حققت صناعة السيارات بالمغرب قفزة نوعية على مستوى الصادرات، وأصبحت في ظرف بضع سنوات القطاع المصدر الأول متجاوزة قطاعات تقليدية كبيرة مثل صناعات النسيج والجلد والألبسة، أو قطاع الفلاحة والصناعات الغذائية، بل وحتى الفوسفات ومشتقاته. غير أن مساهمة قطاع صناعة السيارات في الناتج الداخلي الإجمالي لا تزال ضعيفة، إن لم نقل غير ذات قيمة بالمقارنة مع أدائه على مستوى الصادرات. فما السبب في ذلك؟ وأين يكمن الخلل؟. قبل سنوات نجح المغرب في استقطاب شركة رونو، والتي أنشأت مصنعا ضخما في طنجة. وكاد السياق الدولي الخاص والمطبوع بتداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية أن يجهض المشروع، الذي كان في الأصل يشمل بناء مصنع لشركة رونو وبجانبه مصنع لشركة نيسان. وكادت رونو أن تعلق المشروع وتنسحب، على غرار نيسان. غير أن المفاوض المغربي آنذاك استطاع إقناع المجموعة الصناعية الفرنسية بمواصلة المشروع. ونزلت الدولة المغربية بثقلها لإنجاز المشروع، ودخل صندوق الإيداع والتدبير بحصة 47.6 في المائة من رأسماله، تعبيرا عن إلتزام البلد وجدية انخراطه من أجل إنجاح المشروع الذي يعلق عليه آمالا كبيرة من أجل إحداث الطفرة الصناعية. وبدل المغرب مجهودا إضافيا في اجتذاب الممونين. ولم يجد صعوبة كبيرة في ذلك، خصوصا وأن الأمر يتعلق بعملاء رونو التقليديين الذين يزودون مصانعها عادة بالقطع والأجزاء والمكونات، والذين يتبعونها حيثما حلت وارتحلت شريطة أن يكون المشروع قابلا للاستمرار. غير أن هذا المجهود توقف عند هذا المستوى. وبالتالي ظلت مساهمة القكاع في النمو الاقتصادي ضعيفة إذ أن الحكومة الحالية التي صادف توليها دخول مصنع رونو حيز التشغيل تقاعصت عن اتخاذ التدابير اللازمة لمواكبة تطور مشروع رونو عبر خلق نسيج صناعي محلي من المناولين والممونين. ويتجلى ذلك بشكل واضح في ركود نسبة الإدماج المحلي للسيارات التي تركبها رونو في المغرب، والذي لم يتجاوز 35 إلى 40 في المائة, اليوم تعزز القطاع بمجيء بوجو سيتروين، وهو توسع طبيعي باعتبار أن بوجو تشكل الرافد الثاني لصناعة السيارات في فرنسا إلى جانب رونو. وتاريخيا تتقاسم الشركتان السوق الفرنسية عبر تخصص بوجو في تموين السوق القروية وتوجه رونو إلى تموين السوق الحضرية. فلا غرابة أن نصادف سيارات بوجو بشكل لافت في بوادينا المغربية أيضا. والشركتان معا تساهمان مند زمن بعيد في رأسمال الشركة المغربية لصناعة السيارات (صوماكا)، والتي استطاعت رونو أن تصعد في رأسمالها مند أواخر التسعينات عبر شراء حصص فيات وحصص الدولة وحصص مجموعة آونا، لترفع حصتها إلى نحو 80 في المائة مقابل احتفاظ بوجو بحصة 20 في المائة. دخول مصنع بوجو في القنيطرة حيز التشغيل، المرتقب في 2019، سيزيد من وزن قطاع السيارات في مجال التصدير، إذ أن إنتاج المصنع المقدر بنحو ألف 100 سيارة سيوجه لأسواق إفريقيا. لكن السؤال الكبير هو ماذا سيستفيد الاقتصاد المغربي بغض النظر عن بضع مئات من مناصب الشغل؟. الجواب يرتبط بما تفعله الحكومة وسياستها لاستغلال هذين القطبين الصناعيين في تطوير قطاع صناعي وطني. فرغم أن وتائر الانتاج والتصدير في مصانع رونو بطنجة أصبحت تقترب من السرعة القصوى، يبدو الوقع ضعيفا على مستوى النمو الاقتصادي. فالمعدل السنوي لنمو القطاعات غير الفلاحية ككل، بما فيها القطاع الصناعي عموما، وقطاع صناعة السيارات على الخصوص، لم يتجاوز نسبة 2.5 إلى 3 بالمائة حسب السنوات. والمعدل العام لنمو الاقتصاد المغربي لا زال يتذبذب على وقع التقلبات المناخية وحجم المحصول الفلاحي. ذلك راجع لكون الحكومة لم تبدل أي مجهود لتطوير الاستراتيجية الصناعية والمرور بها إلى مرحلة ما بعد استقطاب رونو. فعلى مدى الثلاثة سنوات الأولى من ولايتها أهملت الحكومة القطاع بشكل كامل ولم تبدل أي جهد في توجيهه ودعم انبثاق صناعة وطنية للسيارات. فالحكومة الشبه ملتحية التي كانت مشغولة بتطاحناتها الداخلية وما ترتب عنها من حروب هامشية لم يكن لديها لا الوقت ولا القدرات اللازمة للتخطيط الاستراتيجي والأخذ بزمام الأمور في تنفيذ السياسات القطاعية. وبدل التفكير الاستراتيجي اكتفت الحكومة بالتدبير اليومي وغرقت في تدابير وإجراءات جزئية، من قبيل استغلال ظروف انخفاض أسعار النفط لهدم منظومة دعم استقرار أسعار المواد الأساسية دون اقتراح أي بديل. وبيد أن الحكومة تولت مهامها في مطلع 2011 فإنها لم تبدأ الحديث عن التنمية الصناعية إلا في أبريل 2014، بعد التعديل الحكومي عقب انسحاب حزب الاستقلال معبرا عن امتعاضه واستيائه من ضعف الأداء الحكومي وطريقة تدبير عملها من طرف رئاسة الحكومة التي تستفرد بالقرارات وتهمش شركائها في الغالبية الحكومية. وإلى اليوم لا زال تنفيذ مخطط التسريع الصناعي غير واضح المعالم ولا زال يتعثر، خاصة في مجال صناعات السيارات. فالتصنيع لا يعني منح الأرض والرأسمال والإعفاءات الضريبية لشركة أجنبية كي تستقر في البلاد وتستورد مدخلاتها وتصدر منتوجاتها، ولكن المقياس هو انعكاس ذلك على مستوى القيمة المضافة والناتج الداخلي الإجمالي ومعدلات النمو. المطلوب استراتيجية صناعية حقيقية تعطي عمقا مغربيا لصناعة السيارات عبر دعم وتحفيز الاستثمار المحلي في المنشآت والقدرات الصناعية والكفاءات ونقل التكنولوجيا والمعرفة والدعم اللامشروط للبحث والتنمية على الصعيد الوطني.