كان الترقب و التلصص على لوحات هنتاي يشكلان لزوما و ضرورة في جغرافية كتابة قادمة. حيرة و صعوبة تحاولان لمس إنجازاته بالمعنى الذي يعطيه جاك دريدا لهذه الكلمة ? ?تماس و انزياح في التماس، تباعد?. حيث في هذه الشدفة المفتوحة نتمثل، في تمتمة، استحالة التصوير و تفرده في أعمال هنتاي. متنه يكسر بيضة رمزية، على طريقة ملارميه، ليزرع و يغرس فنا صعب المراس. و هذا الصعب هو ما يثيرنا كأجسام أمام/في أعماله و يجعل من الكلمات تتوتر في طية أقمشته. كتابة التوتر تصير لزوما وضرورة مقلقة. إنها الحاجة في الصعب التشكيلي. الفن مع هنتاي مسافة قصوى. ثلاجة معرفة. حتى اللون يقول ويتحمل مسؤولية إمكانية المستحيل. إنه هنتاي في آخر المطاف. ندخل في فضائه كي نخرج سريعا بخفي حنين. كيف ننقل و نغير وجهة الكتابة متجهين إلى تكوكب القماش في متن لن يكون حلا تشكيليا أو فنيا. و لما هذا الفنان يكسر البيضة، كما ذكرت، يحفزنا على أن نستشف أن الأعمال الفنية المعاصرة، بما فيها التشكيلية، تتكون في غرابة غريبة إلى حد الخراب و الدوخة. و في هذا السياق، لست أتكلم عن فن معاصر نوعي و عام؛ بل عن لوحات حين نقف أمامها أو نحاول ذلك، يصير موضوع سؤال الفن (أو أسئلته) كالتالي: - كيف تتحدد تجربتنا في العالم عبر الفن عموما، المعاصر منه خصوصا و كيف نتمثلها؟ - ما الذي يحدث في داخل لوحات هنتاي خارج الإطار؟- أين نلامس المعنى حين الفنان نفسه مشغول بالاشتغال ضد المعنى القطعي و الجاهز للأخذ و البيع أيضا؟ أسئلة تنخر هذا الفنان المتميز بعمق صباغته و التفكير فيها بشكل نادر اليوم. يجب أن نعرف أن هنتاي من صنف الذين يعطون شكلا أو جسما لهذه الأسئلة عوض منحها معنى ما. هو القلق. هو الذي يضرب عن الممارسة ليعود (علما أن كل إضراباته الفنية، التي دامت سنوات طويلة، لم تكن توقفا فعليا بل وسيلة للتفكير بشكل راديكالي في مرسمه النورماندي شمال فرنسا) و يصفع المشاهد و المتتبع اليقظ بتعقيد لوحاته أكثر و أكثر رغم بساطتها المحرجة Apor?tique. حيث صيرورة اللوحات و كيفية إنجازها تنحو نحو مستحيل ممكن فقط في لا استحالته. إنه الخراب: رغبة تشكيلية تجاور و تلامس أقصى درجات الحقد على الفن ذاته. قطيعته المبكرة مع السرياليين في الخمسينيات من القرن الماضي، رفضه على العرض في الثمانينيات من نفس القرن، إلخ... علامة على المسافة التي رقمت مسيرته اللامحتملة مع الفن المعاصر. ربما كانت مسيرته حربا و تأنيا إلى حد القرف طازجا كما لو قشدة. إنه نادر أمام ما يحدث في الفن المعاصر من أعمال لا تكون معاصرة إلا من تاريخها على الروزنامة. لذلك صباغة هنتاي قريبة إلى صنف من المعاصرة التي انتبه إليها الشاعر ك.بريجان في كتابه الموسوم بما لا يمكن احتماله، تقول صعوبة لمس العالم - ضعف امتياز إنساني للبصر و الكلام- كي تلمسنا (أي المعاصرة) بطريقة شبقية. اللوحة مع هنتاي إحالة على مسافة و تحويل لحركة تشكيلية داخلية ومعقدة. أحيانا، أحاول قراءتها باليد عوض اللسان مرورا بالكتابة. غير أن صمت هنتاي الذي يشاطئ صمت رامبو، يدفعنا أن نعيد النظر فيه. كأن صمته قميص جبري للمجانين. قميص جبري جمالي. قميص صمت منهوك. لأن المنهوك لا علاقة له بالمتعب. جيل دلوز يقول بهذا الصدد إن المتعب يضني فقط إنجاز العمل، فيما المنهك ينهك المستحيل برمته. هذا ما يفعل هنتاي. ينجز لوحات في مستحيل منهك و منهوك في نفس الوقت. جمل دخيلة إلى هنتاي: [... لم أتوقع ،يوم رأيت مباشرة لوحته، المصيبة التي حلت بي. شبه قلق جمالي أمام الثنية كنهج و مسار مقذوف. في اللوحة و في شرر هنتاي ذكريات مستقبل ما. لما رأيت، رأيت الحقيقة في الفن. ألا أكون بهذا الشكل مغرورا؟ اللوحة معه غرور. و كل ما هو معاصر ادعاء و غرور. لا حل لنا غير إخراج مسافة كإخراج شريط سينمائي. هو الذي شكل صديقية شعثاء مع الفيلسوفين نانسي و دريدا. حركة دخيلة لممارسة الصباغة بشكل آخر. بين مقص ماتيس و عصا جاكسون ?ولوك، كان يفكك اشتغاله في الثنايا و الطي ليعيد عبر اللامرئي و المخبوء حضورا و مسافة تشكيلية. معه سماء تنفلق. ثم النسخ يأخذ هيئة كتابة تشكيلية لا قشرة أوزون لها...] صراحة، نصاب بالحرج و نحن نحاول التقرب أو الدنو من أعماله. كيف لنا أن نستسهل ما أنجزه هنتاي بصعوبة تنفتح على سماء متكوكبة. عوض أن نقرأ اللوحة، نسقط في سمائه لا محالة. في غضون سنتي 1958 و 1959، رسم لوحتين فقط في تراجع و انسحاب مقصود. في الصباح، يرسم لوحة كبيرة القياس (329,5(424,5 سم) سماها كتابة وردية (Ecriture rose). لمدة أسابيع، يهيئ هنتاي القماش/السند إلى أن يصير مسحولا، أملس، أبيض لتبدأ فيما بعد عملية تشكيلية معقدة: تكوين لوحة كتابة. حيث كل يوم، يملأ و يقي القماش الهائل ليعيد ملأه و تغطيته بزيت أبيض ثم يكشطه عدة مرات بصفيحة من معدن ثم يغطي العمق المهيأ، شيئا فشيئا، بنصوص من التوراة و أخرى فلسفية لدلوز، دريدا، كييركيغارد... كل ذلك بشغف كبير. الكتابة في السند عبر طبقات متعددة من الحبر الأحمر و البني و البنفسجي. كلمات مصبوغة مضغوطة إلى حد أنها تصير لا مقروءة (الكلمة تلتصق بالأخرى في طبقات لونية وهي تمر عبر خرم الريشة كأداة) في نهاية المطاف. شغل نساخ و ناقل في كارتوغرافيا مليئة بثقوب تنحو بنا إلى خراب فني ما. إنها اللوحة مكتوبة بيد هنتاي. اللوحة المكتوبة التي مكنته الخروج من صباغته ليغطس و لمدة سنة، بشكل يومي، في الرسم و التصوير عابرا مسلكه الروحي و الموضوعي. فضاء اللوحة يتحول إلى all over. الفنان يعمر إذا بياض العمق منفتحا على تكوكب يكون بمثابة ثوب فكرنا في الفن، على حد تعبير الفيلسوف ج. د. هوبرمان. هذا الأخير أصدر سنة 1998 مونوغرافيا في مسيرة هذا الفنان المحتدمة (لأن هنتاي فعلا محتدم)، حيث كانت الرسائل المتبادلة بينهما و اكتشاف مرسم الفنان محركا فقريا للكتاب، إذا جاز تعبيري. جمل أخرى دخيلة مرة أخرى إلى هنتاي: [تحك. تقشر. تكوي القماش. تدفنه. يضحى التصوير عضويا. ثم تتراجع في خراب يستحيل السكن فيه. ألا تكون في ذكريات المستقبل تحمل مقصا و قطعة حديد لترسم ماحيا كل أثر. نعم. أرغب في كتابتك الوردية على مائدة بالقرب من ثقب متحف أو صالة عرض. أعرف جيدا أنك تمقت الأمر. و حسنا تفعل. تراسل كي لا ترسم. عفوا تراسل لتصبغ ضد. تراسل لتحتدم أكثر. هنتاي. إنك لست من العائلة. و حسنا فعلت. تحك/تقشر/تكوي القماش. كي نصير ثوبا في فكرك اللامقروء. صه، هنتاي.] الرؤية تجب، و يجب أن تكون قابلة لتحمل المعاصر في لوحات هنتاي. كما لو أن شبح دريدا و نانسي يكاتف المستحيل القابع في ثنايا القماش. إنه -أي هنتاي-يتقيأ الفن لما يمارسه، كدريدا الذي حين يفكك يدفع الفلسفة و الكتابة إلى القيء. هذا إذا ما اعتبرنا أن التفكيك أثر للمستحيل أو تهافت مثقوب في أحجبة الفن مثلا، أو في أشكال تعبيرية أخرى(...) و من هنا تمنحنا لوحاته فرصة البحث عن شيء ما في حيز تعمره حرب تشكيلية بالكاد. حيث لا بد من حرب ما للدخول في حيثيات و كثافة ما نرى. اللوحة لا توجد، في رأي هنتاي إلا إذا حلت محل نفسها. أي أنها تصير بديلا فنيا و تشكيليا في مساء و سماء خراب المستحيل. اللوحة إذا، و دائما، في مستقبل يستقبل ما يجيء فنيا. أ رأيتم الصعوبة التي تتشكل في شبكة زمن اللوحة النفسي. مصيدة، مجزفة و أحبولة ترمي بنا في تكوكب الشيء الذي نسميه السند أو ثوب الفكر اليقظ و المحتدم. ثم المعنى، الذي يبحث عنه المتلقي عموما، يحاول الظهور ملتبسا و مشتبها فيه. شرغوفا يصير في مساحة القماش و طريقة الاشتغال. مع هنتاي، الفن يقاوم ( أو يصارع!) ضد المعنى الواضح (الجلي!)، لا يقترح قراءة سهلة تقارب المعنى بشكل سطحي (ظاهري)، ولا يقبل بالعالم (لا يوافق على...). ألا نكون قريبين، شيئا ما، من الشاعر و المنظر ك.بريجان حين يحسم قائلا بأن للفنانين المعاصرين، كالجميع، ثقبا في الرأس (الحداثة ثقب!). لأننا في آخر المطاف محاطون بأكاديميين حديثين. نظرة سريعة وخاطفة تكفي كي نفهم! لنعد الآن إلى غضون سنتي 1958 و 1959، حيث في الصباح، كما ذكرت، كانت لوحة الكتابة الوردية. أما بعد الزوال، و يوميا أيضا، عكف هنتاي على لوحة ثانية موسومة ب: إلى غالا بلاسيديا(? Galla Placidia)، نسبة إلى ضريح يحمل نفس الاسم في إيطاليا شهير بفسيفسائه النادرة. لوحة من قياس كبير جدا أيضا. هذه المرة، لمسات تتكرر بطريقة تهشم و تنهك ضربة فرشاة غنائية، كما ألفنا أن نرى في بعض المعارض. إلى غالا بلاسيديا، اللوحة التي تلخص مع الكتابة الوردية علاقة هنتاي بالتصوير و تصويره هو. حيث جعل من زلزال التوقف عن ممارسته للصباغة مطلقا عنيفا جدا. إن الشعور بعجز و حصر فنيين كان حافزا على اقتضاب عمله و تكثيفه لمدة سنة في لوحتين. أترون هذا العنف الجمالي، هذا الصعب الذي لا رأس له Ac?phale؟ في تحصنه، يتخندق الفنان ليفكر في تفكيك الأثر و تدبير خراب مستحيل. العين في محنة مساء الفن. جمل دخيلة للمرة الثالثة إلى هنتاي: [ثم تواصل. ثم تكره ما يلمع حولك. لك في العالم شيء كما لو إبرة في العين. ثم كما لو حيز مانع التخثر. ثم أتذكر معك أن العالم مائدة. فكرك مائدة. لأن ما يجري لا يليق بك. تترك. هم. و تمشي في اللون. لا تراسل غير متن الصعوبة كي لا تدخل في العائلة. جيد. ينبغي أن نعود من جديد. ثم ندور. كما لو المتن يضحى ثنايا. كل شيء ثنية. تاريخ الفن طي في مائدة. خراب مستحيل. ثم نغير الاتجاه. معك. هنتاي. في مساحة أقمشتك.] لا يمكن المشي مع هنتاي في ممارسته للصمت و التصوير، إلا إذا دخلنا فعلا في صباغته كي نتحمل عناء الدخول لنرى ما يحدث. فلندخل إذن في حكايات حيزه أو مقامه الجمالي. إذن، ندخل الآن لوحات شرع في إنجازها ابتداء من سنة 1960. مساحات قماش كبيرة سماها ب? الطي كطريقة?. هذا الحيز مكن هنتاي من دعك القماش ليطلي سطحه فقط، دون المبالاة بالمساحات المحدبة. بهذا الشكل يسائل الرابط و العلاقة بين المصبوغ و اللامصبوغ. سابقة جمالية! و لما لا؟...سابقة بمعنى أن هنتاي قادر على تقفي الأثر (و محوه في نفس الآن) القادم من ماتيس و ج.?ولوك ليقوم بعملية الطي و البسط. القماش معه إذن لحمة جمالية. القماش المطوي و المكوي و المدعوك في اشتغال دائم. إنها استحالة التصوير في تكوكب. حيز حكايات صعبة في ترحيل تشكيلي. Transf?rement plastique و في هذا الترحيل، الطي يتحول إلى بسط القماش حيث نتيجة الفعل الفني تخلق اللوحة. صيرورة بسيطة أنتجت أهم الأعمال التصويرية في القرن العشرين. بساطة صعبة كما ذكرنا أعلاه. استعمال العصا أو المقص لصباغة قماش أضمرت ضربة جمالية إلى الممارسة التقليدية: تلك التي يمارس الفنان من داخلها مستعملا الفرشاة كأداة. و كل مرة، حين ينتهي من التصوير، يفتح هنتاي ما طواه و ما ربطه في القماش، لتكون النتيجة دائما مفاجأة و بداية مستمرة. الفنان هنا لا يتحكم في شيء اللهم صيرورة العمل فقط. حيث ما داخل القماش، و الذي يختبئ(الأبيض)، يضحى أهم مما صبغه. هنتاي يصور إذن و هو ينظر عبر النافذة أو أي شيء آخر. كأن تاريخ التصوير حسب هنتاي ما هو إلا تاريخ الثنية و الطي. ? التصوير يوجد، لأنني موجود?. التصوير في حاجة إلى هنتاي. الحاجة إلى تكوكب القماش بين يديه. ألا يكون فناننا في إجراءاته التشكيلية قريبا إلى م.بلانشو حين يكتب: ? لماذا ذلك؟ لماذا هذا المسعى؟ لماذا هذه الحركة بلا أمل نحو الذي لا أهمية له؟?. صحيح. ما الجدوى من نسخ نصوص على قماش أو طي السند؟ كل هذا الجهد البسيط ليصل هنتاي إلى المعقد و الصعب. لوحاته تستعصي. إنها لا تساعد مشاهدا ينتظر تواصلا جاهزا للأخذ. إن الثنية التشكيلية تضحى في أعماله ذاكرة القماش الذي يحايث النسيان واستحالة الممكن المتمنع. جمل دخيلة أخرى من أجل هنتاي: [كل شيء يرتحل من الأبيض. يحاول مع العصا أن يرسم كارثة في طي حديث. الأبيض يوجد ضد. يحاول مع المقص أن يمزق ما كان. الأبيض يقاوم في نسيان. يحاول الحياة في قماش. الأبيض المرمي في مائدة في المرسم، حيث لا أثر للفرشاة أو أي أداة أخرى. أجواخ متراكمة كأنها تضرب على الظهور. إننا في رفض مطلق لم يتوقف قط، ساعيا إلى تكوكب كل غائب عن السند. هنتاي، الرجل المناسب في التصوير و مساء التشكيل. سقف ضريح بلاسيديا...] - هامش: * كتبت هذا النص على هامش المعرض الأخير لسيمون هنتاي (1922-2008) بمركز بومبيدو، من يونيو إلى أوائل شتنبر 2013.