الظاهر أنه لا توجد علاقة قوية بين القضايا الثلاث، لكن من يبحث في الجوهر يجد أن هناك روابط سياسية كامنة بين هذه العناصر، تخرج العلاقة من حيزها الضيق إلى نطاق رحب. فاحتلال القدس من قبل إسرائيل، وتكريس وجودها، وفرض سيطرتها على المسجد الأقصى، بما نجم عنه تشريد مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين من ساكني القدس، على غرار الممارسات التي قامت بها القوات السورية في السنوات الأخيرة، والتي أفضت إلى تشريد ملايين اللاجئين من المواطنين، كما أن تصاعد الحديث عن أزمة هؤلاء يمكن أن يؤدي إلى تعطيل الاتجاه نحو التسوية السياسية، التي بدت خلال الأسابيع الماضية أقرب من أي وقت مضى، وهو الطريق الذي تفننت إسرائيل في الابتعاد عنه. بين اللاجئين الفلسطينيين وأشقائهم الجدد من السوريين، مساحات كبيرة من التشابه، فقد جرى اختزال القضية الفلسطينية تقريبا في حل مشكلة اللاجئين، وهو ما يمكن أن تتجه إليه تطورات الأزمة السورية حاليا، بحكم الحسابات المتعارضة لعدد كبير من الأطراف الفاعلة، فقد تم تسليط الأضواء على جيوش اللاجئين التي تتسرب إلى دول أوروبية عدة، بحسبانها قضية إنسانية، يجب أن يتكاتف حولها العالم. الحاصل أن الأوضاع تسير باتجاه تحويل الأزمة الأمنية المحتدمة في سوريا إلى إنسانية، وتناسي أو تراجع الجوهر الأساسي، وهو العنف الذي يمارس من جانب قوات بشار الأسد والحركات المتشددة، كداعش والنصرة وأشقائهما، كما حدث مع الاحتلال الإسرائيلي في الحالة الفلسطينية، إذ تم تفريغ القضية من ثوابتها المركزية والتاريخية، وأضحى البحث جاريا عن تعويضات وحلول إنسانية، تخفف أعباء الحصار والتشريد، من على كاهل بعض القوى الغربية، ولم يعد مصير القدس يهم قطاعات كبيرة. إذا كانت الانتهاكات التي يقوم بها المتطرفون في الأقصى، ترمي إلى ترسيخ واقع جديد لصالح إسرائيل، فإنه يحمد لها المساهمة في عودة القضية الفلسطينية إلى واجهة المشهد العربي والإسلامي مرة أخرى، بعد أن سبقتها قضايا وأزمات كثيرة خلال السنوات الخمس الماضية، وربما تقدم هذه التطورات حبل إنقاذ للمأزق الذي يعيشه محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية منذ فترة، حيث ضاقت به السبل ولوّح بقلب الطاولة على رؤوس الجميع. بالطبع قوات الاحتلال الإسرائيلي لا تريد ضخ الدماء في عروق قضية العرب الأم، ولا يدخل ضمن حساباتها مساعدة أبومازن سياسيا، لكن الخلافات الإقليمية المحتدمة، والانقسامات العربية الشديدة، والمواقف الدولية المرتبكة، أغرت إسرائيل على تشجيع المستوطنين على الاقتحام الجديد، خاصة أنها تدرك أن الحرب المستعرة بين قوى متعددة ضد تنظيمات إسلامية متطرفة، لن تعطي فرصة للالتفات إلى ما تقوم به قوات الاحتلال من ممارسات عنيفة في المسجد الأقصى، بالتالي سوف تمر تجاوزاتها وسط الصخب الإقليمي، ولن تجد من يتصدى لها. فقد مرت القوى الإسلامية، سواء تلك التي قدمت نفسها باعتبارها معتدلة، مثل حماس والإخوان المسلمين عموما، أو متشددة مثل تنظيم داعش وأخواته، بكثير من الاختبارات، وثبت فشلها، وتأكدت دوائر مختلفة أن إسرائيل لا تحتل أولوية بالنسبة لهم جميعا، ولا تمثل اهتماما في الخطاب السياسي، وكلهم اعتبروا احتلالها للأراضي المقدسة عداء ثانويا، مقارنة بعداء الأنظمة الحاكمة، الذي تعاملوا معه على أنه عداء رئيسيا، وحتى على مستوى الدول (إيران مثلا) التي تاجرت بقضية القدس، لم تجرؤ على الدخول في مواجهة مع إسرائيل أو رمي حجر عليها، وجرى توظيف الخلاف الظاهر معها لتحقيق مكاسب سياسية آنية. وهو ما أغرى إسرائيل على فتح الباب أمام الانتهاكات الأخيرة، ومع أن ردود الأفعال الإقليمية والدولية لا تتناسب، على الإطلاق، مع حجم التصرفات التي يقوم بها المستوطنون في القدس، مدعومين من قوات الاحتلال، غير أنها لفتت الانتباه إلى المأساة التي يعيشها جزء كبير من الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأصرت أن قضيتهم يمكن أن تعود أم القضايا في المنطقة، بصورة قد تعيد الكلام إلى مشروع التسوية السياسية، الذي دخل طي النسيان. بصرف النظر عن ماهية المشروع ومدى ما يحمله من مرتكزات أساسية، فإن ما يجري في المسجد الأقصى من الممكن أن يدفع بعض الدول لإعادة التفكير في الحل السياسي للقضية الفلسطينية برمتها، خاصة أن الأطراف الرئيسية على درجة من الإنهاك، وتخشى من تفجر بركان الغضب الشعبي في الأراضي المحتلة، بما يفتح الطريق أمام انتفاضة جديدة، تحرج إسرائيل والولايات المتحدة، وتجذب إليها الاهتمام الإعلامي والسياسي. هذا ما تتجه إليه التطورات في الأزمة السورية، فمع أن مشكلة اللاجئين متفجرة منذ بضع سنوات، لكنها لم تلق اهتماما كبيرا بها، وأخذت تتحرك دوائر غربية أخيرا، بعد أن بدأت تلحقها أضرار الهجرة السورية، وحتى هذه تم تكثيف الاهتمام بها، من أجل وضع عراقيل في طريق التحركات السياسية من جانب روسيا، التي أعلنت دعمها ووقوفها خلف النظام السوري. عندما أرخت المعادلة الروسية بظلالها على بعض الحسابات القديمة، وغلبت التسوية السياسية على الحسم العسكري، تم استدعاء مشكلة اللاجئين، لإحراج النظام السوري ومؤيديه، وتحميله بمفرده مسؤولية تشريد ملايين المواطنين، لكن النتيجة التي يمكن الوصول إليها جراء تنامي الحديث عن أزمة اللاجئين، أفضت إلى مشاكل داخلية لبعض الدول العربية والأوروبية، بعد توظيف أحوال اللاجئين السيئة، واتهام بعض الدول الإقليمية والدولية بالتقاعس عن القيام بالدور الإنساني الواجب القيام به. من هنا يمكن أن تلقى التوجهات السياسية قوة دفع مضاعفة، من قبل بعض الأطراف العربية والغربية، لدعم عملية التسوية، ومن يراجع خطاب دول كانت في مقدمة القوى الداعمة للحسم العسكري أخيرا، سيجد تغيرا واضحا في مواقفها لصالح الضفة المقابلة، وهو المصير الذي يمكن أن تتبلور ملامحه بالنسبة للقضية الفلسطينية، قبل أن تتداخل الأوراق، ويصعب التعرف على نقطة البداية والخط الذي يمكن الوصول من خلاله إلى النهاية.