1 ما هو الافتراض؟ وأين يتحقق؟ هل في ضياع المسافة بين الكاتب والمتلقي، أم في امتلاء الحيز التفاعلي بينهما، عمقا وارتفاعا؟ ألا تنبني كل كتابة، أصلا، على الافتراض؟ أليست هذه هي الخلطة السحرية التي انبنى عليها الأدب منذ هوميروس إلى الآن؟ ومع ذلك، فإن الحامل الإلكتروني، فضلا عن الإنترنت وما تتيحه الوسائط الحديثة (المولتيميديا) والموصلات الفائقة من إمكانات تفاعلية لا حصر لها، يجعلنا أمام حقيقة أخرى للكتابة، وهي حقيقة النفخ في العدم الافتراضي وملئه بالأفكار والمشاعر والأحاسيس والفنون والكتابة، وبما وراء الكلمات أيضا. وهذا معناه أننا أمام استراتيجيات عدم التركيز على المسار الواحد، أي استراتيجيات المفارقة لتجربة الزن أو الوعي بالذات، استراتيجيات الاضطراب والتمويه والتشويه.. ما دامت الغاية هي تحصيل الاعتراف بالإعجاب الجماعي. 2 عالمٌ برأسين عالقٌ بشابكة جائعة إلى كل شيء، مثل غابة لا ينفع الدخول إليها بحذر أو بإقدام، الأمر سيان.. فأنت مأكول مأكول.. وتشبه ذلك الحسون الذي يتدلى جناحه المكسور بين أسنان قط نهم وغير مكترث. تغير الزمان فعلا، وتغيرت الغابة، ولم تعد الأوراق تحكي سيرة الشجرة، وتغير أيضا مفهوم الكاتب والكتابة، وبدأت الأقلام تزعق على الأيادي وتتهمها بالعقوق والجحود والنكران. 3 لم تعد للكتابة بُشرة أو جلد أو قشرة تظهر على السطح لتثرثر وتتكلم، ولم يعد الخط أخدودا فريدا في مسارات الأرض. تغير كل شيء، وصار كل شيء حياديا بشكل لا يصدق. الشكل المادي والبصري للخط فسح المجال للمتاح والمتبدي والمعمم والمكوكب إذا شئنا الدقة، ولم تعد هناك مساحة للترسبات.. ليس هناك سوى الأبيض القاتل. 4 تغيير أنماط الكتابة يؤدي إلى تغيير أنماط التفكير. أصبحت الكتابة في عالم الافتراض قابلة للمسرحة، وقابلة للإرباك والتشويش و"الاحتيال" على الحواس.. وبالتالي أصبحت لها قوة "جذب واقتحام" لا يمكن إيقاف تأثيراتها على ما نسميه (تجاوزا) عالم الواقع. ليس هناك نبع ماء، هناك ألوان ملتصقة ببعضها كيفما اتفق، تتعرى بغنج ووقاحة وتطلب صداقتنا خارج الوصفة الانسانية التي نعرفها. 5 "الكتابة الافتراضية" أصبحت تتحرك بسرعة. وتقتحم كل المجالات والبيوت، عارية من كل شيء. من الرقيب والغربال والمؤسسة والعقل والدين.. وخالية من كل الكوابح، ومولية ظهرها لكل المحاذير، إلى درجة أن البعض بات يمارس الضرب والسب والعض، لينتزع اعترافا افتراضيا بأنه كاتب من "الاتجاه المعاكس". 6 من يريد أن يصبح كاتبا الآن، مع الاستثناء طبعا، ما عليه إلا أن يكتب بغزارة وينشر في الحوامل الإلكترونية المتاحة جدا، وما عليه إلا أن يختلف في ما يجتمع حوله الآخرون، ويكفيه أيضا أن يشن حربا لا هوادة فيها على الآباء والأسلاف والأجداد، وأن يخلع البيعة عن رقبته، وأن يعلن أمام الملأ أنه ولد نفسه بنفسه، وأن كل شيء ما خلاه باطل، وكل كتاب ليس له لا محالة زائل (على رأي النابغة الذبياني)، وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن.. وأن يربي حوله جوقة من الأتباع لإعانته على الإعلان من شأن الذات.. بجميل ومثير ورائع وهائل ومدهش ومبهر.. إلى آخر لفظ من سلالة قاموس "التطبيل" المسطح. 7 في "الكتابة الافتراضية" يتسع المكان ويختفي الزمن. وهذا العامل أطاح (ويطيح) بشرط أساسي من شروط الكتابة: الملكية الفكرية وحقوق التأليف. وهذا معناه أن الافتراض تحول إلى شارع كبير للصوص والمهتبلين والأدعياء، حتى إن هناك من يلون المساحات التي تركتها خلفك بخفة ضمير واحترافية إخفاء، ولا يخجل من عرضها أمامك.. وقد يذهب به العنت إلى طلب رأيك حول الفتح المبين. 8 "كتابة الافتراض" باب مفتوح على مصراعيه.. وخلف الباب صحراء قاحلة وخالية من عروق الماء. الباب، في هذه الحالة، كتاب لا يمكن الاتكاء عليه، ففي أي لحظة يمكنه أن يزول ويندثر وينزلق إلى مكان ما في هذا الذي نسميه العدم. ولا ينبغي أن ننسى أننا بنقرة واحدة يمكننا أن نمحو هذا الكتاب ونغيره ونضيف فيه، كما يمكننا بالنقرة ذاتها أن نشوهه ونخفيه ونطمره أو نقضي عليه. إنه موجود في حيز الوهم، كما أنه موجود في حيز الشطح بالمعنى الصوفي للكلمة، أي مثل ذلك النهر الضيق الذي ينطلق الماء فيه بسرعة فيفيض على جانبيه. 9 علينا أن نعترف أن الكاتب (الكلاسيكي) "غير متاح" الآن.. منشغل بذاته التي تخترقها أشياءُ العالم.. منكب على الخلخلة والحلحلة والشك في كل شيء.. يحاول أن يرى العالم من الوسط، وليس من الأطراف. أما "الكاتب الافتراضي"، الذي لم يعش قلق نقاط المراقبة والتفتيش والقفز على الحواجز، فإنه يحمل هما آخر.. وهو هم الوصول إلى "سكان المجموعة الشمسية" ليثير إعجابهم وتصفيقاتهم وينتزع "لايكاتهم" ويصبح حديث كل لسان. إنه إذا شئنا "رائد فضاء" يرى العالم من خرم إبرة.. رجل أعزل ببزة بيضاء ثقيلة وخوذة زجاجية وجسد متأرجح. هل هذه قسوة أم رؤية سلفية؟ لست أدري. كل ما أعرفه هو أن الكتاب نوعان: الأول يترك جلده مسلوخا على ما يكتبه ليسير في الأنفاق ومجاهيل الذات المعتمة، والثاني يعرض سلعته كالحرفي "الصنايعي" على قارعة الأذواق.. وأنا متحيز طبعا للنوع الأول. 10 "كتابة الافتراض" بحر عجاج، ويتعين على كل كاتب أن يصنع فلكه بهدوء ومثابرة، وأن يتقن الصنعة وأن يحصنها ضد الطوارئ وعوادي الدهر وصروفه، خاصة أن "عصر نهاية الرقيب" لم تفسح المجال لدخول "عصر الضمير الأدبي". ذلك أنه بحر يكثر فيه وقع الحافر على الحافر، فيهجم الاختلاق وتنتهك الخصوصية، ويبرز العدوان المنظم والمجهول. 11 هل "كتابة الافتراض" تنتج معرفة أخرى بديلا عن المعرفة السابقة، أم أنها تتأسس على القص والنسخ واللصق والإخفاء؟ هل تعكس تدفق الثقافات العالمية المختلفة وسرعة الوصول إليها، أم تعكس السطحية والاختزال والاستسهال والرقص العاري؟ هل بإمكانها (خارج بند الضمير والتعرية والفضح) أن تطيح بالطرح الكلاسيكي للمعرفة الذي يتسم بالرصانة والرزانة وقوة الفعل والتأثير؟ وهل أصبحنا معها، خارج النظام الكوني للقيم الذي كان سائدا؟ 12 أصبحنا اليوم أمام حقيقة غير قابلة للدحض: لم تعد هناك خطوط للطول أو العرض، ولا سبيل إلى العودة إلى الوراء.. الوراء أيضا ليس موجودا. فما الذي بوسع الكتابة أن تفعله أمام هذا المتغير الأنطولوجي؟ وماذا بوسع الكتاب أن يفعلوه أمام "الحمى" التي أدركت البعض، وحولتهم إلى كتاب "واسعي المقروئية"؟ هل يتعين عليه أن يتغير، وأن يقنع نفسه بالانتماء إلى "الكثرة"، وأن يتحول إلى آلة راجمة؟ هل يتعين عليه أن يستعمل آلية الدعاية، التي يتيحها النت، ليكون ويتحقق، أم عليه أن يصفق الباب وراءه بقوة، ويتوارى إلى أقصى زاوية في ذاته؟ هل عليه أن يتعلم كيف يتغير، أم عليه أن يسير حافي القدمين في ضجيج الافتراض؟ هل يطمئن للتفاعل الافتراضي السريع، المتسم بالارتجال والسطحية (والجهل أحيانا)، أم عليه أن يحمي خصوصيته في فضاء لا يعترف بأي خصوصية؟ هل يبالي بهذا النوع من التفاعل، الذي يفترض نوعا من النزال الكاذب، أم يستمر في التقدم إلى الأمام بصبر وأناة؟ هل يتعين عليه أن ينسى القراء القدامى (القراء الورقيين) ليظفر بقراء جدد ليس لهم بمعرفة بآليات التلقي السابقة؟ هل عليه أن يدخل، فعلا، إلى المرحلة التفاعلية.. ليس بينه وبين القراء فحسب، بل بينه وبين الأدب الذي ينتجه، أم عليه أن يستسلم إلى الحوامل والمحافل الجديدة ويصرف النظر عن الإمكانات الأخرى التي يطرحها النص التفاعلي؟ وأخيرا، هل يتعين عليه أن يتحول من الكاتب ?الداعية- الرومانسي- المصلح.. إلى الكاتب-الفنان- التقني- المخرج- الفرجوي، وأن يتعلم تقنيات مزج الصورة الثابتة بالمتحركة، واستعمال الموسيقى والمؤثرات الصوتية والرسم والتشكيل والتحريك والمسرحة والتنصيب والتقعير، والبحث في الأبعاد فيزيائية متاحة تقنيا؟ 13 ومع ذلك، رغم السطوح المتراكمة التي يفرضها علينا عالم الافتراض، ورغم ثقل التجوال في الأسواق القديمة و"ما يَدِقُّ المسلك إليه" بتعبير الفراهيدي، علينا أن نعترف بأن طريق العودة إلى الورق- رغم كل أشكال المقاومة- لم يعد ممكنا، وأن الأمام هو الافتراض.. ويجب أن نعتلي الأدراج، وأن لا نخاف من ضياع الأوكسجين الذي كانت تتيحه الغابات (العادات) القديمة.. هناك أوكسجين آخر يتيحه كتاب "المواقع الاجتماعية" والمدونات، وهو أوكسجين سريع الاستهلاك، ويتعين علينا أن نعثر على السرعة اللازمة لمواكبته. هناك كتاب رائعون وحقيقيون، اختاروا عن وعي (وعن عمد وسبق إصرار) الانتماء إلى الافتراض، والبحث عن النور القادم بقدر غير ثابت من العدم الواسع. 14 الأفق واسع جدا، ولا ينبغي أن ننسى بأن إيريك سميث، رئيس شركة "غوغل"، تنبأ بنهاية الأنترنت قريبا، وأن الوقت "وقت أجهزة الاستشعار والأجهزة الإلكترونية القابلة للارتداء، والتي ستصبح جزءا لا يتجزأ من عالمنا، حتى أننا لن نلحظ وجودها". فماذا أعد الكتاب لهذا العصر؟ وهل سينتهي، فعلا، عصر الكتابة والأحلام والتاريخ؟