جلالة الملك يترأس جلسة عمل بشأن مراجعة مدونة الأسرة    المغرب يستعد لإطلاق خدمة الجيل الخامس من الانترنت    حملة اعتقال نشطاء "مانيش راضي" تؤكد رعب الكابرانات من التغيير    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    إسبانيا.. الإطاحة بشبكة متخصصة في تهريب الهواتف المسروقة إلى المغرب    بقيادة جلالة الملك.. تجديد المدونة لحماية الأسرة المغربية وتعزيز تماسك المجتمع    فرنسا تحتفظ بوزيري الخارجية والجيوش    العراق يجدد دعم مغربية الصحراء .. وبوريطة: "قمة بغداد" مرحلة مهمة    إدانة رئيس مجلس عمالة طنجة بالحبس    إرجاء محاكمة البرلماني السيمو ومن معه    "بوحمرون" يستنفر المدارس بتطوان    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء            الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة    أخبار الساحة    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاتصال والديمقراطية: السياقات المحلية والخطابات الثقافية/الهوياتية

استقبلت جامعة الكيبيك بمونتريال (UQAM)، يوم 16 يوليوز الماضي، الأستاذ جمال الدين ناجي، المدير العام للاتصال السمعي البصري بالمغرب والخبير المستشار الدولي في الاتصال لدى عدة منظمات أممية، الذي تدخل في المحاضرة الختامية للمؤتمر السنوي للجمعية الدولية للبحث في الإعلام والاتصال، التي نُظمت دورتها لسنة 2015 من طرف جامعة مونتريال. «هل سيعلن توظيف الاتصال لأغراض البروباغاندا نهايته؟»، هذا هو التساؤل المحوري الذي يطرحه الأستاذ ناجي في مداخلته التي نعيد نشرها كاملة.
يبدو أن خارطة العالم، الممزقة بشكل مهول من طرف التطرف وإبادات غير مسبوقة، يعاد رسمها أمام ناظرَيْنا انطلاقاً من مفارقات وثنائيات شتى، غير مسبوقة كذلك. على رأسها تأتي سلسلة متعلقة بالاتصال الذي لم تكن نظرياته واستعمالاته أبداً تتوقع، وبالأحرى تستبق، دوراً محركاً بمثل هذه المحورية والمصيرية في الانفجارات -اللا إنسانية- المجتمعية والثقافية والهوياتية، وكذا أعمال العنف البشرية التي ترافقها وتنجم عنها، مثلما هو الحال عليه اليوم؛ وعلى وجه الخصوص، في الشرق الأقصى والأوسط والأدنى وإفريقيا. أي في سياقات وطنية/محلية عرفت عنف الاستعمار و-بدرجات متفاوتة- سطوا ممنهَجاً على ذاكرتها، ثقافاتها، هوياتها، كحالة جنوب إفريقيا أو المغرب، على سبيل المثال لا الحصر.
صار الوعد المعلَن من طرف القرن الواحد والعشرين، وهو على عتبة ولادته، عن «قفزة حضارية» نحو حكم بشرية معَولمة اقتصادياً وكونية من الناحية الأخلاقية والثقافية، في ظل السلم والتبادل بين الثقافات وبين الحضارات، بفضل التطور الكوبرنيكي (نسبة إلى كوبرنيك) للاتصال وعُدته واستعمالاته، يتبخر وينأى بشكل خطير على مر يوميات العنف الجسدي والمعنوي والثقافي والهوياتي الذي يهاجم واقعنا اليومي. إلى درجة الميل إلى الإعلان عن «نهاية الاتصال»، على الأقل كما عرضه علينا –وبالأحرى تغزل فيه- الآباء المؤسسون لنظرياته في القرن الماضي، قرن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وشعار»لن يتكرر هذا أبداً!».
إذن، يمكننا اليوم، دون المجازفة بالقول، ربما باستفزاز أيضاً، إننا نعيش «نهاية أو فشل نظريات الاتصال»، الإشارة إلى أن القول «إن سلطة الإعلام غامضة وملتبسة» هو في حد ذاته مجرد تكرار لتعريف الاتصال عينِه...التعريف الأصلي والأصيل منذ ظهور الإعلام والإخبار عبر وسائل الاتصال، منذ تعميم سرد وقائع ذات مغزى جماعي وأهمية إنسانية («النفع الإنساني» الشهير كمفهوم أكثر عمقاً، أكثر شمولية، من التوصية المعروفة للإعلام الأنجلوساكسوني كقاعدة مهنية وأخلاقية-Human interest).
كانت سلطة الاتصال دائماً عملة ذات وجهين، تتأرجح بين قوة حاملة/مشجعة للسلم والإنسانية وقوة أخرى حاملة للحرب واللا إنسانية سواء بشكل محتمل أو صريح.
لقد عرف القرن الماضي اتصالا دعائيا للحرب والإبادة، لكن القوة السلمية والإنسانية للاتصال انتصرت، في آخر المطاف، خصوصاً بفضل انصهارها الناجح البطيء لكن العميق في النموذج المهيمن للديمقراطية، باعتبارها طريقة إنسانية لتنظيم «العيش سوياً»، الذي لا يمكن تصوره إلا عبر «التواصل سوياً». لكن أكيد أن التصاق الاتصال، بهذا الشكل، بالمعتقد الديمقراطي الذي صار أكثر جاذبية من مشروع «الأمة» خلال القرنين أو الثلاثة قرون التي مرت -أو، على الأقل، بنفس جاذبيته- يدين بحيويته المستمرة للتطور المضطرد لأدوات وسبل ولأشكال واستعمالات الاتصال الذي يجعل منه شبكة كونية، بالتأكيد، لكن أيضاً نسيجاً لا متناهياً، ديناميكياً ومستمراً بين جميع البشر، نظرياً، وبين أكثر من ثلثي البشر من الناحية العملية والواقعية.
كانت أحداث القرن الحالي أكثر إنباءً بالنسبة لمعيشنا الراهن والمستقبل القريب، من خلال قرع طبول 11 شتنبر 2001، الذي سبقته انفجارات بنفس الدلالة والحدة قبل ما يقارب خمس عشرة سنة: بباريس، لندن، مدريد، نيروبي...ترددات صدى متأخرة ل»عاصفة الصحراء» الخاصة ب»الدب» المتوفى الجنرال شوارزكوف، على أراضي الديكتاتور البغدادي (صدام حاكم بغداد، وليس البغدادي الحالي الدموي الآخر الذي ينحدر مِن/يسكن في بغداد).
داء الدكتور «سترينجلوف» (الحب الغريب) المكتسب
في الحقيقة، سايرت الدوامة التي قذفت بالاتصال إلى مدار الحروب والإبادات البشرية والثقافية كمنحنى توأم، دوامة تكنولوجيات الإعلام والاتصال والإنترنيت والعالم الافتراضي والعيش السبراني (Cybernétique)...غير أنه من اللازم التأكيد على فقرة من هذه الدوامة أكثر من غيرها: الفقرة التي دشنها جورج دبليو بوش، بعدما خدع «جمعية الأمم» التي لم تعد «جمعية» بل مجرد منظمة يمكن أن نكذب عليها، أن نضللها، أن نبتلع هياكلها ومساطرها، بل وحتى روحها وقيمها، مهما كانت مجردة... !
عندما ركب الماجور «كونغ» التكساسي (نسبة إلى ولاية تكساس) للدكتور «سرينجلوف» جنون طوفان النار الذي صُب على بغداد، طيلة أيام، تحولت أجهزة تلفزتنا إلى اللون الأخضر الكروم الذي يميز الاستوديوهات الافتراضية: حيث لم تظهر أي رسالة ولا أي صورة عن حقيقة الحرب...انتهى الاتصال. شهد العالم حقيقة سقطت في المجهول، الافتراضي...وتم بث الافتراضي على الشاشات مموَهاً بالحقيقة...قمة اللبس تتجسد في هذه الجملة من تاريخنا البشري والتي لم يكن باستطاعة لا «بيتر براينت» (من شخصيات الرواية) ولا «ستانلي كبريك» (مقتبس الرواية للسينما) تخيلها كخاتمة لحكايتهما الخيالية، «الدكتور «سترينجلوف» (الحب الغريب) أو كيف توقفت عن القلق وأحببت القنبلة...» !
منذ ذلك الحين، منذ تلك «القيامة» التي جرت على حلقات منذ التسعينيات، تلك الفترة الأخيرة «للحمل» بالنسبة للشبكة العنكبوتية التي تعتبر «مسيح» الاتصال، أصبحت عمليات الاعتقالات والاختطافات والتضليل والتجييش الإعلامية («الصحافي المندس»-embedded journalist جنس جديد!) لا تعد ولا تحصى في شتى الحروب والإبادات والمذابح والمقابر الجماعية، الخ...
حتى وإن كنا سنسقط في تكرار لازمة مستهلكة، لا بد من الإشارة إلى أن هذه المآسي الإنسانية لا تقع -على ما يبدو- سوى في محيطات أو أوساط خاصة جداً، ألا وهي الدول التي يصطلح عليها ب»دول الجنوب» أو «الدول الفقيرة» أو «الدول السائرة في طريق النمو» أو الدول التي هي في «طور الظهور»...باختصار، هي الدول التي لو لم تكنْ موجودة ولم تكنْ تعيش يومياً تلك المصائب والمآسي لَتوجب خلقها، ويا للمفارقة ! بما أنها المصدر الوحيد لتدفق الاتصال الذي يسقي إلى حد الثمالة وباستمرار العالم الإعلامي على هذا الكوكب...فأي فرصة ما بعدها فرصة بالنسبة للقنوات التلفزية لأخبار 24/24 ! الفرصة الوحيدة لكي تدور رحى الاتصال هي «القيامة» (أو مجموعة «قيامات») يومية في هذه البلدان التي يبدو أنها مصرة بشكل انتحاري على الاحتفاظ بحصريتها !
لكن هناك معطى لا لبس فيه: هذه البلدان هي بلدان «فقيرة المعلومات»، تربت منذ الأزل على الاتصال الحربي والدعائي الذي لا تستطيع إنتاجه وإدامته لأجيال متعاقبة إلا الأنظمة الديكتاتورية. هذه الدول هي كذلك الدول التي تتميز بخصائص مشتركة ومعينة. هي مستعمرات سابقة لقوى القرنين الأخيرين الاستعمارية، وهي، بحكم هذا الانتهاك التاريخي وبفعل أسباب أخرى خارجية، دول وشعوب تعرضت للسطو على تاريخها وذاكرتها وهويتها، وبصفة أقل على ثقافتها...و لا أدل على ذلك من حالة جنوب إفريقيا التي سحقها حكم الأبارتايد (التفرقة العنصرية)...دون الحديث عن شعوب الأمريكتين وجنوب-شرق آسيا وأوقيانوسيا (دول جنوب المحيط الهادي) الخ. هي كذلك دول اغتُصبت/فُككت من طرف الاحتلال الأجنبي، على المستوى المادي والرمزي معاً (لنستحضر هنا المبشرين، سواء أقطاب التبشير القدامى أو المبشرين الجدد القادمين عبر الأقطاب السالبة الخاصة بأجهزة التلفاز-Cathodes)، وواجهت مشروعاً/ضرورة من الحجم العملاق: بناء «أمة»، «وحدة وطنية»، «هوية وطنية»، عقد «للعيش سوياً»...وما لبثت «الأمة»، ذلك الشعار/الهدف المحرر من نير الاستعمار، أن أدت إلى ديكتاتوريات أُخضعت بكل برودة وقسوة للتبعية من قبل الشرق أو الغرب، من طرف هذه القوى أو تلك، بل في غالب الأحيان من طرف مستعمِريها السابقين.
شعوب فقيرة لكن مربوطة
إعلامياً إلى أقصى درجة
لم تكن هذه الديكتاتوريات لتطغى وتستمر لولا توظيفها للاتصال كسلاح للسلطة وللقمع وبالتالي للدعاية، تلك الدعاية التي لا يمكن أن «تُطبخ» (بمكونات وبهارات اتصال معروفة) إلا في قِدْر الغموض والأكاذيب والأوهام والأساطير وتأجيج الغرائز البدائية وأشكال الجنوح إلى العنف...أي إلى الحرب. أليست هذه الدول المسماة «فقيرة المعلومات» أخصب تربة لاستنبات اتصال السلطة، اتصال الغموض، ذلك الاتصال الذي يتقدم، وهذه مفارقة مركزية أساسية أخرى، في هذه البلدان بمفارقات يستعصي أحياناً الاعتراف بها، وبالأحرى استيعابها؟
هو الأمر الذي ينطبق على بعض الأرقام في تلك الدول التي تدل من جهة على نسب مهولة للأمية، نسب ضعيفة جداً للقدرة الشرائية والتغطية الاجتماعية والكهربة والتجهيزات الجماعية (من طرق ومستشفيات ومدارس...)، للنمو والتنمية المستدامة والمحافظة على الموارد الطبيعية والبيئية، ومن جهة أخرى على تزايد مضطرد لتكنولوجيات الإعلام والاتصال، والربط بالإنترنيت، الجيل الثالث والرابع، دون إغفال التجهيز شبه الممنهَج فيما يتعلق بالهاتف الخلوي الذي يتجاوز 100 بالمائة (المغرب: 130 بالمائة). هل سنختار مصطلح «لبس» أو»غموض» أو»مفارقات»؟ قد يحيل أحدها على الآخر، أو يحل محله، حسب سياق كل دولة من هذه الدول المفتقِرة بالتأكيد للديمقراطية التي هي التربة الوحيدة لازدهار اتصال حامل للسلم والإنسانية. بيد أن هذه البلدان أصبحت أقل عزلة مما كانت عليه منذ بضعة عقود بالنسبة إلى المجتمع الدولي وآلياته المتعلقة بالقانون والتجارة وبالعلاقات السياسية والدبلوماسية، وبالنسبة للرهانات الكونية (المناخ، حقوق الإنسان، التنمية المستدامة، الصحة العامة، الأمن...). فقيرة إعلامياً، مفتقرة إلى الديمقراطية، بل إن بعضها يبدو متراجعاً إلى عهد الديكتاتوريات، على نحو»جمهوريات هي ملكيات متنكرة» تورث من الأب إلى الابن، أو أنظمة حكم مطلق «جمهوري» يسيطر عليها طغاة يذكروننا بخريف غابرييل غارثيا ماركيز (حكم لمدة 20 أو 30 سنة كرئيس دولة شاخ في الرئاسة...)...رغم أن عدداً من هذه الدول دُفِعت دفعاً إلى الحداثة ومنتظم الأمم بفعل الظاهرة الجرارة للعولمة، وبفعل الإحلال شبه المهيمن لمرجعية الإعلان العالمي ل10 دجنبر 1948، كمقياس ودافع يقرر في العلاقات بين الدول ومساعدات التنمية ودعم الآليات الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك العالمي...). مجتمعات مدفوعة أيضاً بإدماج مستمر في الكونية (كونية التجارة والثقافة والاتصال والقيم أيضاً) بفضل تكنولوجيات واستعمالات الاتصال في العصر الرقمي.
لا حاجة إذاً إلى البرهنة على أنه في خضم كل هذه التحولات، لا مجال للشك في أن هذه الدفعة القوية، رغم تفاوت السياقات، أفادت في هذه الدول الحريات، أو بالأحرى حركات الحرية التي كانت سابقاً، في عدد من البلدان، مكبوحة ومقبورة في القمع والعوز والمهانة وصارت تعطي الدليل على أن الاتصال، حتى وإن نعتناه بالمهيمن في عالمنا الراهن، يمكن أن يكون في نفس الوقت أداة للحرية والتقدم والتطلع إلى عالم أفضل، حتى وإن كنا نأسف لإمبرياليته أو هيمنته. من هنا لا يمكن مقاربة «الربيع العربي» بشكل مختلف عن ذلك.
يدل «التسونامي الربيعي» الذي اكتسح الفضاء السبراني مثلما اكتسح الساحات العامة في بعض الدول، بفعل الساخطين/المربوطين (indignés/connectés) في العالم العربي، وكذلك خارجه، قمة المفارقات التي يجرها الاتصال المعاصر: هيمنة، لكن مصدر للحرية والكرامة في نفس الوقت. هيمنة توحد وتمحو الاختلافات، لكن فرصة أثبتت نجاعتها في ساحات التجمهر/التظاهر، التشبيك والعرائض بالنسبة مثلاً ل»مربوطي» تونس والقاهرة والبحرين... من أجل تحرر الفرد من قمع الجماعة ومحظوراتها...حتى يطالب بالاعتراف به كمواطن وليس ك»رعية»، كمصدر للحقوق وليس كمجرد رقم محكوم لا يملك صوتاً ولا ضميراً ولا حتى كرامة.
رعية أم مواطن؟ أنا أم القبيلة؟
في الحالة الليبية الغريبة، أخذ المعطى البنيوي للجماعة/القبيلة، كحبس للفرد وحقوقه وحرياته، ثأراً كارثياً وغير متوقع: عودة القبيلة بقوة، وهو ما يعاد إنتاجه في اليمن، في القرن الإفريقي...ما زال في الأردن ويستفحل بشكل خطير في الجزائر...
تمثل اليوميات المأساوية لما يجب نعته من الآن فصاعداً ب»الخريف العربي» قمة ما يمكن أن يصل إليه الغموض والمفارقات التي يغطيها ويكشفها اتصال 2.0: وعد «القفزة الحضارية» (المرور من طغيان عائلة بن علي التونسي إلى دائرة حكم ثورة 1789 الفرنسية!)، أفق يمكن تلمسه للديمقراطية (دستور، انتخابات، التناوب على الحكم، هيئة "حقيقة وإنصاف"،...) وفي نفس الوقت، انفجار عدد من "المناجم" ظلت مدفونة في ظلمات الذاكرة الجماعية لهذه البلدان فتدفقت منها خطابات ومواقف تمجد العنف واستئصال الحقوق والتمييز والعنصرية، والمخططات الوحشية والفاشية ونوايا الإبادة، كلها مصممة على تدمير القيم الإنسانية التي (ويا للمفارقة !) تُرْفَع في نفس الآن كشعارات للتعبئة والحلم "الثوري" أو للقطع مع ماضي الاضطهاد، في الساحات العامة لهذا "الربيع" المزعوم وباستمرار في أغورا الفضاء السبراني، على الساحات العامة المنصوبة في العالم الافتراضي، ذلك الفضاء/المستوعب للاحتجاج ضد القمع والعنف. لا يمكن إنكار أنه لولا اتصال القرن 21 لما وصلت هذه القمة ذات المظهر السادي الحجم اللازم للتأثير على مجرى الأمور كما يتبدى لنا كل يوم في ليبيا، القاهرة، تونس، البحرين، دمشق، بغداد...ناهيك عن إسلاماباد، كاراتشي أو كابول...
إن عبر الرقمي، الشبكة ورُحَل الإنترنيت، سواء في ظل إخفاء الهوية أو حشد الجماعات والحشود بلا حاجز حدود ولا حتى لغات، صار الاتصال، المهمين كما لم يسبق أن كان، متواجداً زمكانياً في قلب-إن لم نقل مصدر- كل الوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية...ويبدو أن قوة التواجد في كل زمان ومكان هذه تميل بشدة صوب ما هو مأساوي وصوب العودة إلى الوراء أكثر من ميلها إلى الأمل والمستقبل والتقدم. ولا أدل على ذلك من أن قطب الرحى (الذي يشكل الاتصال محركه المركزي) في كل مأساة من هذا القبيل، خصوصاً في دول الجنوب هو الخطاب الهوياتي، الذي غالباً ما يكون عنيفاً، عدوانياً وإقصائياً...كأننا نشهد من جديد الخطوات الأولى لوسائل ودعائم الاتصال الدعائي الذي يعود إلى القرنين الماضيين (آنذاك الملصقات والصحافة الشعبية بفرنسا أو ألمانيا التي كانت تؤلب الحشود ضد العدو التاريخي...حروب 1870، 14-18، 39-45 بين فرنسا وألمانيا بالضبط...).
هو إذن غموض الاتصال يتجلى بوضوح اليوم، حتى في ديمقراطيات الشمال التي تتنازل أكثر فأكثر عن ربع أو ثلث رأيها العام أو تمثيلياتها البرلمانية للحركات المتطرفة التي تتاجر بهذا الجانب من الهوية الوطنية أو القبلية، في مواجهة الآخر، الغريب، الجار، المهمَش (مختلف الأقليات). صار الاتصال مصدراً، وأحياناً المصدر الوحيد، لظهور واستمرار النزاعات الهوياتية بين الجماعات، بين الشعوب، بين الأفراد، بين المجموعات اللسنية، الثقافية، الدينية...وبين القبائل.
ثنائي جهنمي: الأمن والهوية
بالأمس كان الاتصال، كدعاية (أصلاً هنا)، يضع الشعوب والدول في مواجهة بعضها البعض بسبب الحدود والأراضي والأسواق والممتلكات والموارد. اليوم أصبح الاتصال 2.0 وما بعده يضع الهويات في مواجهة بعضها البعض بسبب معتقدات دينية، بسبب قناعات تمييزية وتفريقية ونخبوية (على أساس العرق، اللون، التقاليد، معتقدات خفية أو ظاهرة...).
من كان بإمكانه أن يتصور، منذ عقدين فقط، أن المشرِعين الوطنيين أو الدوليين والحكومات الوطنية أو المنظمات البيحكومية، ستسجل بصفة شبه يومية في أجنداتها إجراءات ومخططات ومشاريع قرارات تتعلق، بشكل مباشر أو غير مباشر، بالاتصال كما صار اليوم: الأمن السبراني، الولوج إلى المعلومة، الميتا-معلومات، الإنترنيت وإسقاطاته أو زوائده (فيسبوك، تويتر...)؟! بدل الانكباب على التسلح، القواعد البحرية، «حروب النجوم»، الجيوش، المدرعات، الخ.، كما كان الشأن غداة 1945 على الأقل؟!
في عصرنا هذا، الاتصال هو الساحل النورماندي (نسبة إلى شمال فرنسا-Normandie)الذي يجب احتلاله بامتياز (كما حصل ضد جيوش هتلر)، بالنسبة لكل من يتطلع إلى وضع حد للنوايا الظلامية: الوحشية التي تقبر الجنس البشري وإنسانيته.
إذن، ما العمل؟ ما العمل بالاتصال، الذي لا مناص من هيمنته اليوم والذي تطغى عليه الثنائيات والمفارقات الحاملة للنوايا والرغبات الكامنة المدمِرة للسلم، «للعيش سوياً»، ذلك الامتياز المنقذ لجنسنا من بين الأجناس الحيوانية الأخرى في هذا العالم؟
بعبارة أخرى، كيف يمكن تعزيز قدرات المقاومة أكثر، الغامضة هي أيضاً، والتي تكمن في الاتصال بكل أدواته، من الأكثر جدة إلى تلك التي ستأتي بفضل العبقرية الإنسانية؟ قدرات المقاومة التي نملك الدليل عليها (كما برهنت على ذلك يوميات أحداث العالم العربي الأخيرة) والتي ستكون حاسمة، بلا شك، في تحرير الكونية والسلم الذي تفرضه هذه مسبقاً. وبما أن الاتصال هو، رغم كل شيء، معطى يمكن التدخل فيه، تسييره، توجيهه، بل التحكم فيه، لا يمكننا، خدمةً لقضية هذه الكونية، أن نتصور سوى التقنين، تقنين الاتصال وقنواته ودعائمه. طبعاً هو برنامج شاسع ومثير للجدل، لكن هل لنا ببرامج أخرى؟
مرة أخرى، لنعدْ إلى الجذور. يحمل الإعلام، أو بالأحرى الاتصال كما سنقول اليوم وربما غداً، في موروثه الجيني متلازمة لا يمكن الاستغناء عنها: الانضباط، التقنين الذاتي. بغض النظر عن غايته التي يبدو أنها، في أيامنا هذه، تميل أكثر أو»مبرمَجة» أكثر، بفعالية مثبتة، لأغراض تخدم مثل هذه الصراعات بين الهويات، بين القيم، بين نتائج تدمر بشكل شبه ممنهج أملنا في «قفزة حضارية» للإنسانية، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، مع ذلك، بعض قوى الاتصال الجديدة التي تحدد «قوته الضاربة» وتكشف نوعاً ما الآلة التي تمكنه من الهيمنة والتأثير وحضوره المتزامن في كل مكان. القوة الجديدة الأولى هي التصاقه الوثيق والناجح بما هو محلي.
«العولمحلي» والحق في الاتصال
كلما احتل الاتصال المجال المحلي كلما كان فعالاً، ناجعاً، معبئاً وكلما كان، سواء بفعل المفارقة أو الثنائية، إما صحياً أو خطيراً «للاتصال سوياً» وبالتالي «للعيش سوياً».
لكن هذا «الانصياع» للمحلي يختلف كلياً عن الحب الأول بين الاتصال وما هو محلي والذي يعود إلى شباب الإعلام والاتصال، منذ قرن (زمن الصحافة الشعبية، صحافة الجنيهات المعدودة، زمن «أحداث المجتمع» و»الأخبار المتفرقة»). المحلي الذي تحتله الصحافة اليوم ويحتلها هو معولم ومحلي في نفس الوقت («عولمحلي»)، أي محلي مرتبط ارتباطاً خلقياً وعضوياً بالعولمة، بما هو شامل. حيث إن ثنائية هذين البعدين هي، بشكل مفارق، فرصة غير مسبوقة لتقوية قدرات الاتصال في ملاقاة أهدافه في عز انخراطها وانسجامها مع ذلك التمرين الديمقراطي الذي نريده كونياً وبلا حدود: الاتصال...الاتصال على أرضية العولمة؛ بما أن أي شهادة أو «تدوين» من مواطن شبكي (نسبة إلى شبكة الإنترنيت) في شرق الكوكب يمكن أن يجد صداه أو ارتداده، بل التبني والتضامن، لدى مواطن شبكي آخر في الغرب، وربما لدى الرأي العام بأكمله في دولة أخرى...فالمرء هو قبل كل شيء «فيسبوكي»، عضو البشرية «الفيسبوكية» (ما يناهز 1.5 مليار حساب نشيط !)...بمعنى أن المرء ليس هندياً، أمريكياً ولا مغربياً بل هو كوني ! حيث أن ما أحمله من مضمون في اتصالي (كمُدَوِن أو كمُغَرِد») هو مضمون محلي- خاص بي- من تومبوكتو أو صنعاء، أشاركه بصفة شمولية مع البشرية جمعاء، هذه البشرية المرتبطة بواسطة مواطنين شبكيين في أرض النيت الواسعة.
هل يجب علينا أن نحذر ذلك، إلى درجة إعلان حالات التأهب القصوى والمنع المخصصة لأقصى درجات السلامة، لإطفاء كل شارة للربط بالإنترنيت؟ على العكس تماماً. أولاً، لأنه أمر في عداد المستحيل، رغم أنف الاجتماعات المغلقة الدولية العقيمة ل»منتدى حكامة الإنترنيت» (IGF) الموروث عن «كوفي عنان» منذ عقد من الزمان (القمة العالمية لمجتمع الإعلام 2003/2005) والذي ما لبث منذ ذلك الحين يلاحي حول تقنين دولي للإنترنيت. ثم إن هذا الاتصال الكوني-والذي نتمناه جانحاً للكونية-، انطلاقاً مما هو محلي كمصدر أولي، هو السبيل الأمثل لكي يكتسي «الاتصال سوياً» معنىً واتساقاً ووقعاً حقيقياً على «عيشنا سوياً». وإن كان لمجرد أنه يسلح أكثر من أي وقت مضى الحلم الذي راود أسلافنا في الإعلام والاتصال: أن نتعرف على الآخر أكثر عبر التزود بأقصى المعلومات عنه، من خلال تلقي اتصاله إلى أبعد حد وإرسال أكبر عدد من معلوماتنا إليه، وبالذات معلومات عنا. إنني، في آخر المطاف، أستعمل الاتصال لأتحدث إلى العالم وليتحدث هو إلي...تلك هي ماهية الإعلام في الديمقراطية. فهل هناك تأويل آخر لتعليل الدافع الجوهري وراء صياغة المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948؟ «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية»..؟
هذا يحيلنا منطقياً على مساءلة هذا العالم الجديد الذي تتشكل خلفيته ومضامينه التواصلية من الشبكة العنكبوتية! مساءلته انطلاقاً من حصيلة تتمظهر في كل المجالات: السياسة، الثقافة، الاقتصاد، الدبلوماسية، وأخيراً وليس آخراً، القانون الدولي والعلاقات الدولية التي يؤطرها.
هي في الحقيقة مساءلة صعبة وحاسمة: هل ما زالت منظمة الأمم المتحدة صالحة لعالمنا هذا؟ بالتأكيد لا، نظراً لحصيلة عجزها وإخفاقاتها وأخطائها ومماطلاتها، على الأقل منذ "عاصفة الصحراء" الأولى والمآسي الصومالية، السودانية، الرواندية والبوروندية، إضافة إلى مأساة البوسنة وكوسوفو...أما مذبحة صبرا وشاتيلا، أو حتى اغتيال الأمين العام لهذه المنظمة "داغ همارسكيولد" سنة 1961، فحدث ولا حرج!
ومع ذلك، لا توجد الآن أي حجة لاستبعاد إمكانية إعادة النظر في هذه الأداة التي خُلقت في الأصل لكي "لا يتكرر ما حدث"، من أجل السلام و"العيش سوياً". خصوصاً وأنه بالنسبة لما يَهُمنا هنا، أي الاتصال، لم يعد بالإمكان الاقتصار على منطوق المادة 19 للزعم بأننا أحَطْنا بكل الرهانات والمخاطر الكامنة في اتصال ما بعد 2.0!
بكل وضوح، وفيما يتعلق بهذا "التفصيل" البسيط المخصص للاتصال: "أليس من الواجب الانتقال إلى "الحق في الاتصال» وبالتالي إعادة كتابة المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟...حق من شأن منطوقه وتعريفه أن يؤطرا، بل أن يرفعا أي لبس شبه خلقي يلتصق بالاتصال في العهد الرقمي.
لكن تبقى هناك حقيقة ليس عليها غبار، ألا وهي أن الاتصال في العهد الرقمي الزاخر، بطبيعته، بشتى الثنائيات والمفارقات، يتقدم، يتحسن، يتوسع وينمو بوتيرة العبقرية الإنسانية، عبقرية بشر هذا الزمن: الشباب. ضعوا الشبان في مواقع قيادة هذا الاتصال، بعبقريتهم المنتجة في «الكاراجات والمستودعات» وستحصلون على أفضل الحظوظ لجعل الاتصال، بابتكاراته المستمرة واستعمالاته ومستعمليه المبهرين، يتفادى الثنائيات الأكثر تهديداً «للاتصال سوياً»، «العيش سوياً». إذ ينبغي ائتمان عبقرية من هذا القبيل على أفضل حيطة قصد تقليص الآثار الجانبية للاتصال التي سوف تسببها هيمنته بلا هوادة...علماً بأن الأثر/المفارقة الذي يصعب التحكم فيه أكثر هو أننا –على ما يبدو- كلما تواصلنا مع الآخر، مع الآخرين، أكثر كلما ابتعدنا عن الآخر أكثر، وتوجسنا فيه كل نوايا الهيمنة والعدوان ضدنا، ضد سلامتنا، ضد هويتنا!
ولا داعي هنا لضرب المثل بأسطورة "سيزيف"!
لكن...علينا أن لا نستسلم!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.