ينظر عادة إلى التاريخ كنهر منساب تارة بسرعة وطورا ببطؤ باعتباره حركة تحكمها وتوجهها إما الدينامية الداخلية أو العناية العلوية. لكن المقولة الجديدة المتميزة التي ابتدعها الفكر الألماني للنظر إلى التاريخ وتعبيره هي مقولة المشروعية مشروعية حركة التاريخ (الكوني والمحلي) وأسسها ومدى مشروعية التحولات وأسسها العميقة... هنا لابد من التمييز بين الشرعية (Legality) والمشروعية. فالأولى تمثيلية وتدبيرية وتقنية في حين أن الثانية هي فكرية وثقافية: ما هي الأسس الفكرية التي تسند فترة تاريخية ما وتسند تحولاتها إيجابا أو سلبا، وما مدى صدقية وجوازية هذه الأسس. هكذا تؤول مسألة المشروعية إلى مسألة الأسس الفكرية وإلى مسألة المصداقية. أول فيلسوف طرح مسألة المشروعية على التاريخ الكوني الحديث هو الفيلسوف الألماني فريديريك هيجل من خلال فحصه لمدى مشروعية الأزمنة الحديثة سواء كزمن أو كبنية فكرية (الحداثة) هيجل ليس مؤرخا محترفا بقدر ما هو فيلسوف وفيلسوف تاريخ بالأساس. استجمع هيجل الخيوط الأساسية التي وسمت التاريخ الكوني المتقدم خلال القرون السابقة على عصره (18-17-16-15) مستخلصا أن هناك ثلاثة أحداث نوعية ومصيرية وسمت الأزمنة الجديدة أو الحديثة في أوربا وستمتد آثارها لتشمل العالم كله تدريجيا وبقوة وهي: - اكتشاف العالم الجديد (أمريكا) 1492. - الإصلاح الديني في أوربا. - الثورة الفرنسية 1789 هذه الأحداث الكبرى النوعية هي أحداث مفصلية وهي بمثابة ديناموات أو ديناميات أو موجات عاتية ستتحكم في كل التاريخ العالمي وستوجهه. هذه الأحداث هي أحداث تعبيرية وكلية لأنها جماع لتحولات تقنية وعلمية وتنظيمية وفنية لكنها تضمر تحولات فكرية عميقة فكر الفيلسوف في استجماع ملامحها وملمحها الأساسي. عبر المفكر عن عمق هذه التحولات بابتهاج وبألفاظ لا تخلو من تبني وتفاؤل: «هذا البزوغ الرائع للشمس»، «إعادة استملاك الخيرات العُلْوية»... لكنه استلمح جوهرها الفكري المتمثل بالنسبة له في انبثاق الذاتية الإنسانية Subjectivité الذاتية في المصطلح الهيجلي تعنى حسب التأويلات المتحمسة التي قدمها هابرماس في ملحمته المتميزة «الخطاب الفلسفي للحداثة»، تعني: الحرية التفكير الذاتي - استقلالية الفرد وفعاليته - الحق في النقد... وبعبارة معاصرة فإن النزعة الذاتية الإنسانية تعني الاستقلالية النسبية للذات الإنسانية عن محددات التقليد والتقاليد واحتيازها لمساحة حرية أكبر واكتسابها لقدرة أكبر على إعمال العقل بمعنييه التحليلي والنقدي، واستعادة القدرة على تملك المصير الشخصي الذي لم يعد ريشة في مهب إملاءات وتحكمات العصور السابقة... وهذه المعاني لا تختلف عن المعاني التي أبدعها الفيلسوف الألماني عمانويل كنط في تحليله لمعنى الأنوار. الأنوار حسب كنط هي استعادة الإنسان والإنسانية لحقوقها وقدراتها وخروجها من دائرة القصور والتبعية لإملاءات العصور الغابرة وللنخب التقليدية التي تمثلها وتفرضها. الأنوار هي استقلالية الفعل الإنساني وجرأة العقل الإنساني (اجرؤ على استخدام عقلك) وفاعلية الإنسان كذات وكنوع. فالحداثة أو العصور الحديثة تستمد مشروعيتها أي أساسها الفكري الثمين من اعتماد الإنسان على ذاته أي على عقله التحليلي والنقدي، وعلى تخليص فعله من الحتميات التي يفرضها التقليد كبداهات وكمعنى وحيد للعالم وللتاريخ. هناك إذن مستويات في علاقة الحداثة بالتاريخ: مستوى نظري ومثالي ومستوى عملي. في المستوى الأول تبدو الحداثة كجملة قطائع وتحولات جذرية ونوعية انطلاقا من أساسها الفكري: الذاتية الإنسانية بكل معانيها المذكورة آنفا مصطلحاتها و قاموسها الأساسي هو: التحول - التطور - الثورة - القطيعة - التجديد - المستقبل - الموضة - الانفتاح على المجهول- الاعتماد الذاتي. والأساس الذاتي Autofondation - اللانهاية - التقدم... بينما يتكون قاموس القدامة والتقليد من مصطلحات تعكس أولوية ونموذجية الماضي بأشخاصه وأفكاره وحكاياته الكبرى. أما على المستوى الثاني، الوقائعي فالحداثة تفاعل يتراوح بين العراك والغزل، بين الندب والمتح وهكذا ينشأ ضمنيا صراع مشروعيات ذو وجهين: تقليد يعتبر نفسه مالكا لمشروعية تاريخية فريدة لا يريد أن ينافسه فيها أي كان، فهو الذي يمتلك المعنى (الكبير-الأوحد) والذي يهبه، وهو الذي يهب ويوزع المشروعيات ولكنه يحتاج إلى أن يمتح مع ذلك من الحداثة حتى يستمر في الوجود وحتى يتمكن من إلحاق الجدة، وحتى ينفض عن نفسه غبار الأزمنة... وحداثة تنكر مشروعية الماضي ونموذجية الأجداد وتعتبر نفسها أولى بمنح المشروعية وتفتخر بأن مشروعيتها مستمدة من ذاتها (Autofondation)، وأنها غير مستلبة تجاه نماذج عف عليها الزمن وأنها حاملة لمشروع التحرر من قوى الطبيعة وما فوق الطبيعة وقادرة على اختراق حجب المستقبل المجهول و... و... لكنها مضطرة لتناس موقت لماهيتها فتدخل في تصالحات وتسويات لتسلب من الماضي مشروعيته وتتلحف بها وبذلك تدخل في تفاعلات مع هذا الماضي عبر عمليات تأويلية معقدة من بينها إعادة اختراع الماضي أي تجديده أو تجديد معناه في إطار صراع قاتل بين مشروعيات متباينة المنابع والدلالات والآليات: مشروعية الماضي ومشروعية المستقبل. هذا الصراع هو صراع مضمر في كل المجموعات التاريخية وبخاصة بعد أن فرضت مشروعية الحداثة نموذجها وإغرائيتها، وهو ما حفَّز دينامية التنافس والصراع بين الديناميتين الرئيسيتين في التاريخ الكوني والمحلي المعاصر. هناك شعوب تغلبت لديها دينامية التحول والاكتشاف والتجديد واكتسبت فيها مشروعية الحداثة والتحديث أولوية قيمية. وهناك شعوب ومجموعات ثقافية لعل أبرزها العالم العربي والإسلامي مالت فيها الكفة دوما وإلى حد الآن لصالح الهيمنة النموذجية للماضي وثقافته وتصوره للعالم واعتبار المستقبل تجسيدا لمثل الماضي مما يجعل هذه الفضاءات الثقافية تجربة فريدة في الامتثال والولاء والوفاء ومراهنة فريدة النوع على أمثلة واستلهام واستمداد كل أشكال المشروعية من الماضي وثقافته. إن للماضي إشعاعه ومشروعيته وإلهاماته لكنه قد يتحول إلى عائق تاريخي أو إلى مجرد أكياس رمل ، ومن ثمة ضرورة معالجة اختلال التوازن بين الماضي والمستقبل ، بل إن البعض يرى أن التحرر من سطوة الماضي هو شرط التوجه نحو المستقبل كما عبر عن ذلك أحد المفكرين العرب المعاصرين . * ) أستاذ الفلسفة بكلية الآداب ? الرباط.