ما بعد الحداثة. وقد وظفت تالا حديد هذا المفهوم بشكل كبير في الفيلم. فقد حاولت مقاربة عدة مواضيع هجينة في الآن ذاته، مما فرض عليها كتابة متشظية ألغت فيها مسألة الحدود بين الأجناس، وفرضت تناولا هجينا للزمان والمكان والشخصيات. فيلم بهويات مركبة حضر فيها هاجس الأنا بشكل قوي وإن كان غير معلن. فزكرياء المغربي الأم، العراقي الأب والبريطاني المولد، ليس في واقع الأمر سوى تالا حديد نفسها، المغربية الأم والعراقية الأب والبريطانية المولد. طبعا لا تخلو كتابة تالا حديد من البعد التجريبي، فالسينما المعاصرة لم يعد لها اتجاه أو قواعد تحترمها، فهي لا تؤمن بالتجنيس وبالحدود بين الفنون ولا بمنطق الحكي. فيلم «إطار الليل» هجين ومزيج من أساليب تعكس رؤى وعمق الأحاسيس والصفات الإنسانية للمبدعة. فيلم اهتمت فيه المخرجة بطريقة الحكي أكثر من الحكاية نفسها. وحاولت أن تزعزع نظرة المتفرج لرؤية الإنسان والذات والعالم بشكل مخالف. يبدو أن البحث عن المنطق وعن المعنى في عالم تالا حديد غير ممكن، ولهذا فقد اختارت أسلوبا شذريا مقتضبا ومكثفا، شاعريا وتأمليا، يوحي ظاهريا بأنه مفكك، لكنه في العمق متناسق ومتماسك. تأمل بصري وتشكيلي ترجم، عبر لوحات بصرية، الفوضى العارمة واللامعنى والعبث واللامنطق الذي تعيشها المجتمعات المعاصرة. أليست قمة المنطق هي العبث، كما يقول جاك تاتي. لقد استطاعت تالا حديد، بهذا الأسلوب الذي أعاد النظر في البنى السردية التقليدية، فضح الجشع الإنساني من خلال الرجل الذي أراد أن يبيع عائشة في سوق النخاسة للأجنبي قصد استغلالها جنسيا، والتنديد بفظاعة الحرب والدمار والجرائم الذي تجاوزت منطق العقل. جمالية الموت: تترجم متتالية مستودع الأموات قمة الفظاعة الإنسانية من منظور جمالي بعيد عن تلك الصور النمطية التي اعتدنا أن نراها في وسائل الإعلام أثناء الحروب والتي تجعل الموت فرجة عابرة. متتالية تجعل المتفرج أمام تجربة جمالية حيث ازدواجية المشاعر. فالصورة التي تقدمها المخرجة جميلة وقبيحة في الآن نفسه. صورة تجعل المتلقي يتشبت بالحياة من خلال الموت، وتولد لديه تساؤلات عن علاقته وتمثلاثه للموت. «يمكن للصورة أن تكون كل شيء في الآن نفسه، مقنعة وجميلة ومثيرة للإشمئزاز» كما يقول الفنان الأمريكي أندريس سورانو المعروف بتصويره لجثت في مستودع الأموات لأشخاص ماتوا تعذيبا أو من جراء العنف. تبدأ المتتالية برجل يغسل الدماء في أحد مستودعات الأموات أو بالأحرى في إحدى المسالخ. ثم نرى زكريا وهو يتنقل بين جثت ملفوفة بثوب وردي اللون، بحثا عن جثة أخيه المحتملة. وفي أعلى الصورة يسارا، تمتد المعاقف التي جرت العادة أن تعلق فيها السقائط. بينما في عمق الشاشة تمر امرأتان ترتديان عباءتين سوداوين وكأنهما شبح موت يسكن المكان. نشعر وكأننا أمام سقائط لأضاح مذبوحة وليس أمام جثت آدمية. صمت يعم المكان أضفت عليه الموسيقى والأصوات طابعا جنائزيا ودراميا قويا. تبدو هذه المتتالية أشبه بتنصيبة فنية (Installation) أكثر منها بمشهد سينمائي. لقد تم الاشتغال على الفضاء عن طريق التحكم في السينوغرافيا بشكل دقيق. فأثناء هذه المواجهة بين الجسد (corps)، جسد زكريا المتحرك وبين أجساد جامدة ومجهولة (Objets)، يقطع زكريا المسار الذي حددته المخرجة وكأنه متفرج يتنقل بين تحف فنية ويتأمل عبرها البشاعة الإنسانية ليخلدها في ذاكرته إلى الأبد حتى لا تنسى. لقد نجحت المخرجة، وبجمالية بليغة، في رسم لوحة شبه سوريالية للموت أوصلتنا إلى عمق المأساة الإنسانية. كيف لا وهي المنحدرة من تكوين في الفنون الجميلة والفلسفة، والخبيرة في الفن الفوتوغرافي وفن الصباغة. متتالية أخرى مثيرة للغاية تلك التي نرى فيها زكريا وقد اجتاحته أمواج من النساء بعباءات سوداء في إحدى الأماكن المقدسة. نساء يسرن يمينا و يسارا وكأنهن يبحثن عن الخلاص أو ربما عن المسار الصحيح الذي يخرجهن من هذا المأزق. في خضم هذه الحركة يتحول زكريا إلى نقطة بيضاء وسط هذا السواد، ثم يتلاشى ليعم السواد إطار الشاشة معلنا عن نهاية الفيلم. تلخص هذه المتتالية الوضع الراهن ليس فقط للعراق، ولكن لجل الدول العربية التي عرفت ثورات الربيع العربي وتعيش مخاضا عسيرا. وتحاول البحث عن النور في ظل العتمة وعن الطريق الذي يخرجها من مأساتها. وبقدر ما تبدو هذه المتتالية سوداوية بقدر ما تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات والخيارات الممكنة. (تجدر الإشارة إلى أن هذه المتتالية تطلبت من المخرجة أكثر من سبع ساعات من الإعداد والتصوير. وبعد نهايتها من تصويرها أجشهت بالبكاء وسقطت أرضا، حينها تذكرت وفاة أبيها، كما أخبرتني بذلك حين التقيتها أثناء العرض ما قبل الأول بالدار البيضاء). تحيلنا هذه المتتالية إلى متتالية أخرى حيث نرى زكريا يعدو في واد، يتعثر ثم ينهض ليلتحق بمشقة بجماعة من الرجال يرتدون ألبسة بيضاء ويلتفون حول قبر وهم يقرؤون على ما يبدو آيات من القرآن. زكريا يبكي ويتأمل رجل يحفر قبرا. يستيقظ زكريا لندرك أن الأمر لم يكن سوى كابوسا أو أضغاث أحلام. يظهر الموت تارة في حلة سوداء (نساء بعباءات سوداء) وتارة أخرى في حلة بيضاء (رجال بلباس أبيض)، وهما لونا الحداد والحزن في الدول العربية والإسلامية عموما. ولكن تبقى النساء حاضرات في كل أحداث الفيلم، يقاومن هذا «الإعصار» وهن صامتات. تذكرني هاتين المتتاليتين الأخيرتين بأعمال الفنانة الإيرانية شيرين نصحت التي تجمع في جل صورها بين نساء يرتدين عباءات سوداء وفي المقابل رجال بألبسة بيضاء. ومن خلال هذا التقابل تقدم لنا شيرين نصحت صورة المرأة التي تناضل من وراء الحجاب، وترسم الحدود التي توحد وتفصل في الآن نفسه بين جنسين وبين عالمين. هذه الحدود الفاصلة هي، في اعتقادي، سبب اختيار تالا حديد لعنوان الفيلم، The Narrow Frame of Midnight الذي لم يترجم على ما يبدو بالشكل البليغ في اللغة العربية، حيث تم اختزاله في كلمتين "إطار الليل" وتم الاستغناء عن كلمة " Midnight" التي تعني منتصف الليل والتي لها دلالة قوية ورمزية في الفيلم. منتصف الليل هو ساعة الصفر. والصفر هو رمز الاستمرارية، هو المبتدأ والمنتهى، ولا يمكن للأعداد أن تستمر بدونه. ومنتصف الليل هو الفترة الفاصلة زمنيا بين يوم مضى ويوم جديد سيبدأ. وهي الفترة التي تخلق لدينا الانطباع بالصمت والخوف، سواء من عنف الخارج أو أشباح الداخل، وربما الخوف من القادم أيضا. أليست شخصيات الفيلم كلها تبحث عن الخلاص من هذا الليل القاتم وانتظار قدوم نور اليوم الجديد؟ بصيص أمل في بحر من اليأس: يبدأ الفيلم بلقطة شاملة (إطار واسع) لزكريا وهو ينزل من سيارة الأجرة وفي عمق اللقطة بنايات حديثة، ثم ينتهي بلقطة مقربة (إطار ضيق) لزكريا نفسه وهو يتلاشى وسط حشد من النساء، في إحدى الساحات المقدسة بالعراق، ليعم السواد الإطار، كدلالة ربما على انسداد الأفق. وخلال مسار الفيلم لا نشعر سوى بالحزن والأسى ولا نرى إلا الدمار والخراب الذي أصاب الشجر والحجر والبشر. ولكن رغم ذلك تبقى نظرة تالا حديد "متشائلة" بتعبير الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي، لأن الفيلم يشعرنا بأن العتمة التي تعم "إطار الليل" ستنجلي يوما ما، وبأن العراق سيعود أقوى مما كان عليه. وهو ما ورد على لسان الشيخ الكتبي حين قال لزكريا بأن المغول خربوا بغداد وأبادوا أهلها ومسحوا ذاكرتها بإحراق مكتباتها ورمي كتبها في نهر دجلة حتى صار لون مائه أسود من شدة اختلاطه بالحبر، ومع ذلك فقد بعثت بغداد من جديد كطائر الفينيق، وصارت من أبرز العواصم العلمية في العالم. لقد مات هولاكو ولم تمت بغداد. واليوم جاء "المغول الجدد" وحولوا لون ماء دجلة إلى أحمر بدماء العراقيين، لكن مع ذلك ستحيا بغداد من جديد. *عبد المجيد سداتي، باحث في الصورة وفن الفيديو