1 لم يعد استثناءً القول بأن ما كُتب ويُكتب في باب الرواية والقصة القصيرة العربيتين، في السرد عموما، ومنذ أزيد من أربعة عقود، ينزع جله إلى التجديد، ومنه إلى تحديث القوالب، وتطوير الأشكال، وتنويع الأساليب، وتعديد طرق البناء والمعالجة، وأبعد من هذا وأقوى نقل الأدب من رؤيته الواقعية القريبة والهادفة،إلى منظور تأويلي وإيحائي بطرق انزياحية، وأنماط جمالية متفتحة ومتعددة التكوين والتركيب، بما يتساوق مع مجمل مظاهر التطور والتغيير الحثيثة التي عرفتها الحياة والمجتمع ووضع الإنسان ومطامحه فيهما. 2 وإنه لمن الضروري في كل مرة لفت النظر إلى أن تاريخ كتابة النص الأدبي الحديث في الأدب العربي، بجميع أقطاره تقريبا، يكاد يكون ذاتُه تاريخَ تجدُّدِه وانفتاحه على تعددية الأشكال والآفاق. لذلك تتعايش نماذج وطرائق أدبية مختلفة، ويصبح من المبالغة، وقد كان، الحديث عن قطائع أو تحولات جذرية، ومنها إلى إمكانية رصد زمنية تعاقبية تدرّجت فيها المتون وتنامت، وتبلورت في وجوهها التكوينية والتحديثية بشكل ناصع ومنسق ضبطا. ما يسوقني إلى القول بأن كل ما أنشأناه ونواصل هو حديثٌ منذ نشأته وإلى أي جهات ذهب، ومساحات اتسع. وينبغي كذلك أن يخفف من غلواء شباب، سيشيخون بدورهم، ممن يعتبرون أنهم يقتحمون المجاهل ويحققون فيها إنجازات باهرة، نكاية بالجيل القديم الموسوم عندهم بالمحافظة والتقليد. هكذا أحب أن ننظر إلى ما جادت به القرائح، فنكسبه ولا نضيعه أو نستهين به، وحين يظهر ما بعده، يعطي الدليل على أهميته رغم فطرته أو بساطته، في صورة ولادته وبواكيره. ويكتسب ما يليه شرعيته، ويتخذ تراتبيته، ويذهب بالتدريج لخوض المغامرة المنوطة به، في مجال التعبير عن بيئته ومشاعره الذاتية والجماعية، كما تتصورها الذائقة المستجدة، ووقائع العصر المتبدل، بالأسلوب والطرائق الملائمة له والمسوغة، سواء أفلح في ذلك أو عنها زاغ، وما هو إلا يواصل البحث، وهذا من قوة التحديث. 3 قلت إن هذا يتحقق على نحوجليّ ومنتظم في النص السردي على الخصوص، حيث يمكن تبيّن خط تطور طولي، ومسار تتدرّج فيه التجارب وهي تُرسي الأسسَ، وتُعلي البنيان، أصبح طبقاتٍ، كل طبقة فيه يشغلها تيار وأسلوب وطراز حياة، وهي جميعها تسعى لرسم تصور معين، إما الموازي والعاكس تخييليا للواقع، أو متجاوزة له بإعلائه وطرحه على صعيد الممكن والمحتمل وخاصة باقتراح براديغم الإبدال، يرتقي به السرد إلى نموذج التخييل حقا. ونحن نعتبر أن هذا تحقق في المتراكم من إنتاج أدبي سردي في المغارب والمشارق العربية، سواء بسواء، مع تفاوت في الزمن والمثال وقدرة تمثل الخصائص البنائية الكبرى. لذلك نرى الآن بأن هذه الخصائص بالذات باتت بارزة للعيان، وقابلة للحصر في ظاهرة النص العربي المحدث كله، بعد أن حُسم أمر التحديث، فأصبح مناط كثير من الأقلام، بل اتسعت حقوله، وتباينت وجوهه، وتكاثرت مزاعمه أيضا و"انحرفت" إن لم نقل شاهت حدا تشوشت معه اقتراحاته، وتفككت عُراه أحيانا، فيما هو يتأسس بعد. 4 أظن أن المشكل، أو المعضلة الحقيقية بسبب طرح معضلات زائفة أو مغلوطة تكمن في أهمية تعيين وتشخيص عناصر ومحددات ما يسمى تحديثا بحق أو بباطل، وليس مجرد إطلاق التسمية على عواهنها، كما لو أن خدشا في الشكل والمعنى يمثل حتما تجديدا مخالفا. نزعم أيضا أنها ليست النظريات ما يستقرئ التحديث، بل النصوص طالما اتّسمت بمواصلة انفتاحها، ولم تنزع نحو الكمال/ الاكتمال، ولا تقررت نموذجية ومثالية، كنُصُبٍ مبجَّلة. نصوصٌ مشبعةٌ بما يستوقفنا عندها، مما لا نجده في غيرها، سيرا على دليل الكتابة وقواعد التلقي معا، فنصطدم معها، لا بد أن نصطدم، فإما ننصرف عنها مستائين ونافرين، وإما نعاند لنقرأها، لنراها كيف كُتبت وتُكتب، وبأية أدوات، ولأي تمثيل وعالم، من بين أهداف أخرى، نابذين الأحكام والتقويم القطعي،هما معا ينتميان بالدرجة الأولى إلى منظومة قانونية" أخلاقية، إلى حقل الإيديولوجيا، لا الأدب، علما بأن الإيديولوجيا هي ظِلُّ النص. 5 أجل، الأدب،البوابة الكبيرة، طبعا، وتُفضي عبر مرات ومسارات إلى بُويبات، منها المعلوم ومنها المجهول، عملُنا ودليلنا النص أولا والنص أخيرا. هذا ما يوحي به عمل عبد المجيد شكير،لا يقبل أن يبوح بغيره، عبر صوت كتابه:"طائر سبيل كلام النورس المباح"(دار الطليعة الجديدة، دمشق، 2008). كتابٌ يحمل غلافه تجنيسَ "قصص"، سواء وافق، أو من باب الإفتراض، يأخذ في الحسبان حاجة القارئ إلى الدليل، ولا يستطيع، ضمن تربية قرائية متوارثة وتوافقية، أن يتلقى نصا لا يحمل إسم نوعه، ولا يخضع لتراتبية الفنون الأدبية، وإلا كيف يسير في مَهْمَه، أو تُبحر سفينة بلا ملاح؟! نحن نميل إلى أن التجنيس الموضوع سلفا يتهافت وحده من الصفحات الأولى، حيث تتعدد،أولا،العلامات الموجبة لتحويل مجرى التلقي، والكاشفة، ثانيا، عن تغيير مقاصد الكتابة، والمعبرة مجتمعة، ثالثا،عن مفهوم معين للأدب، ينحو إلى الاستقلالية والتفرد،بأبعد عن القواعد، مع الحركة أيضا في مضمارها، في نوع من البينية اللصيقةبكل ما يخضع للتغيير تدريجيا. 6 مدخلنا لرصد هذه الترسيمة الثلاثية وصف كتاب عبد المجيد شكير، من حيث أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو تصانيف: يسمي التصنيف الأول:"كتاب السير"؛ والثاني:"الحالات"؛ والثالث:" بقايا الخطو الأول"، وهذا الأخير بمثابة ملحق تضمّن أوراقا سطّرها يراع الكاتب خلال تمارينه الأولى، وهي ترهص في إطلالات وبواكير بنوع بحثه وأسلوبه. ولنا أن نعدّها مجتمعة مختبرا نصيا تزدوج وتتفاعل فيه طرائق وطرُزٌ من الحكي والقول مُعَيِّنا ومجازيا، تشخيصا وتلميحا، في سجلين متناوبين ومتبادلين للتعبير بين شعر ونثر، يلزم دائما جمعُهما، وأحيانا لمُّ شتاتهما، وشظايا القول، لتركيب الخطاب الحاضن للمعنى أو المبدد له قصدا، هذا حين يفلح في القبض عليه، وإلا فهو يلاحق ضياعه، وهروبه المتعمد. 7 يتضمن التصنيف الأول: " كتاب السير"ما يمثل نصوصا رحلية، متفاوتة الطول، ينقل لنا فيها الكاتب ترحّله في عدد من الأماكن والربوع، العربية والأجنبية، وهو ما يسميه مباشرة:"سيرة السفر" تأتي بعد عنوان:"العناكب تنسج خيوطها لتنتحر"(9 18). وسنلاحظ أنها سيرة شعورية وجدانية، أكثر منها حسية ووصفية، تطفح بانعكاس المرئي على الذات التي تصدر عنها انفعالات تدوّنها في كلمات وتهويمات، من نسغ مادي قليلا، ومجازي غالبا. خذ هذه العبارة:" أشفقت علينا[أمستردام]وأسلمتنا إلى شقراوات، إلى حضن فندق حيث اجتمع سكون العالم.. كأن العالم كله صمت وفسح المجال للطيور تتكلم بدلاعنه.."(11). سيرة مفترضة لشخص/شخصية لا تتسمى،وعدا مطار الترانزيت(أمستردام) لا نعرف من أين ابتدأ سفرها، وإلى أين تمضي، وإذا حطت رحلها في الأخير ففي مكان غير محدد جغرافيا ولكن قبليا خارج الزمن الحالي، فليس في الجغرافيا مكان اسمه"مرابع بني قحطان"، اللهم أن نفترض له منطقة الخليج العربي، هنا حيث تنتقل الشخصية، لا ندري للعمل أو في زيارة، ما نقرأ، بالترميز والتلميح، سابح في التجريد المكاني والزماني، من قبيل:" يخرج الصوت من أحشائي من جديد، نستأنف الحوار السري(من؟!) ونطوف وجودا ممتدا له زمن نهائي يشكّل الأشياء والكائنات بلون الصحراء، وبارتخاء الخلايا حتى تمضي إلى حتفها قبل بروز خيط شمس جديدة"(20). وما وصف هذه المرابع؟ هي:"منازل مترامية شاحبة تنام باستكانة تحت نخل هزيل، وجبال سوداء تحوطها، تحرسها من أن ينفذ إليها الهواء(...) مرابع بني قحطان وجود خارج الزمن العادي، لها زمن خاص ثقيل ورتيب.."(14). يزيد من وطأة التجريد والتعميم إغراق كل قصد أو معنى ممكنين في لُجّة العبارة المجازية المحمولة على جناح الصورة الشعرية،لا سبيل إلى معرفة ضرورتها في سياق كتابة ذات مزعم رحلي:" أخرج من كلماتي المهددة بالنسيان/وأنفض عني غبارا تكلس في الجمجمة/ وأشرع ّذراعي لصحراء تحتويني عنوة.."(17). 8 من هذا القبيل النص الثاني المعنون:" الأصوات: سيرة اللوم والبوح"(1922)عبارة عن أربعة مقاطع، كل مقطع صوت، وكل صوت يتكلم إما لغة فرد أو مجهول، أو صمت أو بحر. ماذا تقول الأصوات؟ هي عبارة عن مناجاة بين الكاتب ونفسه، تستدعي هواجس وأحلاما مجهولة المصدر، مُضبّبة المعنى، يوجد فيها آخَرُ يوجه له الخطاب، هو بدوره غير معلوم، يفترض أنه في موقع المحاور ولا حوار، تمثل الفقرة التالية نوع وسياق الأصوات:" يخرج الصوت من أحشائي من جديد، نستأنف الحوار السري، ونطوف وجودا ممتدا، له زمن نهائي، يشكل الكائنات بلون الصحراء، وبارتخاء الخلايا حتى تمضي إلى حتفها قبل بروز خيط شمس جديد"(20). يتأكد طابع التجريد دائما بالعبارة المجازية، تتوسل البنية الشعرية نسغا وتركيبا، فيما تسلخ عنها جلد النثركلما لبسته، وهكذا تباعا، ما ينحو إلى نوع كتابي غير محدد ولا محصن بأي قاعدة، هل يمشي على غير هُدى، أم يتلمّس طريق تخلّقه خطوة، خطوة، كما لو أنها النشأة الأولى، فيعلن صاحبه:" بي جوع شديد لامرأة تنام في حضن السفر../ بي لوعٌ عنيف لنجمة تسافر في ازمنة الغيّ../ بي توق حميم لنورس هاجر، ولم ينس أن يترك آثار قدميه نشيدا لعزاء الغائبين.."(22). 9 ولا يختلف نص" سيرة الكشف والتجوال" في بنائه وصياغته عن طابع الشبحية والتجريد وانكفاء المؤلف على ذاته في حوارية مُضمرة، كل علاقتها بالخارج، بالفضاء والعلائق المادية الضرورية للحكي ووجود الكائن، لا يتعدى إحالةً إلى ضمائر نحوية لا تسعف حقا في الإضاءة الشخصية، أو ترِدُ فيه الأقوالُ من فم الحكمة ولمقتضى على القارئ وحده أن يحدسه لأن المؤلف يمسح الملامح، وهو يتحرك في اللامكان واللازمان، أو حيث محضورٌ تسمية الأشياء بمُسمّياتها، ولذا لا تحمل شخصياتُ منطقِه غير أسماء نماذج أو أوضاع: "الأصدقاء؛ المثقف؛ الهندي" ومن لا يملك غير شخصية واحدة يسقطها على كل من حوله، هويتها هي اللا هوية، والعالم المحيط يتشكل ويتمعنى بإسقاطاتها أو يصلاه العدم، وإن هي امتلكت هوية محددة، شأن سكان منطقة الخليج التي تمثل غالبية إحالات الكاتب، فإنه يطمسها في التجريد، نازعا عنها الصفة البشرية الحية ليحولها إلى أيقونة أو رمز لمعنى مضمر فيها، أو مُسقط عليها بمثابة حكم قيمة، وذاك ما يستطلعه القارئ بوضوح مثير في:" باب ما جاء في قبيلة بني بهيم"(41) وما بنو بهيم هؤلاء عند المؤلف إلا سكان المنطقة دائما سمّاهم كذلك أو لقّبهم بالسكان الأصليين:" بوفود قبيلة بني بهيم لكثرة بهائمهم وعاداتهم "البهيمية""(42). وإذ تراه يوهم بالتحديد الذي يتطلبه تشخيص القصة، أو الحكاية، سرعان ما يؤول إلى خطاطة الترميز والأيقونية، ليختصر شعبا أو قبيلة كاملة في ثلاثة أسماء أو نماذج، هي:" العنبري، يمثل آخر فصيل منقرض من رعاع بقعة قاحلة لا ينمو فيها إلا الشيح ولا تعتريها إلا الريح..مشهوربنتانته التي تسبق حضوره"(43)؛ الليثي:لاجئ حديث، واحدٌ ممن يتقنون لغات الأعاجم..؛الجزار ساقته ريح هوجاء إلى القبيلة مدعيا أنه يحسن تربية الدجاج بطرق حديثة"(43).والقصد هو التشهير والسخرية، بعبارات وأوصاف فضفاضة مبطنة بالإدانة والتبكيت، أي لا رسم للشخصية، ولا وصف للمحيط، ولا وقائع لمجرى القص ومثله مما يبين معالم سيرة، وإنما نبيٌّ قادم إلى القبيلة هو الشخصية الرابعة المفترضة، ضمير القبيلة نوعا ما، من سيحرض شبابها على التمرد وعبور الشمس(49). 10 في القسم الثاني من كتاب عبد المجيد شكير صنفٌ يسميه:"الحالات"(67 76) يتضمن ثلاث نصوص: حالة رومانسية؛حالة طوارئ؛حالة انتشاء. ويشي كل عنوان بجو أو موضوع الحالة أو القصة المرصودة، تجوّزا، لشخصيات وجدت نفسها في مصادفات أو ورطات وجودية أو حياتية، يختصرها المؤلف باللقطة السريعة، واللمحة البارقة، والإنارة المتوهجة، والحكي اللمّاح المقتضب أيضا. وإن ظهر هذا الصنف من الكتابة في الكتاب مغايرا نسبيا للتدوين السابق،إلا أن النسق الرِّحلي يبقى غالبا عليه، والصورة التجريدية التعميمية أقوى، والعبارة الشعرية أكثر ملاءمة، بما يمثل في الأخير نصا منسجما في ذاته. 11 لا يعني هذا أن عبد الحميد شكير أعلن طلاقا بائنا مع مفهوم القص ونظامه، فهو إذ يُجنِّسُ كتابه بال"قصص" ما ينفك يحرص على التزام أول قاعدة تقليدية فيه، أي الحكاية، ثم يقرنها بشخصية، وبحدث ما، والأغلب متخيلا ومستهولا، مختلفا عن الحدث الطبيعي، العادي، كما هو في الواقع وخاضعا لمنطقه. ونجده، من نحو آخر، كلما تقدم في رسم هذا الخط إلا وطفق يتراجع ويراجع، فيكسر، أولا، أي خطّية محتملة، ويشوّش على علاقات التناسب والنمو القصصي،بالبتر أوالإغفال، وبإبعاد العملية القصصية من المعالجة الحسية، والمقاربة التشخيصية، فإن وُجِدا أغرقهما في المنظور الذاتي، فلا عجب عندئذ أن تفيض خواطر وانثيالات وتتوهج شعرا ومجازات، وتتهجّندوال التعبير ودلالات الخطاب. 12 يقول المثل الفرنسي:"لا تبحث عن الساعة الثانية عشر ظهرا في الثانية زوالا!" والقصد، لا تبحث عن شيء في غير موضعه. هو ما يتطابق مع كتاب شكير، يحسن قراءته، وتلقيه وفق ضوابط غير ما أشرنا وفعلنا، وما ينبغي أن يغرّننا تسميتُه قصصا أو سِيرا أو محكيات أو من قبيله، إذ كل عارض لبضاعة في السوق يحتاج لتسميتها، ولا بديل له ليقبل الشُّراة،إن أقبلوا أو فتجارته إلى بوار، وما التسمية أو التجنيس إلا مسألة اتفاقية Conventionnel . ذا عندنا ما يسمح بالمقاربة الأنسب لكتاب "طائر سبيل.." وإلا ستضيع قيمته ويُغمطُ حقُّ مؤلفه، هو ومن يسير على هذا الدرب وصارعلى هذا المنوال طبعا له. فإن ثمة ومنذ وقت، كما مهدنا، نزوعا إلى تفكيك البناء التقليدي أو المتوافق عليه، أو المقعّد حسب نماذج وأذواق وتصورات بعينها، مقابل طرح إبدالات شكلية وجمالية هي غير ما تأسس وظهر إلى زمن قريب في السرد التخييلي العربي. وحافز أصحاب هذه الدعوة وممارسيها يختلطون بين مجربين وتجريبيين ناشئين، وآخرين شبّوا عن طوق النشأة، أضحى التجديدالدائم ديدنهم وضمان حداثة متواصلة صورة وطموح كتابتهم. والجيل الحاضر بينهم يميل أكثر من غيره إلى إنجاز مراجعات واختراقات من كل طرز، لم يعد يقنعه التعامل المباشر ولا حتى الملتوي مع الواقع، ومفهوم الواقع نفسه صار يمشي على رأسه، وانقلبت مشاهده وموازينه، وأقصى ما يذهب إليه نزوع التحديث هو رغبة ملحة،غير محسوبة العواقب دائما، للانفكاك مما يرونه عائقا ومعطلا لقدرات القول وإمكانات تثوير الخطاب بأشكال، القصد الأجناس التي ينضوي فيها الكلام الأدبي، ويتخذ فيها رسمه ويتبلور معناه. وإذا كانت نصوص بعض التجريبيين قد ادعت مفهوم، وحتى " تقليعة" انفتاح الأجناس على بعضها، وتشغيل آليات كتابية متعددة في نص واحد، سواء بجرأة محصنة بوعي خبرة هذه الأجناس، وهو قليل حقا، أو بجرأة الهاوي، فإن منها ، وقد تكاثر كالفطر، ما يحسب أنه يطور قواعد اللعب فيما هو يفسدها عابثا عبث الأطفال! 13 نحسب تجربة عبد المجيد شكير مدفوعة بحماس الإيمان بأن الأدب في جوهره خلق، ومن يعتنق الكلام باسمه يحتاج إلى القبض على جمره المتوهج، والاحتراق بناره، لكي ينير مسالك غير مطروقة، ويأتي ب"ما لم تستطعه الأوائل"(بعبارة المتنبي)؛ إنه نبيٌّ جديد في أمة الكلام، اللغة أرضُه، والخيالُ المجنح دوما سماؤُه، واجتراحُ النص النقيض والمدمر رسالتُه. لذا نرى من الأنسب أن نغض الطرف عن تجنيسه الإتفاقي، ونقرأ كتابته بوصفها نصا منفتحا على إمكانات تتوالد منه، وليس من نظام أو قواعد سابقة عليه، حتى وبعض متنه متشرب لكتابة الأسلاف ومستنسخ أحيانا لهيئاتهم التخييلية وسجلاتهم اللغوية والبلاغية.ليس ثمة جديد مطلقا،"ما الطليعة إلا الشكل التدريجي، المتفتح في ثقافة الماضي، فاليوم خرج من رحم أمس، وكل روب غرييي موجود في فلوبير، سولرس من رابلي.."(بارت، متعة النص، لوسوي،1973،30). النص بوصفه حقلا يتلقى بذور النفس ولواعج الذات وقلق الروح ووحشة الكائن في الوجود وهواجس القلق من اليوم والغد واللوذ برفقة الكلام الرحب هربا من الكلمات الزنازن والأخلاق والتقاليد واختصارا بالمسكوك. وفي آن، النص وقد صار حقلا مثمرا بفاكهة لا أرضية،لاسمائية، فاكهة شيطانية محرّمة، ولذا فقراءتها وكتابتُها مغامرة، أي جنة وجحيم غير موصوفين من قبل، ولا كنهُهُما معلومٌ سلفا شأن هذين العالمين في الكتب المقدسة، وكما هي النصوص المطمئنة والمنسجمة سلفا. 14 من هذا المنطلق، وبهذا المعنى يظهر شكير صياد كلمات، وعازف إيقاع يكسر اللازمة ورساماً يستهويه إعلاء المجرد على المشخص، لأن الأول مجال بكر "ينفخ" فيه هو"من روحه" ويتعدد بهيولاه، وفي كل مرة يصنع له جسدا، فالنص جسد، والمتعة غايته وغوايته.اتجه إلى هذه البغية بعد أشواط وتمارين: يبدأ حكاية ويتخلص منها، رسم شخصية ويتخلى عنها، واقعة وتتهافت لدى حدوثها، تمثيلا وتتبدد صورته، معنىً ويتلَف في الطريق، عُنوة. تتكون الجملة خبرية وسرعان ما يلوي عنقها لتصبح إنشائية، لتسرح في أفق لا محدود، الأفق الإستعاري، هكذا تتعدد صورُها وترفرف بالألوان، تترصّع الكلمات نجوما هي ما يضيء ليل المعنى، شكير يهوى كلماته، وهو أسير لجاذبية العبارة، وإيقاعها، يطاردها إلى أن يستوي، وهو بذلك من مريدي بارث في مذهب" متعة النص" من حيث إنتاجه وتلقيه. بذا يكون كاتبا، حسب بارث، ليس من يعبر عن فكرته، عن هواه، ولا خياله بالجمل، ولكن من يفكر جُمَله. وهو من يعتبر النص نسيجا وشبكة العنكبوت في آن، في شُغل ونسج دائمين. المتعة التي لا توجد في المناطق المعتادة التي تتكرر فيها اللغة، ولا الطُّرُز المستنسخة،هنا في ما يخلخل ثوابت القارئ الثقافية والذوقية، ويظهر الجديد، الحديث، بمثابة قيمة Valeur والجديد Le nouveau هو المتعة والتلذذ بثمن طلاق النظام القديم، ربما بثمن باهظ، وخاصة في بيئة أدبية تطورها بطيء، وتلقيها خامل نقديا وجاهز سلفا.