"قارع الطبل غادرنا"... هذه الكلمات المعبّرة تتردد على شفاه الكثيرين في ألمانيا والعالم بعد أن ودع غونترغراس الروائي والشاعر والكاتب والرسام والنحات، الحياة في مستشفى مدينة لوبك في شمال البلاد محاطاً بأفراد عائلته عن عمر يناهز السابعة والثمانين. مات الإنسان الذي يُجمع الكثيرون على أنه شغل بلده بعد الحرب العالمية الثانية، وشغل أوروبا والعالم أدبياً وسياسياً واجتماعياً، كما لم يفعل كاتب آخر في القرن العشرين. حين سئل مرة إن كان يخاف الموت أجاب غراس: "لا أخاف من الموت، ولكنني أخاف من نسيان الناس لي بسرعة". لا أحد قادر على التنجيم في المستقبل، لكن خبر وفاته والتعليقات عليها، وردود الفعل التي صدرت من أعلى المسؤولين في الدولة وفي المجتمع في ألمانيا وخارجها خير دليل على أن أعماله وكلماته ستعيش طويلاً في عقول الناس وضمائرهم. وليس عبثاً أن تجرؤ وزيرة الثقافة الألمانية مونيكا غروترز في تعقيب لها على وفاته عن وضع إرثه الثقافي إلى جانب إرث الكاتب العظيم يوهان فولفغانغ فون غوته والكاتب الكبير توماس مان، اللذين يجسدان الضمير الثقافي للألمان، لو لم تكن متأكدة مما تقوله. الكاتب غير المهادن في حياته العامرة بالنقاشات الأدبية والفنية والسياسية، بدءاً من صعود نجمه في أواخر خمسينات القرن الماضي، رفض غونتر غراس باستمرار لقب «الأديب القومي»، لكنه تحوّل رغماً عنه شيئاً فشيئاً ليحمل ليس فقط هذا التصنيف، بل وليصبح أيضاً أديباً عالمياً و"سلطة أخلاقية" تفعل فعلها في المجتمع، وتقاس المواقف والآراء بها، بخاصة بعد نيله جائزة نوبل للآداب عام 1999. ويعود الفضل في ذلك إلى روايته الخالدة «الطبل الصفيح» الصادرة عام 1979 التي تعد تأريخاً سياسياً لا مهادنة فيه لما شهدته أوروبا والعالم على يد هتلر والنازيين خلال الحرب العالمية الثانية بأسلوب أدبي رمزي. واختار غراس أن يتحدث عن نفسه من خلال شخصية الطفل أوسكار الذي قرر ألاّ يكبر بعد أن أصبح عمره ثلاث سنوات وعايش كل المراحل النازية على هذه الصورة، بدايةً متضامناً مع النازيين ومحارباً معهم لفترة، ثم الوقوف ضدهم وضد والده العضو في حزب هتلر. والرواية هذه التي أوصلته إلى جائزة نوبل هي أول جزء من «ثلاثية دانتسيغ» التي كتبها وتضم روايتي «القط والفأر» و"سنوات الكلاب" (المعنى الحقيقي بالألمانية هو سنواتٌ كلابْ) ويحكي الكاتب فيها عن الأحداث الدامية التي شهدتها ألمانيا في النصف الأول من القرن العشرين بعد إشعالها حربين عالميتين، واعتناقها سياسة عنصرية مجرمة ومقيتة ضد الآخر، وخسارتها الفادحة في حربين وتدمير البلد وتهجير شعبه وصولاً إلى التحرر من النازية على يد الحلفاء، وبناء نهضة إنسانية ومدنية سياسياً واقتصادياً وتشريعياً. ودانتسيغ هي المدينة التي ولد فيها الكاتب عام 1927 من أب ألماني وأم بولندية، وتقع في شرق ألمانيا الذي اقتطعته بولندا بعد الحرب تعويضاً عما اقتطعه الاتحاد السوفياتي من شرقها. ومع ذلك ناضل غراس لاحقاً لكي تُسقط ألمانيا الغربية مطلبي إعادة شرق البلاد وإرجاع الألمان الذين هربوا من أمام زحف الجيش الأحمر. وفي عام 1990 وقّعت ألمانيا الموحدة على اتفاق خاص مع الحلفاء الأربعة ومع بولندا تعترف فيها رسمياً بالحدود القائمة مع بولندا. وكان غراس يعرف جيداً أن هذه الخطوة ضرورية للسلم في أوروبا ولتعويض بعض ما تعرض له البلد المجاور من دمار وقتل على يد جيش هتلر. وبفضل موقفه هذا منحته بلدية المدينة صفة «مواطن شرف»، وهي المدينة التي لم ينسها وكان يزورها باستمرار لاستلهام العديد من كتاباته. لم يُخفِ غراس أبداً مواقفه السياسية الداعمة للحزب الاشتراكي الديموقراطي. ولطالما فاخر بصداقته مع رئيسه فيلي برانت الذي فاز لاحقاً بمنصب المستشار، ولعب دوراً كبيراً في خفض منسوب التوتر والحرب الباردة بين دول حلف الناتو وحلف وارصو كما بين الألمانيتين، وانتسب إلى الحزب ثم خرج منه بعد بضع سنوات احتجاجاً على قيام الأخير مع الحزب الديموقراطي المسيحي بتعديل قانون الأجانب في البلاد للتضييق عليهم، وشعر أنه حرّ أكثر خارجه. وفي هذا السياق بقي غراس حتى آخر رمق وفياً لمبدأ الدفاع عن اللاجئين إلى ألمانيا وأوروبا. وآخر كلام قاله في هذا الصدد كان قبل أشهر قليلة في اجتماع لنادي القلم بحث مسألة الدفاع عن حقوق اللاجئين الهاربين من الحروب والنزاعات، والفقر والبطالة في بلدانهم، بعد قيام اليمين المتطرف والقوميين المتشددين بتنظيم تظاهرات ضدهم. نصير اللاجئين ذكّر الراحل مراراً أنه كان أحد الألمان الشرقيين الذي التجأوا إلى غرب البلاد هرباً، وعاشوا لفترة في مقرات ومخيمات، وشعروا برفض مواطنيهم الغربيين لهم كما يشعر اللاجئون الأجانب اليوم. وطالب الكتّاب والجميع برفع الصوت عالياً دعماً للاجئين، وتأمين حتى مخيمات لهم إذا دعت الحاجة. وذكّر أيضاً بأنه لولا اللاجئين الألمان من الشرق والعمال الأجانب المستقدمين إلى البلاد بعد الحرب لإعمار البلد لما تمكنت ألمانيا الغربية من بناء اقتصادها من جديد. وكاد هذا التاريخ من العمل الأدبي والنشاط السياسي والاجتماعي الناصع البياض الذي بناه الكاتب الراحل أن يتعرض إلى اهتزاز شديد بعد نبش بعضهم ماضيه واتهامه بأنه شارك في الحرب ضد الحلفاء فيما كان يعيّر الآخرين بذلك. وبقي غراس صامتاً إزاء التشهير به إلى أن أصدر روايته «تقشير البصل» التي ضمّنها أيضاً سيرة ذاتية كشف فيها دون إنذار مسبق أن والده كان عضواً في حزب هتلر. كما في رواية «الطبل الصفيح»، وأنه تأثر به إلى حد انتسابه إلى شبيبة هتلر وتطوعه وهو في السابعة عشرة من العمر للقتال في صفوف الجيش الألماني قبل استسلام الأخير بقليل. وذكر أنه طلب الانضمام إلى القوات البحرية، إلا أنه أرسل إلى فرقة «إس إس» النازية التي كانت من مهماتها حراسة المعتقلات وخوض أعمال قتالية، لكنه تركها بعد ستة أسابيع. وقال غراس إن الشعور بالذنب لم يغادره طيلة حياته، وإنه كان ينتظر الوقت المناسب للإعلان عن ذلك، مضيفاً أن كل نشاطه السياسي والأدبي المعادي للفكر النازي وللعنصرية بصورة بارزة كان نوعاً من التغريم الذاتي للخطأ الفادح الذي ارتكبه وهو شاب يافع. وقبل ثلاث سنوات أثار الراحل الكبير حنق إسرائيل ومؤيديها في الداخل والخارج من جديد إثر نشره قصيدة بعنوان «ما ينبغي أن يقال» اتهمها فيها بأنها بامتلاكها القنبلة الذرية منذ زمن هي التي تهدد السلم في المنطقة والعالم لا إيران التي لا تمتلكها بعد. ودان بشدة تزويد ألمانيا الدولة العبرية بالأسلحة والغواصات، مشدداً على أنه كان عليه أن يضع النقاط على الحروف لأن الكثيرين لا يجرؤون على ذلك. ومن بين كل الدول العربية زار الكاتب الراحل اليمن مرتين بين عامي 2003 و2004، واصطحب معه في المرة الأولى أدباء وشعراء ألماناً أهمهم يواخيم سارتوريوس، وانضم إليهم شعراء عرب مثل محمود درويش وأدونيس للمشاركة في لقاءات ثقافية، إلى جانب هدف غراس التعرف على العمارة اليمنية التاريخية التي تقوم على استخدام الطين في بناء ما يشبه "ناطحات سحاب". ومن المعروف أن غراس طبّاخ ممتاز، ويتمتع بشهية كبيرة. ويبدو أنه كان يعشق الجوز واللوز والمكسرات عموماً، الأمر الذي يفسر طلبه من أصدقائه أخيراً بأن يضعوا عند دفنه كيساً كبيراً مليئاً بها قربه. *** سيرة الأديب غونتر غراس غونتر غراس أديب ألماني (16 أكتوبر 1927 - 13 أبريل 2015) ولد في في مدينة دانتسيغ (ضمت إلى بولندا بعد الحرب العالمية الثانية). شارك غونتر غراس سنة 1944 في الحرب العالمية الثانية كمساعد في سلاح الطيران الألماني. وبعد انتهاء الحرب وقع سنة 1946 في أسر القوات الأمريكية إلى أن أطلق سراحه في نفس السنة. يعد غونتر غراس أحد أهم الأدباء الألمان في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حاز على جائزة نوبل للآداب سنة 1999. عاش آخر أيامه بالقرب من مدينة لوبيك في شمال ألمانيا. درس غونتر غراس فن النحت في مدينة دوسلدورف الألمانية لمدة سنتين (1947 1948) ثم أتم دراسته الجامعية في مجمع الفنون في دوسلدورف وجامعة برلين (1946 1956) حيث أكمل دراسته العليا في جامعة برلين للفنون لغاية سنة 1956مسيرته الأدبية والكتابية نالت روايته طبل الصفيح، شهرة عالمية كبيرة وترجم هذا العمل الأدبي إلى لغات عالمية كثيرة من بينها العربية أيضا. وهذه الرواية هي جزء من ثلاثيته المعروفة ب «ثلاثية داينتسيغ» وتضم أيضا الروايتين «القط والفأر، و»سنوات الكلاب»، ومن رواياته المشهورة هناك أيضا «مئويتي» و»مشية السرطان». حصل غراس في سنة 1999 على جائزة نوبل للآداب عن دوره في إثراء الأدب العالمي وخصوصا في ثلاثيته الشهيرة «ثلاثية داينتسيغ» بالإضافة إلى جوائز محلية كثيرة منها جائزة كارل فون اوسيتسكي سنة 1967 وجائزة الأدب من قبل مجمع بافاريا للعلوم والفنون سنة 1994. وفي سنة 2005 حصل على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة برلين. تعرض في أبريل 2012 إلى موجة انتقادات بعد نشره لقصيدة نثرية بعنوان «ما ينبغي أن يقال» بالألمانية قال فيها أن إسرائيل من خلال تحضيراتها لضرب المنشآت النووية في إيران تمثل تهديداً للسلام العالمي، ولدرء هذا التحديد يجب التكلم الآن، وأنه سئم من نفاق الغرب فيما يتعلق بإسرائيل، وأهوال النازية ليست ذريعة للصمت. وانتقد بلده ألمانيا على بيع غواصات يمكن تجهيزها بأسلحة نووية إلى إسرائيل، وشنت وسائل الإعلام الألمانية، مثل دي فيلت ودير شبيغل، حملة عليه تتهمه بمعاداة السامية مذكِّرةً بأنه خدم في شبابه في قوات إس إس. وقد طرح غراس في قصيدته أن إيران وإسرائيل كليهما يجب أن تخضعا لرقابة دولية على أسلحتهما النووية. أهم كتاباته الأدبية كتابات سردية: - ثلاثية داينتسيغ - طبل الصفيح - القط والفأر - سنوات الكلاب - تخدير جزئي - اللقاء في تيلكتي - الفأرة - مئويتي - الرقصات الأخيرة مسرحيات - الطهاة - الأشرار - الفيضان