يعرف جون بول سارتر المثقف العضوي بأنه "ذلك الانسان الذي يدس أنفه فيما لايعنيه » quelqu'un qui se mêle de ce qui ne le regarde pas « وهذه الخاصية هي التي تحقق للمثقف صفته الشرعية وتميزه عن غيره وتجعله دائما ضد التخلف والظلم والجهل والديماغوجيا ، وضد مكر الدولة وشططها، وحين تحاول السلطة استقطابه إلى صفها تجده صلبا متمنعا ، لأنه مؤمن برسالته وغايته ومستعد للتضحية من أجلهما . وفي غياب هذه الخاصية يعتبر المثقف مزيفا يبيع نفسه للسلطة فيعمل على تزييف الوعي وتضليل الجماهير وانطلاقا من هذا التعريف يمكن القول بأن أزمة المثقف العربي تتمثل في كونه يحمل مبادئ وأفكارا إصلاحية لكن سرعان مايتخلى عنها حين يتقلد المناصب العليا وتقدم له الإغراءات المادية . ولايمكننا الحديث عن إشكالية العلاقة بين النخبة المثقفة والسلطة إلا في ضوء الحديث عن الكيفيات والطرائق التي تسهم في تشكيل النخبة المثقفة وفي ظل غياب شروط أكاديمية محددة لتكوين النخبة المثقفة نتساءل عن مدى وعي المثقف بدوره التاريخي في تشكيل هذه النخبة ، وهل هذه النخبة تتشكل بطريقة عفوية من خلال إفرازات الحضارة الفكرية والعلمية للمجتمع أم أن للسلطة يدا فاعلة في هذا التشكيل وذلك من خلال استقطابها للمثقفين ومنحهم مناصب تليق بمستواهم العلمي، ومن ثمة تتكفل بانتزاع الولاء منهم للسلطة الحاكمة أم أن الأمر يتعدى إلى توقيع عقدة من أجل الدفاع عن مشروعية هذه السلطة مهما كانت اختياراتها ومناهجها ومواقفها. وبما أن السلطة تحرص على رسم خط إيديولوجي يربط الدولة بالمجتمع فإنها تجد نفسها في حاجة ماسة إلى سلطة معرفية تمكنها من نشر إيديولوجيتها وترسيخها لدى أفراد الشعب وبالتالي تعمل على تبرير هذه الإيديولوجيا ونفي مايناقضها من أذهان الناس وألسنتهم، وبالطبع فالذين يمتلكون هذه السلطة المعرفية هم العلماء والمثقفون ولذلك يصبحون موضوع استقطاب من قبل السلطة ، تبدو الإشكالية هنا في وضع معقد ، فالمثقف يجد نفسه محكوما بظروف اجتماعية أهمها قلة ذات اليد ومحكوما أيضا بظروف نفسية أهمها انعدام العفة والقناعة وضعف الإيمان بقضية التغيير، مما يؤدي به إلى التخبط في الحيرة والتمزق بين الاستجابة لصوت المبدأ الذي يدعوه إلى الرفض وصوت المصلحة الذي يفرض عليه الانحياز الى صف النخبة المثقفة التي تنتقيها السلطة، ليس لتستعين بعلمها وآرائها من أجل تحقيق تنمية بشرية شاملة ومستدامة، ولكن لتوظيفها كأداة إيديولوجية من أجل تمرير مشاريعها. ولن يستقيم عمل النخبة المثقفة ولن تنجح في أداء وظيفتها إلا إذا كانت تتمتع بشرطين اثنين: - أولهما الإستقلالية المادية والمعنوية ، أي أن يكون المثقف مكتفيا من الناحية المادية متوفرا على كل الوسائل التي تمكنه من العيش الكريم وتيسر له التوصل الى المعلومة وتجعله قادرا على أداء تكلفة التكوين بما يلزمه من سفر الى البلاد الاجنبية والاقامة بها واقتناء كل الوسائل والأجهزة التي تساعده على صنع الأفكار ووضع الحلول لكل المعضلات. أما الاستقلالية المعنوية فتتمثل في استقلالية المثقف عن كل أشكال الإنتماء سواء كانت سياسية أو غير سياسية كي يتمكن من تحقيق الحياد والموضوعية ويتخلص من براثن الإيديولوجيا . أما ثاني هذين الشرطين فيتمثل في التمتع بالقدر الكافي من الحرية الذي يمكن المثقف من الجهر بصوت العلم الذي يتعالى على كل الأصوات لأنه يحمل الحقيقة التي لاتحابي حاكما ولامحكوما. ولقد سبق أن ذكرنا أن من أهم شروط بناء النخبة المثقفة الإستقلالية ، فإذا انعدمت هذه الاستقلالية تحول المثقف إلى أداة لخنق الحقيقة ووأدها في مهدها، وأسهم في صناعة الهدر الفكري، وآثر العزوف عن التأليف العلمي الحقيقي، وأحجم عن إبداء الرأي الحر النزيه الذي لاتشوبه شائبة من الإيديولوجيا، وعمل على حصر الثقافة داخل المؤسسات مفضلا التحدث بلغة العامة والتماهي مع منهجهم في التواصل والتفكير. ولعل الترقي الاجتماعي الذي يحققه المثقف على حساب الحقيقة ينقله من طبقة اجتماعية إلى أخرى ويعزله عن الواقع الاجتماعي فتتعقد علاقته بالواقع ، الشيء الذي يؤدي به إلى تكوين صورة مغلوطة تؤدي به إلى إصدار أحكام وآراء مغلوطة مما يجعله محط الإتهام والتشكيك وتسحب منه مصداقية المثقف ، وبالإضافة إلى ذلك فإن اختيار المثقف العيش بعيدا عن الشعب الذي يحتاج الى ثقافته يجعله عاجزا عن أن يمد مجتمعه بأدنى درجات الوعي والثقافة ، ويقضي حياته مكتفيا بإنتاج الوعي المزيف الذي لايزيد المعضلات إلا تعقدا . ولقد كان من المنتظر أن يكون المثقف هو الذي يقود المؤسسة إلى الطريق الصحيح فإذا به يزكي مايفعله غير المثقفين في المؤسسة وينساق خلفهم لمجرد أنهم اقدم منه وجودا في هذه المؤسسة فهو يعتبرهم أهل البيت أما هو فمجرد ضيف ينبغي أن يبتعد عن كل أشكال النقد والمعارضة مادامت المؤسسة توفر له الاحترام والشهرة وتطبع له الكتب وتنشر له المقالات وتقضي له المآرب وتنفحه بالعلاوات والتعويضات . وبدل أن تضع السلطة قانونا أساسيا للنخبة المثقفة يمتعها بحقوقها المشروعة ويلزمها بالقيام بوظيفتها في البحث العلمي والصدع بالحقيقة ويوجب عليها إبداء الانتقادات البانية ووضع الحلول الشافية، نجدها تبذل كل جهودها من أجل تدجينه وإخماد صوته وتحويله إلى مجموعة العازفين على نغمتها وإيقاعها ، وهي بذلك تعمل على هدر أغلى ثروة تتوفر عليها البلاد فالمثقف تعلم وتربى في مدارس وجامعات تأخذ ميزانيتها من ضرائب الشعب ، إلا أن هذا الشعب يحرم من ثقافة هذا المثقف وعلمه ، ويبقى عرضة للجهل والوعي المزيف ، وتظل البلاد ترسف في أغلال السياسات الفاشلة والحلول الترقيعية.