1- مع ما أصبح يسمى (تجاوزا ومع التحفظ اللازم) ب»أدب الافتراض»، لم تعد للكتابة بُشرة أو جلد أو قشرة تظهر على السطح لتثرثر وتتكلم، ولم يعد الخط أخدودا فريدا في مسارات الأرض. تغير كل شيء، وصار كل شيء حياديا بشكل لا يصدق. الشكل المادي والبصري للخط، الذي يتيحه المخطوط أو الكتاب الورقي فسح المجال للمُتاح والمتبدي والمعمم والمُكَوْكَب إذا شئنا الدقة، ولم تعد هناك مساحة للترسبات والتغضنات والارتعاش.. ليس هناك سوى الأبيض القاتل المريب. ليس هناك سوى الانزلاق كقانون طبيعي للافتراض. 2- يؤدي تغيير أنماط الكتابة إلى تغيير أنماط التفكير؛ هكذا أصبحت الكتابة في عالم الافتراض قابلة للمسرحة، وقابلة للإرباك والتشويش و»الاحتيال» على الحواس.. وبالتالي أصبحت لها قوة «جذب واقتحام» لا يمكن إيقاف تأثيراتها على ما نسميه (تجاوزا) عالم الواقع. ليس هناك نبع ماء، هناك ألوان ملتصقة ببعضها كيفما اتفق، تتعرى بغنج ووقاحة وتطلب صداقتنا خارج الوصفة الانسانية التي نعرفها. 3- من يريد أن يصبح كاتبا الآن، مع الاستثناء طبعا، ما عليه إلا أن يكتب بغزارة وينشر في الحوامل الإلكترونية (المتاحة جدا)، وما عليه إلا أن يختلف حول ما يجتمع عليه الآخرون، ويكفيه أيضا أن يشن حربا لا هوادة فيها على الآباء والأسلاف والأجداد، وأن يخلع البيعة عن رقبته، وأن يعلن أمام الملأ أنه ولد نفسه بنفسه، وأن كل شيء ما خلاه باطل، وكل كتاب ليس له لا محالة زائل (على رأي النابغة الذبياني)، وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن.. وأن يربي حوله، إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، جوقة من الأتباع والخلان والأصحاب لإعانته على الإعلاء من شأن الذات.. ب»جميل» و»مثير» و»رائع» و»هائل» و»مدهش» و»مبهر».. إلى آخر لفظ من سلالة قاموس «التطبيل» المسطح. 4- علينا أن نعترف أن الكاتب (الكلاسيكي) «غير متاح» الآن.. منشغل بذاته التي تخترقها أشياءُ العالم.. منكب على الخلخلة والحلحلة والشك في كل شيء.. يحاول أن يرى العالم من الوسط، وليس من الأطراف. أما «الكاتب الافتراضي»، الذي لم يعش قلق نقاط المراقبة والتفتيش والقفز على الحواجز، فإنه يحمل هما آخر.. وهو هم الوصول إلى «سكان المجموعة الشمسية» ليثير إعجابهم وتصفيقاتهم وينتزع «لايكاتهم» ويصبح حديث كل لسان. إنه إذا شئنا «رائد فضاء» يرى العالم من خرم إبرة.. رجل أعزل ببزة بيضاء ثقيلة وخوذة زجاجية وجسد متأرجح. هل هذه قسوة أم رؤية سلفية؟ لست أدري. كل ما أعرفه هو أن الكُتَّابَ نوعان: الأول يترك جلده مسلوخا على ما يكتبه ليسير في الأنفاق ومجاهل الذات المعتمة، والثاني يعرض سلعته كالحرفي «الصنايعي» على قارعة الأذواق.. وأنا متحيز طبعا للنوع الأول. 5- رغم السطوح المتراكمة التي يفرضها علينا عالم الافتراض، ورغم ثقل التجوال في الأسواق القديمة و»ما يَدِقُّ المسلك إليه» بتعبير الفراهيدي، علينا أن نعترف بأن طريق العودة إلى الورق- رغم كل أشكال المقاومة- لم يعد ممكنا، وأن الأمام هو الافتراض.. ويجب أن نعتلي الأدراج، وأن لا نخاف من ضياع الأوكسجين الذي كانت تتيحه الغابات (العادات) القديمة.. هناك أوكسجين آخر يتيحه كتاب «المواقع الاجتماعية» والمدونات، وهو أوكسجين سريع الاستهلاك، ويتعين علينا أن نعثر على السرعة اللازمة لمواكبته. هناك كتاب رائعون وحقيقيون، اختاروا عن وعي (وعن عمد وسبق إصرار) الانتماء إلى الافتراض، والبحث عن النور القادم بقدر غير ثابت من العدم الواسع.