I في مطلع محاضرة ألقاها قبل أعوام حول كتابه "السنة والإصلاح" أشار المفكر المغربي عبد الله العروي إلى أن المرأة السائلة في مستهل كتابه كانت مجازا فقط إلى فعل التأليف، لكنْ لِفرط تساؤل الناس عنها واستقصاء خبرها أوشك أن يترك يقينه في عدمها لظنهم في وجودها. ولولا أن الخيال لا يلغِي الذاكرة، إلا أن تكون من ذاكرة الخيال. يبدو أن القوم انشغلوا بالسائلة أكثر من المسؤولِ وجوابه وكتابه؛ بالشخصية عن الفكرة؛ بالتجسيد عن التجريد.. نأمل أن يكون مفكرنا قد بدد بتنويهه، ذلك الظن، مع إبراز موقع الخيال في كل فكر يريد أساسا تغيير ما بأفقنا وما بالنفس. وأيا ما كانت السائلة، أفقا أو نفسا، أوْ لَمْ تكن قط، فقد وقع حافر اختيارها الافتراضي لمفكرنا على حافر اختياره لها كشاهدة مثلى على الاختلاف داخل الائتلاف. فهي أنثى واقفة في أقصى حدود مجالنا الثقافي، في تخومه المتداخلة مع تخوم أخرى. وقد تكون صورة ذاتية لمفكرنا، مفارقة .. لو لم يكن هو، لكأنها هي، في عالم مُوَاز. الأهم أنها وفرت عليه عناء المداراة والمراوغة، وكَفتْهُ كذلك عناء المَطَالِع كما في تآليف الأقدمين حيث يكون شرط مشروعيتها دائما "سؤالٌ ورَد من الحضرة الأندلسية.." من سائل يطلب شفاء العي، ولولا الطلب ما كان أدب.. لولا وزراء وأمراء عبر التاريخ لما ألِّفَت كتب طارت بذكرها الركبان. "شفاء السائل بتهذيب المسائل،" "المعجب في تلخيص أخبار المغرب"، "الإمتاع والمؤانسة"، "ألف ليلة وليلة".. بل ولا حتى أرجوزات لافونتين وحِكَم روشفوكو وغيرها. إجماع في الشرق والغرب على التوجس والخوف من الكتابة ابتداءً. ألأن الكتابة تحرير وتقييد في آن واحد؟ أم لأن القارئ إما عدو محتمل، كما يقول كيليطو في "الأدب والارتياب" أو عدو مُحقق كما يقول شترواس في "الاضطهاد وفن الكتابة."؟ لكن العداوة والاضطهاد قد يستتبعان احتضانا من السلطة، بما هي شاهد أمثل على المهيب المخوف المرغوب. احتضان ينقلب مؤانسة ليل وزير مؤرَّق؛ أو تقيَّةً من شر شهريار ضَجِرٍ كما تحكي الليالي.. وهل من اهتداء مع/في المؤانسة والتقية؟ وهل من إصلاح.. لكن ليالي مفكرنا معكوسة. المؤنس المتقي هنا رجل مقابل أنثى سائلة، لم تفقد تواضعها رُغم مواصفات علمية عالية. هل من خصوصية للأنثى هنا قد استنبطنها مفكرنا؟ عالمةً كانت أو أميرةً أو ملكة؟ ربما.. فقد كانت بلقيس أرجح عقلا من كل ذوي السلطان الجبابرة المذكورين في "كتابنا العزيز"؟ ألم تقل "إن الملوك.." وليس "إن الملِكات.." وهل سؤال الأنثى يُترك هَمَلا؟ أساسا..ملكةً كانت أم لا؟ تبقى السائلة شاهدا أمثل كما يقول المناطقة تفي لتجريب يقين ما، ما زال على تخوم الشك. تلك المرأة تركيبة وتوليفة حداثية بديعة. نضع بجانب ذلك أنها سمعت محاضرة مفكرنا في الشاطئ الشرقي للعالم الجديد، أمريكا. أمريكا هي الشاهد الأمثل كذلك على الحداثة والحضارة الغربية، ويبقى أنها سمعت محاضرته في الشاطئ الشرقي، بتعبير آخر في شرق الغرب وليس في غرب غربه.. ليس عبثا هذا التموقع الفريد.. ماذا تريد سائلتنا رغم ثقافتها العالية المُحَيَّنَة بآخر ما وصله العقل البشري؟ هل قرأت راهب "الشيء الصغير" يقول له "دع عنك كتب الفلاسفة.. لن يواسوك أبدا.." أم لأن "كثرة التصنيف عائق عن التحصيل" كما عنون قبل ذلك ابن خلدون أحد فصول مقدمته؟ هل كثرة الكتب عائق عن السكينة والاهتداء. ألم ينصح شيوخ مربون مريديهم من ذوي العلوم والمعارف الظاهرة ببيع أكثر كتبهم والتصدق بثمنها. هل الانسان يحتاج إلا لكلمات؟ "فتلقى آدم من ربه كلمات" "وإذ ابتلى ابراهيمَ ربُّه بكلمات"... كلمات هادئة هادية.. ماذا سألت مفكرنا؟ في المحصلة سألته أن يدلها على طريقة تحفظ بها فطرة ابنها المشرف على سن التمييز والاختيار، حين يكبر ويطفِق يسألها أسئلة الوجود والهوية الملحة في عالم منصهر مائع. هل من مستودع ومستقر للفكر والروح. كأن التيه الإيديولوجي العلموي ترف متاح فقط للعزاب المتفردين المتوحدين في أبراجهم إلى حين، أما بمجرد ما يصير للإنسان ذرية تراه يقع أمام مسؤولية استقامتها فيتيقن أن المسؤولية هي عين الحرية وأن استقامة العود أيسر من إصلاحه والعاقل من يرى الفتنة قبل إقبالها.. ولو أن مفكرنا قال لسائلته "إن مجرد طروقِ هذا الهم لذهنك دليل أنك قد عرفتِ فالزمي" ولكفاه. يُعْرَف المرء من سؤاله. والمرأة بالأولى. وإلا لماذا طرَقها السؤال الملح؟ ألم يقل العارف "لولا وارد ما كان وِرد".. لولا اجتذاب سابق ما كانت يقظة واستجابة. لولا إرادة عطاء مفارِقة ما ألهِمْتَ الطلبَ والسؤال. الغافل المرَكَّب لا يسأل. هو هناك في غرب الغرب، لا في شرقه مثلها.. فما كان جواب مفكرنا في آخر التحليل، بل من أوله؟ الجواب نصيحة بقراءة "كتابنا العزيز". ولو بطريق فيها كثير من الطول والانعطاف والتعريج على ما قاله الخلق طوال التاريخ المتوسطي ودونوه في السجل الهلستيني (هكذا) حتى حدود سد ذي القرنين. لا يهمني السجل الهلستيني. المهم نصيحة مفكرنا التي وضعها كعنوان المراسلة العريض، والعنوان عادة بضع كلمات.. إلا أن مفكرنا لم يكتف بالكلمات، بل مضى في الكتاب رغم حبه للقناعة والكفاف. وهل كانت تستدعي الدعوة لقراءة "كتابنا العزيز" كل تلك التوطئة. "وهل يُصَدَّر بين يدي القرآن" كما تبرأ جاك بيرك في تصدير ترجمته.. يشفع لمفكرنا أن كتابه جاء يحاكي روايات فولكنير أو ماركيز من حيث أن جداول السرد تسيح على هدى جاذبية السوانح والبوارح والبواده برباط بادٍ أو خفي أو حتى بغير رباط. جداول أحداث هناك مقابل جداول أفكار هنا تشكل حركة تاريخ "جوَّاني".. في جبة الشيخ نصح مفكرنا سائلته بقراءة "كتبانا العزيز" وحدد لها حتى الأين والمكان. لولا الاستحالة ربما لنصحها بذات المكان الذي كان رشحه ليكون خلوته مع "كتابنا العزيز". كان مفكرنا هو نفسه يروم تجربة قراءته قراءة متأملة مستبطنة في مركز للسلام في جبال الألب في قلب أوروبا. لكن طلبه رُفض. هل كان ضروريا في ذلك المكان. ألا تفي جلسة متواضعة في شعفة جبل او قرية نائية في مغربنا العتيق بالغرض.. ثم لماذا أعلن نيته ومشروعه فعرَّضَه للرفض؟ ألم تكن تكفي التقية؟ أم هو موروث عزة دفينة بأجمل كتاب على وجه الجغرافيا وعلى مر التاريخ؟ وهل قراءة في عقر أوروبا أفضل من قراءة في عقر الدار. في جبة الشيخ ثانية مفكرنا دون أن يدري ربما. الذكر في مواطن الغفلة والإعراض أكثر نورانية، إذن أكثر خصوبة واستثارة للسوانح والفهوم. ألم يكن الجيلاني يجلس للذكر في السوق، والسوق شاهد أمثل على أمكنة الغفلة. ألم يكن ينادي المختلين المعتزلين أن يخربوا صوامعهم وينزلوا للناس/المدينة. وبضدها تتميز الأشياء وتمتاز.. ويعظم الأجر ويقوى السلوك، وقد تمس مجاوري المركز/السوق نفحة من هداية أو شهية وفضول.. لكن مجاوري مركز جبال الألب رفضوا التجربة. ربما لأنهم ليسوا أوفياء للمنهج التجريبي إلا إن ضمنوا وجهةَ نتائجه. حتى المنهج التجريبي تجربة ذاتية لديهم. ثم الاضطهاد متربص بالقراءة كحال الكتابة.. بدل مركز جبال الألب، لكن على غراره، اقترح مفكرنا على سائلته قراءة "كتابنا العزيز" في خلواتها العائمة في أعالي البحار وأعماقها. هناك حيث تُجْري عادةً بحوثها البحرية لتعرف كيف بدأ الخلق، هناك عساها تجد في طيه بالمقابل كيف بدأت الهداية، وكيف استطاع الحق شيئا يوما ما رغم جاذبية المنفعة، فقلَبَ الحق التاريخ وقلبَ قبله جغرافيا النفوس.. وعلى غرار رجاء جارودي في كتاب "وعود الإسلام" ودون انتظار، أعلن شيخنا/مفكرنا للسائلة أنها ستجد ابراهيم. ابراهيم المبتدأ ودعوته الخبر ودعاؤه المنتهى. ابراهيم منعطف تاريخي. قبله خياران: هداية أو إهلاك بعد طول جهالة وضلال. بعده هداية وإمهال. "إن إبراهيم لأواه حليم." إبراهيم أمان ممتد سواء كان راموزا أو حضورا أو دعاء واستجابة بعد قرون وكمون في لفائف الذاكرة الغيبية والفطرة غير المتقادمة ولا الناسية.. "وما كان ربك نسِيَّا".. ويكفي كشف في لحظة حاضرة ماثلة تمحو الآثار كي يتبدى أنه لم يكن بالأولى.. مَنسيا! يتبع