منذ أن وجد الإنسان على كوكب الأرض و هو يصارع من أجل البقاء و الإستمرار و لم الخلود، فكانت مسيرته سلسلة من الانتصارات و الهزائم، من النجاحات و الإخفاقات، تارة يتمرد ضد الأقوى و تارة يمارس بطشه و وحشيته ضد الضعفاء ، لقد كان و لا زال همه الوحيد هو السيطرة و الاستبداد و بأي ثمن. بعد آلاف السنين، عرف الإنسان الاستقرار و خاصة بعد اكتشافه للنار و الزراعة و المواد المعدنية و الكتابة و اقتحامه لمختلف المعارف و فنون العيش، كما لعبت الأديان التوحيدية و الوضعية دورا أساسيا في إعادة الإنسان إلى طبيعته الإنسانية وبعدها الأخلاقي. لكن رغم هذا التطور في مساره ظل وفيا لتناقضاته، يظهر إنسانيته وطيبوبته أحيانا، و يتحول في رمشة عين إلى وحش قاتل بدون رحمة و لا شفقة. إضافة إلى هذا، عرفت الشعوب العربية و الإسلامية ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر إلى الثلاثينات من القرن العشرين حركة فكرية تنويرية و كان هدفها تحقيق النهضة العربية و الإسلامية و موضوعها الأساسي مرتبط بالتطور التعليمي و تجديد الخطاب الديني، و محاولة تخليص المجتمع من سيطرة الطوائف الدينية و لاهوتها. اشتد النقاش حينها و بعد مد و جزر، مرة أخرى انتصرت قوى اللاهوت و هيمن فكرها المضوي و خاصة بعد انشغال القوى الحية من أفراد المجتمع بالمقاومة المشروعة لإجلاء المستعمر، و كان من بين رواد هذه الحركة الفكرية : طه حسين، عبد الرحمان الكواكبي، محمد عبده، المختار السوسي، جمال الدين الأفغاني، ابن شعيب الدكالي، علال الفاسي، عمر الساحلي و غيرهم. من أهم الأحداث التي أثرت على مجتمعاتنا أيضا في بداية القرن الماضي: اكتشاف النفط. و هي الثروة الجديدة، الفريدة و الغريبة في نفس الوقت، ظهرت و المجتمعات الغربية في أوج قوتها في حين كانت مجتمعاتنا غارقة في الجهل و الفقر و الأمية و الحرمان. لقد جسدت رواية» مدن الملح» لصاحبها «عبد الرحمان منيف» حقيقة الصدمة، فجاءت على شكل لوحة إنسانية اجتماعية لوصف أثر الآلة النفطية على هذه المجتمعات لتروي لنا في نفس الوقت صدمة الحداثة بمجتمعات ضاربة في قدم التخلف و الأمية و الجهل و الحرمان. فعلا لقد تأثرت شعوب منطقتنا بهذا المولود الجديد و أصبحوا يعيشون الخلط بين الرقي و التطور و الانحطاط و التخلف، فظهرت انفصامات في الشخصية الواحدة و كثرت العلل و الأمراض النفسية و العاطفية و تاه الإنسان عن طبيعته و جوهره و صورته. بعد مرور عدة عقود وجدت بعض الشعوب و الدول ضالتها نحو الاستفادة من هذه الثروات فأثر ذلك إيجابيا على حياتها الاقتصادية خاصة و الاجتماعية كما هو الشأن لدول الخليج التي أصبحت تضاهي كبريات الدول العالمية، و رغم ذلك فهي محتاجة إلى إصلاحات و تغييرات من داخل نظامها السياسي لتتماشى و التحولات السوسيو اقتصادية و السياسية التي يعرفه محيطها الإقليمي و العالمي. و بإمكانها ذلك إذا توفرت لها الإرادة و القدرة و الرغبة. أما باقي الدول كالجزائر و السودان و ليبيا وسوريا فلم تزدها هذه الثروة إلا انحطاطا و تخلفا وتبعية. كما أن حياة و فكر شعوب المنطقة كانت قد تأثرت و لازالت بشكل كبير بالحرب الشرسة الغير المتكافئة التي شنها الإتحاد السوفياتي سابقا على أفغانستان و كان لانسحاب الجيش الأحمر من ساحة المعركة و اعترافه بالهزيمة صدى مؤثر و إيجابي على نفسية أفراد مجتمعاتنا لكن بعد ذالك تبين بأن ما قام به الجيش الأحمر مجرد تكتيك عسكري للدخول في مرحلة إصلاحية تؤسس لإنهاء الحرب الباردة. و في نفس السياق، خلال شهر فبراير من سنة 1979، كان يومين من القتال كافيين لانهيار النظام الإيراني و بالتالي تناثرت عقدة الجيش الذي كان يعتبر الرابع في العالم من حيث العدد و العدة و التدريب، فكانت هذه الثورة ثورة على نمط القرن 19 و لكنها تقع في الربع الآخر من القرن 20. كانت الثورة الإسلامية الإيرانية الخمينية بمثابة زلزال مدوي أثر على الرأي العام الدولي، و ما يهمنا مدى تأثيره على نفسية و عواطف مجتمعاتنا فأصبح بعضهم يتطلع لثورات مماثلة بأوطانهم و سائر ديار الإسلام، و أصبح حلم تحقيق دولة الخلافة أقرب إلى الحقيقة. بعد الثورة دخلت ايران مباشرة في حرب ضروس مع عدوها اللذوذ و جارها العراق, فبزغ الصراع الشيعي السني من جديد. كما كان للعمليات الإرهابية التي عرفها العالم في العقود الأخيرة تأثيرات عميقة على شعوب منطقتنا و باقي دول المعمور خاصة العمليات التي نفذت في 11 شتنبر 2001 بالولاياتالمتحدة و 16 ماي 2003 بالمغرب و كذالك ما وقع في مدريد و لندن. لعم لقد خلفت هذه الأحداث المأسوية ضحايا أبرياء، فتوجهت الإتهامات إلى المسلمين و تمت ملاحقتهم و متابعتهم جنائيا فتذمرت نفسيتهم و أصبحوا في نظر الغرب مجرمين قتلة و منحرفين, فقامت الدنيا و بزغ نظام دولي جديد عنوانه الكبير القضاء على الإرهاب و تعميم الديمقراطية. إنها نهاية مرحلة تاريخية و بداية أخرى كما جاء على لسان أحد المفكرين الغربيين. كما كان التأثير واضحا للعيان إثر غزو الولاياتالمتحدة و حلفاءها للعراق و محاكمة صدام حسين و تنفيذ حكم الإعدام في حقه في يوم ليس كباقي الأيام, يوم عيد الأضحى، و في هذه اللحظة تحول المجاهدون الأفغان الذين كانوا يدافعون مع الأمريكيين ضد الشيوعية إلى قتلة و مجرمين يقفون أمام الديمقراطية و مستقبل شعوب المنطقة.