منذ أن وجد الإنسان على كوكب الأرض و هو يصارع من أجل البقاء و الإستمرار و لم الخلود، فكانت مسيرته سلسلة من الانتصارات و الهزائم، من النجاحات و الإخفاقات، تارة يتمرد ضد الأقوى و تارة يمارس بطشه و وحشيته ضد الضعفاء ، لقد كان و لا زال همه الوحيد هو السيطرة و الاستبداد و بأي ثمن. بعد آلاف السنين، عرف الإنسان الاستقرار و خاصة بعد اكتشافه للنار و الزراعة و المواد المعدنية و الكتابة و اقتحامه لمختلف المعارف و فنون العيش، كما لعبت الأديان التوحيدية و الوضعية دورا أساسيا في إعادة الإنسان إلى طبيعته الإنسانية وبعدها الأخلاقي. لكن رغم هذا التطور في مساره ظل وفيا لتناقضاته، يظهر إنسانيته وطيبوبته أحيانا، و يتحول في رمشة عين إلى وحش قاتل بدون رحمة و لا شفقة. - المجموعة الثانية و من روادها بن حنبل و الغزالي و بن تيمية الذين ارتأوا في تفكيرهم لضرورة تفسير القرآن تفسيرا حرفيا و لا وجود للعقل و لا للمنطق، فظهرت أشكال تفكيرية مختلفة و غريبة عن الإسلام و مرتبطة بالخرافة و الشعوذة و الأسطورة، بعيدا عن منطق العقل و الاجتهاد. و بعد سنين و قرون مضت على هذه الفتنة لازال الصراع قائما بين المجموعتين الفكريتين إلى يومنا هذا من خلال ما يقع في بلدان سوريا و العراق و اليمن و مصر و حتى في البلدان الغربية و بقية دول العالم، و من خلال هذا تأثرت الشعوب العربية و الإسلامية في نمط حياتها و فكرها و أصبحت مرتبطة بنزعتين متناقظتين : - نزعة أصولية و ارتيادية و انغلاقية تحن إلى الماضي السلفي - نزعة تحررية منفتحة محورها و أساسها العقل و المنطق كل فرد في هذه المجتمعات يحمل هاتين النزعتين منذ القرن السابع، يظهران و يختفيان في أي لحظة بشكل متفاوت، و بالتالي تعيش الشعوب العربية و الإسلامية في ازدواجية مرضية أي سكيزوفرينيا اجتماعية. كما عرف العالم الإسلامي نقاشات فكرية عالية أثرت على حياته و فكر شعوبه إلى يومنا هذا. نأخذ على سبيل المثال ما جاء به المفكر «ابن رشد» الذي احتل الجانب النقدي من فكره مكانة هامة في الأمور المتصلة بالشريعة سعيا وراء تخليصها بمعية الفلسفة من شوائب الكلام و التصور و ذالك من خلال كتبه النقدية الثلاثة :» فصل المقال, الكشف عن مناهج الأدلة، و تهافت التهافت». و كان إثبات الحق في ممارسة النظر العلمي و الفلسفي في إطار الملة الإسلامية هو القصد من تأليف كتاب «فصل المقال» للتقريب ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال. و أهم حجة قدمها ابن رشد لاثباث ذالك هي الوحدة في الغاية بين الشريعة و الحكمة، و هي الغاية في الوقوف على الحق. و دعم هذه الحجة بحجة ثانية تربط يبن العبادة و المعرفة مفادها انه إذا كانت الغاية من الشريعة هي عبادة الخالق، فان اشرف عبادة هي معرفة ذاته على الحقيقة، و لا تتحقق معرفة الذات الإلهية إلا بمعرفة مصنوعاتها بالطرق البرهانية. و يستدل ابن رشد بآيتين على فكرته: «أو لم ينظروا في ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق الله من شيء» «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت و إلى السماء كيف رفعت». و استخلص من هاتين الآيتين حكما يقول بان النظر في الموجودات نظرا علميا واجب على من هم أهل لذالك. و يضيف إلى هذا الواجب واجبا آخرا ترتب عن السابق, و هو واجب الانفتاح على الآخر و الأخذ بمناهجه و علومه المنطقية و الفلسفية بغض النظر عن اعتقاداته, بشرط أن تكون محايدة و موافقة للحق. إن إثبات معقولية الشريعة انطلاقا من كونها تنطوي على الحق و تدعوا إليه, هو الذي جعله يطلق قولته الشهيرة : «الحق لا يضاد الحق, بل يوافقه و يشهد له».بل انه ذهب ابعد من ذالك عندما عزز الاتصال بين الحكمة و الشريعة بالقول بان الشريعة التي تعتمد على مبدأي الوحي و العقل هي أفضل من الشريعة التي لا تقوم إلا على مبدأ واحد. في نفس السياق سنسافر معا إلى القرن الثامن الهجري للتحاور مع فكر آخر لا يقل أهمية عن فكر ابن رشد, إنه المفكر ابن خلدون من خلال مقدمته. ففي هذه الفترة كانت شمس الحضارة الإسلامية آخذة في الذبول أما جدلية العقل و النقل فظلت متفتحة فكان لابن خلدون رأيا فيها: «فموقفه مستمد من طبيعة رأيه في المعرفة البشرية و ميدانها و حدودها. فما دام العقل مشروطا بالتجربة, و ميدانه محدود بنطاقها,فان أية مسالة يقررها في ميدان ما وراء الحس هي مجرد تخمين يقول صاحب المقدمة و لذالك يضيف فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا و نثق به دونها, و لا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل و لو عارضه،بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا و علما و نسكت عما لم نفهم من ذالك و نفوضه إلى الشارع و نعزل العقل عنه، و ذالك لأن مدارك صاحب الشرع أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية، فهي فوقها و محيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف و المدارك المحاط بها هذا في مسالة الشريعة. أما في ما يخص مسائل و قضايا العالم المادي المحسوس, و بصفة عامة شؤون الاجتماع، فان الشارع لا يفرض علينا نظاما معينا محددا يشمل جميع تفاصيل و جزيئات حياتنا، و لذالك كان الوحي في الأعم الأغلب، خاص بالمسائل الشرعية، أما شؤون الدنيا و أمور المعاش و مسائل الاجتماع و الحكم فهي متروكة للعقل. فقوانين الحكم و السياسة تعتمد على العقل وحده دون الحاجة إلى شرع، لان جوهرها إنما هو اجتناب المفاسد إلى المصالح و القبيح إلى الحسن? و كل هذا تتم معرفته بالتجربة, أما صدقها أو كذبها فسيظهره الواقع عاجلا أم آجلا».