ظل غراس يعمل على نصوص هذا الكتاب، ويرسم لوحاته، ويتناقش مع ناشره حول شكل المجلد حتى آخر أيام حياته. اختار بنفسه نوعية الورق، قرر أن يكون الغلاف من القماش، وانتقى من الرسوم الكثيرة التي رسمها بالقلم الرصاص تلك التي ستتخلل النصوص، حدّد درجات اللون، وظلاله. بدأ غراس حياته المهنية بتعلم نحت الأحجار، وكحرفي ظل يعمل على كتابه هذا ليقدم آخر تحفة فنية في حياته. لم يمتد به العمر ليلمسه بعد طبعه، ويقلبه في يده، ويجري اللقاءات الصحافية. بعد أربعة شهور من وفاة " قارع الطبل" صدر آخر أعماله. "عن الزوال"... هذا هو العنوان الذي اختاره الكاتب الذي توفي عن سبعة وثمانين عاما (16/10/1927 - 13/4/2015). يضم الكتاب نصوصاً وقصائد ورسوماً تدور معظمها حول الشيخوخة. إنها نصوص رجل يعري نفسه طواعية، يتحدث عن ضعفه وهشاشته بصدق، ويسخر من ذاته برفق. هذه نصوص رجل راض عن نفسه وإنجازه وحياته، ومتصالح مع ذاته، رجل يترقب مقدم الموت، ليس لأنه ملّ الحياة، فهو مستمتع بها، حتى لو لم يبق في فمه سوى سنٍ واحدة. رسم غراس لهذا المجلد غلافاً يغطيه الريش. ريش خفيف أبيض تتلاعب به الرياح، وتنقله من مكان إلى آخر. كما رسم غليونه الشهير، دخان الغليون يتلاشى أيضا في الهواء دون أن يترك أثراً باقياً. لكنه هنا غليون بارد، فالأطباء منعوه من التدخين. أما الحلزون الذي حمل عنوان أحد أعماله في مطلع السبعينيات (من يوميات حلزون) - فهو يخلّف وراءه أثراً لزجاً، لكنه أيضاً زائل. "رسائل الحلزون" عنوان إحدى القصائد النثرية في هذا المجلد: "إلى الأصدقاء الموتى / أكتبُ رسائلَ طويلة، / ورسائلَ قصيرةَ شكاءة، / إلى الحبيبة / التي أضحت منذ سنوات / جلدا على عظم. / (...) / آهٍ، كم أفتقدُهم، / أصدقائي الموتى / والحبيبة / التي ظل اسمها / حاضرا في الدرج السري / قابلا للتكرار إلى ما لا نهاية. / (...) أرى الحلزون في طريقه إلى البريد / وأرى نفسي أحاولُ بصبر كل مساء / فكَ شفرة أثره اللزج / وقراءةَ ما كتبه الصديق الميت / وما كتبته الحبيبة." وأطول نصوص المجلد هو النص النثري الذي يصف فيه بسخرية باعثة على الابتسام ذهابه هو وزوجته أوته إلى النجار، ليصنع لهما تابوتين، تابوتاً لزوجته من خشب الصنوبر، وآخر له من خشب البتولا. وعندما انتهى النجار من عمله، رقد كل منهما في تابوته. تمد أوته يدها بعد ذلك لغراس وتساعده على النهوض، وتقول له: خسارة، ليس معي آلة تصوير. وعندما يسألها عن السبب تقول: كنتَ تبدو راضياً سعيداً. وعلى رغم الرضا الذي يشعر به القارئ في عدد من نصوص الكتاب، فإن غراس كان يتملكه الخوف أيضا، "الخوف من الفقدان"، مثلما يقول عنوان إحدى قصائده: "ربما تسبقينني. / وربما يسبقني مَن تبقى مِن أصدقاء. / القائمة تطول كل يوم." ذهبت القُدرة، يقول غراس، وبقيت الرغبة، كغليون محشو بالتبغ، لكنه مُطفأ. ويختتم الشاعر هذه القصيدة بقوله: "?بحثتُ مؤخرا " وهو ما يحدث كثيرا " / عن مِمحاتي. دون جدوى. / الخوف " هذا الكلب - هجم عليّ: / بعد أن فقدت سِني الأخيرة، / قد أفقدُ هذا أو ذاك، / الحجرَ الذي دحرجتُه، / وأنتِ أيضاً، / يا مَن سددتِ عني / خساراتي الأخيرة".? عن الغرباء لن يكون غراس هو غراس، لو خلا كتاب له من السياسة، حتى لو كان كتابه الأخير الذي يتحدث فيه عن الزوال والفناء. بسخرية لاذعة ينتقد غراس أسلوب المستشارة أنغيلا ميركل في الحكم دون أن يسميها بالاسم، ويقول في قصيدة عنوانها "ماما" (وهو اللقب التي يُطلق عليها في ألمانيا): "ما قد يثير الضيق / يُغلَف بصمتٍ بليغ / ثم تقولُ هي بكثير من الكلمات: لا شيء. / من يتجاوز حده، / يُلتَهم، / ويصبح في اليوم التالي طعاما للإعلام.". لو كان غراس يعيش في ألمانيا الآن، لما ترك الساحة السياسية للمتطرفين اليمنيين وممتهني السياسة. في كل يوم تصحو البلاد في الآونة الأخيرة على نبأ حريق متعمد في أحد مقرات استقبال اللاجئين؛ وبينما يهلل أنصار اليمين، لا يسمع أحد للكُتّاب صوتا. لا أحد يحذر أو يدين، أو يُصدر بيان شجب، أو يذهب للتضامن مع اللاجئين. نعم، لقد تغير الزمن، ولم يعد الأدباء في ألمانيا يقومون بدور المحذر والناصح والواعظ، مثلما كان يفعل غونتر غراس طوال عقود. في سنوات التسعينيات خرج غراس للتظاهر تضامنا مع عائلة تركية أحرق النازيون الجدد بيتها. وعندما قرر الحزب الاشتراكي في عهد المستشار غيرهارد شرودر تشديد قوانين اللجوء للتقليل من أعداد النازحين، استقال غراس من عضوية الحزب احتجاجا. كانت هذه مواقف صادقة، نابعة من قلبه، وليست للاستهلاك الإعلامي. وهي مواقف مستمدة من سيرته، ومما صادفته عائلته بعد الحرب. هذا ما يتعرض إليه غراس في قصيدة آنية للغاية بعنوان "معاداة الأغراب"، يصل فيها الماضي بالحاضر، ويستحضر خبراته الشخصية بعد الحرب العالمية الثانية، لتبدو القصيدة وكأنه يتكلم عما تعيشه أوروبا حالياً خلال نزوح آلاف اللاجئين إليها. عندما نزح ملايين من الألمان، "بمتاع قليل، وذكريات ثقيلة"، من المناطق الشرقية التي فقدتها ألمانيا بعد الحرب، أجبرت الدولة آنذاك سكان المناطق الغربية على استضافة اللاجئين في بيوتهم. هذا ما حدث لعائلة غراس التي هجرت دانتسغ لتستقر بصورة مؤقته بالقرب من مدينة كولونيا. كان الأب والأم والأخت يعيشون في غرفة واحدة في حظيرة مزارع وجد نفسه مجبرا على إيواء هذه العائلة المشردة. لم يكن مُرَحَبا بهم، وكان المزارع ينتهز كل مناسبة ليصرخ في وجوههم: "عودوا من حيث أتيتم؟ !" مكث الغرباء ولم يغادروا، يقول غراس في قصيدته، ولكن بقيت الصيحة، عودوا من حيث أتيتم: "وعندما أصبح السكان الأصليون / غرباء تماما عن أنفسهم بما فيه الكفاية / بدأوا يتعرفون على أنفسهم / عند النظر إلى كل هؤلاء الغرباء / الذين تعلموا بمشقة / أن يتحملوا غربتهم / ثم شرعوا يعيشون معهم".