منذ أن وجد الإنسان على كوكب الأرض و هو يصارع من أجل البقاء و الإستمرار و لم الخلود، فكانت مسيرته سلسلة من الانتصارات و الهزائم، من النجاحات و الإخفاقات، تارة يتمرد ضد الأقوى و تارة يمارس بطشه و وحشيته ضد الضعفاء ، لقد كان و لا زال همه الوحيد هو السيطرة و الاستبداد و بأي ثمن. بعد آلاف السنين، عرف الإنسان الاستقرار و خاصة بعد اكتشافه للنار و الزراعة و المواد المعدنية و الكتابة و اقتحامه لمختلف المعارف و فنون العيش، كما لعبت الأديان التوحيدية و الوضعية دورا أساسيا في إعادة الإنسان إلى طبيعته الإنسانية و بعدها الأخلاقي. لكن رغم هذا التطور في مساره ظل وفيا لتناقضاته، يظهر إنسانيته و طيبوبته أحيانا، و يتحول في رمشة عين إلى وحش قاتل بدون رحمة و لا شفقة. ابتداءا من القرن السابع عشر بدأ عهد التمرد الحقيقي و خاصة في إنجلترا من خلال الثورة الجمهورية التي تزعمها «كرومويل» بعد إطاحته بالعرش و الإعلان عن التأسيس لجمهورية جديدة ، هذه الثورة كانت دافعا لبعض المفكرين الانجليز لإبداع أفكار فلسفية و سياسية تهدف إلى إبراز قيمة الشعب كعنصر أساسي في تكوين الدولة. و هكذا نجد نظرية العقد الاجتماعي التي تولدت في هذا الجو الفكري و الثوري على يد الفيلسوف الانجليزي «هوبز « ما بين 1588-1679. جاء في نظريته هاته، أن الحكم ليس ملكا يمكن أن يغتصب بثورة مثلا و إنما هو نتيجة عقد تم بين الناس الذين كانوا من طبيعتهم النزاع و الخلاف و الحروب و الفتن، فتعاقدوا على أن يتنازل كل واحد منهم عن نصيب من حريته لمصلحة الآخرين حتى يتمكنوا من العيش في سلام. لكن لابد أن يكون هناك احد يختارونه ليكون هو الحاكم عليهم فكان هو الملك، لدلك لا يمكن اغتصاب السلطة منه إلا بإرادة المتعاقدين الذين اختاروه. و هكذا دافع هوبز عن الملكية بمنطق جديد، و ظهر مفهوم الدولة . و بعد هذا فتحت الشهية لفلاسفة آخرين و منهم «جون لوك» 1632- 1704 الفيلسوف الانجليزي الذي رأى أن الدولة عقد تم بين الأفراد لحماية أمتاعهم وأملاكهم و هو عقد متبادل بين الحاكم و الشعب خلافا لهوبز الذي جعل العقد من طرف جهة واحدة. و السلطة عند» جون لوك» ليست مطلقة و لا فردية و تتضمن كل من السلطة التشريعية و هي السلطة العليا في الدولة تمثل من طرف الشعب عن طريق الانتخاب أو الوراثة و السلطة التنفيذية بفرعيها الإداري و القضائي، فهي من حق الحكومة و على رأسها الملك ،لكن الملك لا يمكن أن يتدخل في السلطة القضائية إلا في حدود مقيدة. إذا ف»جون لوك» يشترط لنظام الحكم أن يكون الملك مقيدا بإرادة الشعب. و جاء بعد ذلك وفي نفس النهج للفيلسوف الفرنسي «جون جاك روسو» 1714-1772 الذي يعتبربحق فيلسوف العقد الاجتماعي واحد الكبار الذين مهدوا للثورة الفرنسية. حيث ظهر مفهوم السيادة و هي ممارسة الإرادة العامة أو إرادة الجماعة التي لايمكن إن تنتقل إلى الغير، لذلك فالمجتمع هو صاحب السلطة المطلقة و السيادة و كل ذلك يتجسد في الدولة. ولم تبقى هذه الأفكار حبرا على ورق بل تجسدت في مجموعة من الوقائع التاريخية كما هو الشأن بالنسبة ل: *الثورة الأمريكية لسنة 1775 و استقلال الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1776. *الثورة الفرنسية و الإعلان عن مبادئ حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789 *التطور الديمقراطي لأوروبا منذ القرن الثالث عشر، ثم ظهور الحركة العمالية سنة 1832 التي تطالب بحق العمال في الانتخاب. *الثورة البلشفية المستمدة من النظرية الماركسية، و التي تنبني على تقسيم المجتمع إلى طبقتين: الطبقة البرجوازية و الطبقة البروليثارية. لقد قطع الإنسان مسارات طويلة توجت بظهور مفاهيم جديدة تعتبر وعاء سيكولوجيا للحكام و الشعوب ينظم فن الحكم و الحكامة و هو أرقى ما وصل إليه الإنسان لحد الساعة، إنه مفهوم «الدولة الوطنية و الدولة الأمة» و إلى يومنا هذا لا زال الإنسان يبحث عن طرق و آليا ت جديدة لتطوير فنون الحكم و الحكامة، و الملفت للانتباه أن بعض الجامعات العالمية الوازنة ذات الصيت الدائع، أصبحت تبحث في سلوك بعض الكائنات الحية من خلال أبحاث علمية دقيقة لمقارنتها مع سلوك الإنسان و طبيعته الإجتماعية، فكان من بينها دراسة سلوك طوائف النحل داخل الخلية و خارجها، لم أكن أعرف الشيء الكثير عن هذه الكائنات، إلا أن تواجدي بجامعة «كومينيوس» بدولة «تشيكوسلوفاكيا» كطالب بشعبة الصيدلة في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، في زمن النظام الشيوعي، فتح لي آفاق كبيرة للتعرف على هذه الكائنات من خلال أبحاث طلابية كانت مؤطرة بباحثين و أكاديميين كبار من «كوبا» و «الصين الشعبية» و «روسيا» و غيرها و كانت هذه الأبحاث تدخل في الحروب المعرفية إبان الحرب الباردة بين دول الحلف الأطلسي و دول حلف وارسو، و كانت الأبحاث غاية في الأهمية و الدقة. صدقوني، فطموحات الإنسان لا حدود لها و متغيرة على الدوام، يجد الإنسان نفسه عاجزا عن الإجابة، هل هو مع الديمقراطية أم مع الحكم المطلق ؟ مع وحشية الإنسان أم مع إنسانيته ؟ مع التغيير أم مع بقاء الأمور على حالها ؟ غريب أمر هذا الإنسان. لفهم ذواتنا أكثر و مقارنتها بالآخر، للبحث عن ذالك المجهول فينا الذي ظل يكبر داخلنا في غفلة منا حتى كبر و نضج و أصبح المجهول حقيقة أما الحقيقة النسبية فضاعت و تبخرت. سنجد ذواتنا الحقيقية يوما و نحكي لها ما فعل الأنا الوحش بنا، من أجل استرجاع ذواتنا التائهة و مقارنتها بالآخر، سنسافر معا إلى عالم النحل الفريد البريئ و المدهش الجميل. إنه عالم غرائبي يقرأ ثم يقرأ لعدة مرات و خاصة بين سطوره و في كل مرة سنكتشف أننا نلامس شيئا فينا و قريبا منا، خاصة في ظل المرحلة الضبابية و المرعبة التي يمر بها الإنسان و المجتمعات في مختلف دول المعمور و خاصة في محيطنا الإقليمي، مرحلة التغييرات الكبرى و المواجهات العنيفة المقترنة بوحشية الإنسان و عنفه و جبروته و عناده و بطشه. إنها ببساطة قراءة لدستور مملكة النحل الطبيعي، توصلت إليه هذه الكائنات بعد تراكمات لملايين السنين بشكل عفوي و طبيعي. جرى العرف عند وصف مجموعة من الناس تتفانى في عملها لصالح المجموعة بأنها مثل خلية النحل، كل فرد في الخلية يعرف ما له و ما عليه من واجبات، يؤديها بإخلاص و تفان يجمعهم ترابط منظم و فريد، الفرد الكسول الخامل لا يستطيع العيش بين أفرادها بل سريعا ما يطرد خارج الخلية. و النحل يهلك عند انفصاله عن طائفته لحاجة كل فرد للآخرين.