تشكل رواية « في كل مقام شيء من الجنون « استمرارا طبيعيا لمشروع الروائي والقاص عبد الغفور خوى الإبداعي، والتي هي محاولة لاكتشاف الذات في جدليتها مع المحيط التاريخي والاجتماعي، وتجاربه وذكرياته وعلاقاته الاجتماعية وميولاته الفكرية والفنية، والتي شكل منها مادته الخام ورؤاه وعالمه الروائي قصد إضاءة مناطق مظلمة في وعي وذهن القارئ من خلال إلغاء المسافة الفاصلة بينه وبينه، حتى يحس كأنه واحد من ابطال الرواية أو كأنه مشترك مع المؤلف في كتابة العمل... الرواية تستحضر الفرد بصفته ضحية لمجتمع متعفن، إما بريئا وإما مخدوعا، وغالبا ما تكون الأحداث صورا مختزنة في الذاكرة لشخصيات و تجارب عاشها المؤلف وتفاعل معها بكل أحاسيسه ومشاعره بصفته إنسانا يؤمن بالتمرد على الأوضاع الظالمة وكل مظاهر التعسف والتسلط والاستغلال والفوضى .. إن معايشة الراوي للمقام الصوفي واستفاءه من عالمه قد دفعه إلى إنشاء نصوصه بالتقاطع والتوازي معها في تجربة تناص مع الذاكرة وأبنيتها العميقة التي تتجلى في أشكال التفكير وأساليب التعبير الفني معا من خلال التوغل في أعماق شخصياته ليعكس أخلاقيات ذلك المجتمع وما ينطوي عليه من فساد وانحراف وشذوذ فكري دون أن ينسى تناول مشاعر الغيرة التي تدفع صاحبها إلى تصرفات غير سوية إن رواية « في كل مقام شيء من الجنون « تحاول أن تعالج بطريقتها الخاصة إشكالية الاغتراب بكل أنواعه وكيفية مواجهة الحياة المركبة والقائمة على الصراع الثنائي بين الجسد والروح عاكسة أحداث مجتمع وأصدائه في أعماق راويها. لهذا جاءت شخصياته متفاعلة مع هذه الأحداث متأثرة بها ومؤثرة فيها إلى نهايتها المحتومة الرواية حاولت النظر إلى الماضي بعيون الحاضر لاستجلاء مدى اختلاف أو تطابق الزمنين على ضوء حركة التاريخ والحضارة من أجل تفجير الوعي الذاتي، متوقعة من المتلقي التمعن في الماضي والحاضر بهدف إعادة قراءة التاريخ برؤية مستقبلية قصد معالجة قضايا معاصرة إن رواية « في كل مقام شيء من الجنون « والتي تشمل إحدى عشر مقاما ( مقام الرحيل / مقام الوصل / مقام الأمل / مقام العشق / مقام الحزن / مقام القتل / مقام الهجر / مقام الندم / مقام اليأس / مقام الرجوع/ مقام ما قبل الجنون بقليل) هي تعبير عن وضع تراجيدي للإنسان في شخصية البطل المحوري للرواية، في موطنه الذي ينطوي على مفارقات وسخريات تجسد انكساره وضعفه؛ مواجهته وقوته أثناء صراعه داخل حلبة واقع يتسم بالمرارة والقسوة والعبثية، ومدى رؤيته النقدية الرافضة لهذه القيم والمعتقدات دون السقوط في الثرثرة السردية. الراوي في توظيفه لإبداعه تعبيرا عن عالم أبطاله الداخلية الباطنية وتأملاتهم الذاتية ومعاناتهم وعن رؤاهم واستبصارا تهم للواقع الخارجي من حولهم وتفاعلاتهم العلنية معه حاول إظهار الفراغ الذي عاشه وعاشته شخصياته وفي روحها قلق لا يوازيه قلق على المصير وعلى الحياة وعلى الوطن. وأخيرا استطاعت الرواية أن تخلق أصالتها واحتفاءها بالتعدد اللغوي والتخييل ومواكبتها للمعيش ورصدها للقضايا الاجتماعية والسياسية والقومية كما كان اعتماد فكرة البناء الدرامي لها (أي الرواية) على قاعدة اللبنة الأولى في البناء الضخم التي تلتف حولها بقية اللبنات بترتيب معماري بارع متماسك قائم على الترابط في لغة شاعرية أنيقة مترعة بالإيقاعات والأنغام الداخلية والتي وضعت الروائي عبد الغفور خوى موضعا متميزا في خريطة الرواية العربية. أديب وناقد