خلصت جل أبحاث الأنثروبولوجيا السياسية التي درست المجتمعات غير الغربية خاصة في المنطقة العربية والإفريقية إلى أن الحزب السياسي في هذه المجتمعات كان دائما إحدى أدوات التحديث، بالاعتبار الذي كان فيه تجسيدا لمبادرة النخب التحديثية، وبفضل كونه تنظيما قادرا على ربط علاقات مباشرة وواقعية مع الأفراد والجماعات المحلية أفضل من الإدارة، ولأن له كذلك أدوارا وأهدافا في مختلف المجالات تجعله يتبوأ مكانة الفاعل الأول للتنمية. هكذا فإن الحزب السياسي في المجتمعات غير الأوروبية، وحسب الفرنسيGeorge Balantier في كتابهAnthropologies politiques يحقق وظائف متعددة: يعرف الدولة، يوجه الاقتصاد الوطني، ينظم أولوية وأهمية الفعل السياسي، ويساهم في إعادة بناء البنى الاجتماعية. في المغرب، ومع الدستور الجديد الذي جاء به الحراك الديمقراطي للمجتمع المغربي، أصبح للحزب السياسي مكانة بارزة في المنظومة السياسية وبناء الحلول والبرامج للتنمية واتخاذ القرار داخل المؤسسات والمساهمة في تقوية الاندماج الاجتماعي، وتمكن من أخذ أهمية كذلك في تشكيل السلوك السياسي للمواطنين، واقتراح الأفكار والتصورات للنقاش العمومي، وتنشيط المواطنة عبر تحميس الأفراد والجماعات على الانخراط في سيرورات سياسية وثقافية، تعطي للمؤسسات عمقها الشعبي والوطني. ومع مجيء حزب العدالة والتنمية لقيادة أول حكومة بصلاحيات واسعة في ظل دستور 2011، تطلع كل المغاربة إلى حياة سياسية خصبة، قادرة على توسيع قاعدة المجال العمومي، ليشمل كل القضايا التي تهم الفرد في العدل والحرية، وتهم الجماعة في العلم والإنتاج والتنمية، وتهم الوطن في الازدهار والتقدم. لقد انتظر المواطن المغربي من هذا الحزب، استيعاب متطلبات اللحظة السياسية التي يمر منها المغرب، والتي تقتضي الانتقال من حزب أخلاقوي دعوي يكتفي بتحويل مشاكل الاقتصاد والسياسة، إلى مشاكل أخلاقية، وفي أحسن الأحوال إلى مشاكل تقنية، الانتقال إلى حزب سياسي له تصور مجتمعي، ومشروع اقتصادي، يضعهما في خدمة تنمية البلاد. بمعنى أن تكف نخبته عن رؤية تناقضات الواقع السوسيو- اقتصادي، على أنها اختلالات ثقافية أو زيغان أخلاقي عن جادة السلف الصالح، وبالتالي تصبح قوة سياسية تحديثية، تساهم من موقعها في إيجاد بدائل الديمقراطية والتحديث، على غرار تجارب في مجتمعات أخرى ساهمت فيها إيديولوجيات متدينة متنورة بقسط وافر في تقدمها وتحديثها. إلا أن الملاحظ هو أن شيوخ العدالة والتنمية مصرة على أن تعاند كل « انتصاراتها » الحزبية التي تملي عليها ضرورة الخروج من عباءة الملتحي المستكين في خطاب المثل الماضوية، إلى حركة للإبداع السياسي القائم على التناقض الممهور بالعرق والمكابدة، من أجل بدائل وحلول غير مطروقة، وكأنها نخبة كلما توسعت قاعدتها الناخبة ومكنتها المؤسسات من صلاحيات إلا وخشيت ركوب السياسة وانزوت في خطابات تلوك ما قدم وشاخ من مثل وقيم. فعندما كان شيوخ حزب العدالة والتنمية في المعارضة، يعتمدون على تملق الأخلاق العامة للمجتمع كي تستعطف ضمائر وعواطف المواطنات والمواطنين اللذين وضعتهم ظروفهم الصعبة في حياة الفقر والتهميش وضعف القدرة الشرائية والمستقبل المجهول. ومضوا يعارضون العولمة وانعكاساتها الايجابية والسلبية بالدعوة إلى إحياء ثقافة ماضوية تدغدغ أحلام من فقدوا البوصلة لمعيشتهم ومآلهم، ولم يجدوا في الأحزاب الشائعة أنذاك أي معين على التوتر والقلق والتفقير الذي تولده موجات التغيير الدولية، كما مضت هذه النخبة وهي تستقوي بحركات التدين الإيديولوجي التي انتشرت بعد حرب أفغانستان في مواجهة خصومها السياسيين بادعائها احتكار التقليد والهوية والولاء للمؤسسة الملكية ومجابهة كل معطيات التقدم الاجتماعي معتبرة إياه تغريبا أو بدعة أو حتى كفرا. لم يستطع هؤلاء الشيوخ في جميع معاركهم وهم في المعارضة أن يبلوروا فكرة اقتصادية أو شكلا جديدا لتنظيم الفعل السياسي أو الإشارة إلى أفق اجتماعي وثقافي تجديدي ينبئ بالتقدم، لهذا لم نجد نخبة هذا الحزب في المقاولة تجلي الوعي وتنشط الإنتاج لم نجدها في الساحات العمومية تحمي الحقوق وتصون الحريات، لم نجدها في الإبداع والثقافة تنمي الخيال وتحرر النفوس والطاقات، وإذا ما وجدت هنا أو هناك فلتؤشر على توتر وتراجع. فلنتساءل، من أين جاءت بأغلبيتها داخل المؤسسات المنتخبة؟ للجواب مصادر مختلفة بين الدولة والأحزاب والمجتمع: الدولة التي ترددت كثيرا في الإصلاحات، الأحزاب السياسية التي تكلست وانكمشت، المجتمع الذي توزعته إيديولوجية السوق التي فككته إلى فردانيات متصادمة أو متنافسة وإيديولوجيات الماضي التي حرمته من إبداع فعله المتميز في الوجود، هكذا أصبحت السياسة لا تستحق الاهتمام مما انعكس سلبا على نسبة المشاركة في الانتخابات وأدى إلى استقالة فئات عريضة من الطبقة المتوسطة ذات الدور التحديثي في المجتمع، وهو ما أعطى الأغلبية التمثيلية لهذا الحزب الذي نهج خطابا غير سياسي ليصبح قوة سياسية أولى في البلاد، وحتى عندما هبت رياح الربيع الديمقراطي على المغرب، فإن الإصلاحات التي جاءت بها لم تجد في طريقها إلا هذا الواقع المطبوع بالتراجع والجزر. ومع صعود نخبة حزب العدالة والتنمية للسلطة خاصة مع الصلاحيات المؤسسية التي خولها الدستور للحكومة، عقدت من جديد آمال المواطنات والمواطنين على دور هذه النخبة في تعميق سيرورة التحديث السياسي والتنمية الاقتصادية ومواجهة الفساد وعوائق التخلف، وقدم رئيس الحكومة برنامجه الحكومي أمام البرلمان، الجميع بدرجات متفاوتة على أن المغرب السياسي أمام بداية مرحلة جديدة ليس فقط على مستوى الدستور والمؤسسات والآليات، بل كذلك على مستوى القرار والمسؤوليات، لكن في كل مرة وقف فيها المغاربة أمام قضاياهم الاقتصادية والسياسية إلا ويجدون رئيس حكومتهم مشغول بخطابات التهريج والتسفيف، وفي أحسن حالاته في خطابات التبرير المرمز، وعندما يترجل على درب الشجاعة فإنه يكتفي بالإشارة إلى المشاكل بتسميات شعبوية أخلاقوية تنتهي في الغالب بخلق النعرات والتقسيم داخل المجتمع المغربي. يجدون رئيس الحكومة وحزبه الأغلبي يسعون إلى التشبه بما يعتقدونه « عقلية » و »ثقافة » ناخبيهم القائمان على الإشاعات والأحكام السطحية وقلب الوقائع بتحويلها من وقائع مادية إلى نعوت وأوصاف تسلب الوعي الشعبي قوته الواقعية، فعوض أن يستجيب شيوخ العدالة والتنمية لانتظارات ناخبيهم وعموم الشعب المغربي، ويبلورون خطابا سياسيا نيرا، وتقديم بدائل فعالة تقود نحو تحقيق التطلعات التنموية والديمقراطية، نجدهم يصرون على مجارات ما تعتقده « الثقافة الشعبية »، لتسقطوا عليها قصورهم، كنخبة في وعي مقتضيات اللحظة التاريخية، لتستحيل من نخبة تحمل آمال التحديث المجتمعي، إلى نخبة تجسد الوعي المتأخر لمجتمع يتصارع مع التخلف، لأنها جعلت السياسة نشاطا يكرس حالة الاستلاب أمام تناقضات العصر، ويعيد إنتاج الشروط المادية التي تحتضن الوهن الذي ينخر مقومات المجتمع المغربي. لهذا فكلما فتح السيد رئيس الحكومة فمه في خطاب ما، إلا وتعرضت الديمقراطية في المغرب إلى أضرار جسيمة، وكلما اجتمعت نخبة حزب العدالة والتنمية في حلقية ما، إلا وانتصر التجهيل وتفاقم الوعي المستلب، وتعرضت أخلاق المغاربة إلى استغلال مقيت لغرض التستر على مصالح فئوية في البقاء في السلطة دون اعتبار ديمقراطي. لقد طال انتظار أنصار الديمقراطية بالمغرب، ومعهم طموحات عموم المغاربة في العدل والتقدم، لرؤية حزب العدالة والتنمية ينخرط في إصلاحات سياسية واقعية، ويكف عن تبرير تقاعسه وجبنه السياسيين باختلاق أعداء وهميين ومعارك دونكشوطية. طال انتظار الجميع لسماع خطاب عقلاني سياسي من شيوخ هذا الحزب يجيب عن المعضلات الحقيقية للتنمية بالمغرب، عوض أن يهدر الزمن في مهاترات حزبوية يسعى من خلالها إلى إقصاء خصومه السياسيين بوسائل تسيء للسياسة في وعي فئات عريضة داخل المجتمع المغربي، وتبعدهم عن المواطنة النشطة التي تشكل عماد الديمقراطية التي يخافها شيوخ العدالة والتنمية بالمغرب قبل مريديهم. مرة كتبت البحثة الجغرافية Sylvie Brumel عن ما أسمته الثلاثية الرابحة التي رصدتها داخل جميع الدول التي عرفت إقلاعا اقتصاديا مهما، نقلها من الفقر إلى التنمية، مثل دول الشيلي، بوتسوانا، رومانيا، فيتنام، رواندا…، هذه الثلاثية هي: استقرار المؤسسات + ثقة الفاعلين+ التصنيع. ونحن نريد أن نسأل شيوخ حزب العدالة والتنمية اللذين يتربعون على رئاسة حكومة ما بعد دستور 2011، وهم في أوج هذيانهم الخطابي ضد أحزاب المعارضة الديمقراطية: ما الذي يمنع المغرب وهو الذي يتوفر، كما هو واضح على استقرار مؤسساتي، وعلى ثقة الفاعلين، من الوصول إلى فتح سيرورة التصنيع القادرة على الاستجابة لمطامح المغاربة في الوصول إلى تنمية دائمة تدخل المغرب إلى مصاف الدول الصاعدة والنامية؟ إن إحدى مستويات الجواب على هذا السؤال تفيد بأن الحزب الذي تقود نخبته الحكومة الحالية هو جزء من مشكلة التنمية بالمغرب وليس أبدا أداة تحديثية لحلها. في نهاية المطاف، فهو حزب يقوم على تناقض بنيوي معيق لكل دينامية تحديثية: فهو من جهة يستثمر بمكر في قواعد العمل الحزبي المعتمدة على آليات التنظيم الحديث، ويتطلع لسلطة داخل مؤسسات عقلانية. لكنه في حقيقة الأمر له أهداف غير ديمقراطية تسعى إلى اغتيال السياسة وإغلاق المجال العمومي في وجه التعدد والاختلاف وحرية الوعي والبدائل المجتمعية. لهذا فالكل يلاحظ أن إيديولوجيته غير قائمة على إرادة البناء الديمقراطي، غير مرتبطة بقيادة التنمية الاقتصادية والتحديث الثقافي، لا تسمي العوائق السوسيو-ثقافية، لا تتضمن أية إشارة للتأخر الاقتصادي وأسبابه في التعليم والتكوين والبحث العلمي، في الإنتاج والشغل وأنماط توزيع الثروات… إنها إيديولوجية تدير ظهرها للعصر، وتمجد ماض متخيل، وتتعنتر بالجمل الأخلاقية.