رغم الحفاوة التي يستقبل بها كاتبنا احتفاء الفلسفة بالحياة، إلا أنه يعود ليذكر بمأساتنا، نحن المحسوبون على الفلسفة في جبتها العربية، تفاصيل المأساة تتجلى في ما سماه المؤلف ب»الغربة المزدوجة» للخطاب الفلسفي، فزيادة على الصعوبات التي تطرحها البيئة العربية التي مازالت تتحرك ضمن إرث، يصفه الأستاذ أفاية، بكونه يتبرم من الثقافة والفكر الذي يحض على السؤال والإبداع وإعمال العقل، فإن الفلسفة، في شكلها العربي، عانت أيضا من مختلف أشكال «التمويت»، الذي مورس عليها منذ زمن مضى، لطبيعتها السابقة الذكر. ولكن أيضا، خوفا من الإرتجاجات التي يمكن أن تحدثها على عشاق الثبات الأبدي، والكسل المعرفي، والطمأنينة المرجأة إلى عالم الخلاص (الآخرة)، الشيء الذي جعل فيلسوفنا يستنتج صعوبة الحديث عن «فلسفة» بصيغة الضاد، يقول في هذا الباب:» حتى إن الحديث عن «فلسفة عربية» يبدو بحاجة إلى تدقيق ومساءلة، لأن الأمر يتعلق أكثر، ربما، بما يسميه هشام جعيط «فلسفة الثقافة» التي تتخذ من التراث والهوية، وعلاقة الشرق والغرب، موضوعات لها»11 ، أفلا يهدد هذا القول، كل قول بوجود «روح نقدية» في الكتابات العربية؟ الفلسفة والنقد سيان، حضوره من حضورها، وغيابها من غيابه. ليست الفلسفة مجرد نقد، ولن تكون إلا كذلك، وهو ما يفتأ مفكرنا يقرره بين ثنايا كتابه في كل لحظة يتحدث فيها عن النقد. وإذا أردنا أن نقود مقدمات كلامه إلى أقصاها، فإننا لن نجد حرجا في القول إن النقد فلسفة، ولن يكون إلا كذلك. قد نغالي ونقول إن النقد على الحصر وقف على الخطاب الفلسفي. لذلك نجد صاحب «النقد الفلسفي المعاصر» يستدرك خلاصته حول قول جعيط، بإشارته إلى وجود «وعي عربي ذو طبيعة نقدية»12، أخذ على عاتقه، مسؤولية التفلسف بصدد الإشكالات التي أملتها عليه شروط لها صلة بالسياسة والإقتصاد والتحولات التي يشهدها العالم على كافة المستويات، والتي سبق لنا ذكر بعض ملامحها. لكن الإنتقال من الغرب إلى الشرق، يفرض مساءلة العلاقة بين وعي الشرق ولاوعيه، بين واقعه ومتخيله، وهو الأمر الذي سيعمل الكاتب على استنطاق صمته قبل نطقه ومحظوره قبل مباحه في القسم الثالث من الكتاب. العرب وفكرهم، كانوا دوما وأبدا، ومنذ القرن التاسع عشر، محط ارتجاجات مهولة، ونكبات مرعبة. وعوض التفكير الجدي النقدي اليقظ والمتيقظ في ملابسات هذه الأحداث ومختلف تجلياتها وانعكاساتها على الوعي العربي، أخلفنا الموعد في البداية، «وعينا بأشياء غير التي كان علينا الوعي بها» على حد تعبير الكاتب. صار البعض يبحث في ما يسميه العروي -الذي يشيد الكاتب بأعماله أيما إشادة- المستقبل الماضي، ففقد الحاضر حضوره وحاضريته، لصالح ماض مضى، ومازال مصرا على المضي، في حين توجه البعض إلى استيراد «مقولات جاهزة»، واستهلاك بضاعة رائجة، لم ينتبه «تجارها» إلى فارق الزمن والتاريخ، بسبب التخمة الإيديولوجية التي أعاقت سيرها وحركتها، فأضاعوا على دولهم/دولنا فرصا جديدة، لابتكار وإبداع حلول لثقافة يغلب عليها طابع التلقين والحفظ، ويتمتع فيها الفقيه والمفتي والواعظ والمرشد بحظوة تفوق بكثير مكانة المفكر والفيلسوف النقدي. في واقع كهذا، يشير الباحث إلى اضطلاع بعض المفكرين بأدوار طلائعية، لمساءلة «الوجود العربي» وهمومه المختلفة، مسائلين بداهاته، ومخلخلين سواكنه، من خلال الدفاع والمرافعة على قيم النقد والعقل. وبعد «أبهة الأمراء»، التي عاشتها البديهة في ضيافة «القوى الإرتكاسية» بلغة دولوز في قراءته الشهيرة لنيتشه، حل، أو لندقق ونقول، ظهرت بوادر البرهانيات في سماء الكتابات العربية.»والبرهان متعطش لنهب البديهة تعطش القرصان إلى سفينة ضالة؟البديهة عزلاء كظبي مطعون بالأمان»13، يقول محمود درويش في حضرة غيابه. رغم إغراء كلمات درويش، إلا أن «بدائه العرب»، لم تكن بالعزلة المرجوة، بل لقد كان لمعبدها حراس وجلادون. مسرور سياف الرشيد يكاد يستغرق تاريخنا الدموي منذ القدم، ما يفتأ يعود بمسميات مختلفة ل»قطف» الرقاب. سياف البداهة، صار أكثر تهديدا لرقابنا، و آنُنَا العربي الإسلامي آنٌ لتغول البداهة، بسبب مفعولات ثقافة الإدراك وغرور التراث، والإختيارات غير المسؤولة للسلط، اختيارات أبدَت استبداد الحسيات وتسلط المطلقات وتجنيد الجماعات بمشروعيات مختلفة: دينية وحضارية وثقافية، ومعها أبدت شروط اختيار العبودية (الطوعية) على التحرر. في سياق حديثه عن سوء الفهم الذي تعرضت له تاريخانية العروي، أو ما اعتقد العروي نفسه أنه كذلك، يشخص لنا الباحث محمد نورالدين أفاية «التشويش» الذي لحق التفكير، بسبب ما سبق أن أسميناه «اختيارات سياسية» غير مسؤولة. يقول:»عملت السلطة السياسية، منذ ما يقرب من أربعة عقود، على منع التفكير، وشوشت على العلوم الإجتماعية والإنسانية، وحاصرت الفلسفة وكل مصادر الفكر النقدي، وانخرطت في عملية مزدوجة تقضي بتنشيط ثقافة التقليد، و»أسلمة» برامج التعليم، وبناء مؤسسات ذات طابع حديث مع إفراغها، في الآن نفسه، من مضامينها ووظائفها التحديثية. الأمر الذي يدعو إلى الملاحظة أن عقل السلطة في الصراع المحتدم على البقاء، لم يكتف بتكريس ما يعوق تحديث الدولة والمجتمع، وإنما استند إلى آليات أيديولوجية ومؤسسية عملت على «تحديث» هذه العوائق باستدعائها مرجعيات حديثة في تكريس التقليد، أو مستندات تقليدية لتدبير المؤسسات الحديثة»14. لن نجد خيرا من هذا النص القوي من حيث المعنى والمبنى للدلالة على إشاراتنا السابقة إلى محاولات تأبيد وضع الحجر والوصاية؛ فالسلطة لم تعمل فقط على محاصرة النقد وثقافة السؤال، بل وظفت لصالحها منتجات هذه الثقافة للحيلولة دونها. ورغم هذا فالباحث لا يخفي أمله في وجود اجتهادات، أو «أنوية شابة»15 كما يحلو له أن يسميها، لا تدخر جهدا في مقاومة هذه النزوعات النكوصية، من خلال التحفيز على ممارسة السؤال والنقد والمساءلة. والمؤسسات مطالبة بتشجيع هكذا مبادرات، لأن سلوك الطريق المعاكس، معناه الإرتماء في أحضان النزعات المضادة. ولربما ما يشهده الآن العربي اليوم، لا يخرج عن هذا السياق. إنه يحصد مازرع منذ سنوات، عندما اعتقد أن الفلسفة خطر على المؤسسة، وأنها تهديد لثوابت السلطة، ففسح ذلك المجال لانتعاش حركات تهدد الوجود ككل، وتلغي قيم التسامح والإعتراف والمواطنة، وهي قيم لها حضورها الوازن في فعل التفلسف وأحلامه التربوية، التي يتغيا تحقيقها. لربما، كانت الخلاصات أعلاه، سببا من جملة الأسباب، التي دفعت الباحث إلى الحذر والتأني عند استحضار ماحدث في سنة 2011. عديدة هي الإحالات إلى هذا «الإرتباك التاريخي»، عندما أمسكت «شعوب الهامش» بمقود التاريخ، أو ظن أن ذلك كذلك. يرفض الكاتب نعت «الحدث» بما درجت أقلام الصحافة على نعته بمجاز «فصول السنة»، ويضع كلمة الثورة بين مزدوجين، ويستخدم حينا كلمة «انتفاضة»، وأحيانا كلمتي «ارتجاجات واهتزازات»، للتعبير عن الحدث. فليس من اليسير التخلص من تراكمات مأسسة الغباء والضحالة، حتى يأتي الربيع، وتخضر أوراق الخريف. المهم في نظر فيلسوفنا أن ما حدث كان علامة، «علامات على مختلف أشكال التعبير المتشنج عن الإنتماءات المتنوعة التي عملت التسلطية طوال عقود على كبتها ومحاصرتها»16، والمكبوت علمنا التحليل النفسي أنه عندما يعود يكون مدمرا، فما القول، في من عاد إليه مكبوته ، بعد عمليات خصي وإخصاء متعددة؟ كلمة الخصي، من بين أبرز المفردات التي نجدها في متن الكتاب، وإذا علمنا أن ما يميز صاحبه هو القدرة على انتقاء «الألفاظ والمفاهيم» بشكل دقيق للتعبير عن رؤاه بصدد إشكالات النقد والتاريخ والجسد والهوية والقيم والتاريخ، وغيرها من القضايا التي عمل المؤلف على تناولها من وجهة نظر النقد الفلسفي، إذا علمنا هذا، علمنا مشروعية حديثه عن تعرض الذات العربية لأشكال مختلفة من الخصي، وهي الذات التي تدور حول مركزية القضيب وهيمنة «براديغم» الذكورة والفحولة والرجولة، فإذا بهذه الذات تلجأ إلى خصي ذاتها، فتكتشف أن ما كانت تفاخر به الأمم والدول، لم يعد منتجا، فقد فعله في التاريخ، وأثره في الزمن. شاخ، وانتهت صلاحياته. من تجليات هذا الخصي الذاتي، بالإضافة إلى ما اصطلحنا على تسميته ب»مأسسة الغباء»، نجد كاتبنا يتحدث عن إنسان عربي تائه مستسلم، شبيه بحمار بوريدان الذي لم يستطع أن يختار بين الماء والتبن، فمات من شدتهما معا، تيه تعمق من شدة الجراحات التي يتعرض له»نحن»نا منذ القرن التاسع عشر. يتحدث الكاتب عن شقاء الوعي واضطراب علاقة الذات بذاتها من جهة وبالواقع من جهة ثانية. ولقد فرضت حالة التيه هذه اختيارات غير منسجمة، بل متضادة ومتناقضة في أغلب الأوقات، ولا تنفقد خاصية التناقض إلا عند اشتراكها في اغتيال العقل وإقالة الوعي، وفي أفضل الحالات تسطيحه، والمساهمة في تسييد ثقافة التكرار والإجترار. من مظاهر العجز عن إبداع ممكنات جديدة، للخروج من عالم «التيه العربي»، إغراق فئة في تبرير «التخلف» بمبرر الإبتعاد عن «الأصل الطاهر». فئة تقتات على «وهم ماضوي» حول «مجد الذات» في زمن مضى وولى. لهذا حصرت كل جهودها للتعبئة من أجل «الهجرة» إلى الماضي. ويلاحظ عليها أفاية أنها صارت تعرف انحدارا فظيعا على مستواها التنظيري، مقابل تجريبيتها الحركية. في حين هناك فئة ثانية عملت على مواجهة «صدمات الخصي»، باختيار استنبات نظريات جاهزة أثبتت فاعليتها في سياق ما. ومن هنا ملاحظة هيمنة الإيديولوجي على تحليلاتها. وفئة ثالثة، اختارت بديلا وسطا: نزعة توفيقية تلفيقية بين الإثنين. المهم أن إفرازات الخصي الذاتي كانت لها انعكاسات مهولة على مستوى الممارسة النقدية والإبداع الفلسفي.