المغرب في حاجة الى التغيير، عبارة تسمعها في كل مكان، في الجامعة و المدرسة ، في الحي و الحزب و الجامع، في الباخرة و انت تغادر التراب الوطني . في البداية كنت تسمعها باحتشام و توجس، لكنها اليوم على كل لسان، الاصلاح كلمة اخرى تربينا معها منذ اوائل التسعينات لدرجة ان احد اصدقائي الظرفاء تجرأ يوما و قاطع استاذا لنا في الكلية وخاطبه قائلا: استاذي العزيز نحن لانتحمل اي مسؤولية في الفساد لنتحملها في الاصلاح، اصلحوا البلاد انتم، ثم نادوا علينا فنحن لن نبتعد كثيراسنذهب الى اسبانيا فقط. اذكر هذه الحكاية دائما و انا اسمع خطابات السيد بنكيران و اقارنها بالخطاب الذي كان سائدا في زمن حكومة التناوب الاولى برئاسة السيد عبد الرحمان اليوسفي، لم تتغير السياسات و لا الخطابات و لا حتى الوجوه. باختصار، لم يحدث اي تغيير يذكر، خرج الالاف من المواطنين الى الشارع، و حدث تسونامي في العالم من حولنا، ازمة اقتصادية في الشمال، ثورة سياسية في الجنوب. و مع ذلك جمود الوضع السياسي في المغرب هو السائد و اجترار نفس المشاكل الاقتصادية التي عانينا منها لعقود من الزمن بدون حل، البطالة ، الجفاف ، الخدمات العمومية السيئة ، السكن الغير اللائق ، الفساد السياسي و اقتصاد الريع. هل المخيال الجمعي للمغاربة عقيم الى هذه الدرجة؟؟ مشاكل عالقة منذ عقود لا تجد طريقها الى حل جزئي او كلي ، لماذا يتقاضى الوزراء اجورهم اذن؟؟ بل ماهي وظيفة الدولة اساسا ان لم تحل مشاكل الناس الاجتماعية على الاقل؟؟ المغاربة ككل شعوب العالم شعب متعدد الثقافات و الايديولوجيات و الافكار، لكنه في النهاية يشترك مع كل الشعوب في الرغبة في حياة كريمة. خرج المغاربة للاحتجاج من اجل اهداف محددة واضحة جدا، خطاب الشعب واضح و لكن للسلطة رأي اخر، نفس الكلام الذي كان يقال همسا، قيل في مظاهرات حاشدة ايام حركة عشرين فبراير و لا يزال يكتب في مقالات الجرائد و المجلات و مواقع التواصل الاجتماعي. وحتى لا نتيه في تنظير سياسي لا طائل منه في هذا المقام، يمكننا تحديد التغيير الذي يتحدث عنه عامة الشعب وهوالرغبة في بلد تتوفر فيه سبل العيش: عمل مناسب ، سكن لائق و مشاركة سياسية في تدبير الشأن العام. هكذا بكل بساطة. فهل ستحقق حكومة الدستور الجديد الحد الادنى المطلوب من هذا التغيير العتيد؟؟ الحكومة الحالية هي جزء من المشكل و ليست عنصرا من عناصر الحل ، ذلك لاعتبارات متعددة سنتناولها بالترتيب في هذا التحليل : الانتماء الاجتماعي و الفكري : من المتعارف عليه في حقل الدرسات الاجتماعية ان التيار المحافظ في اي مجتمع و الذي يميل بطبعه الى الجمود و عدم التغيير، يتكون في الغالب من التيار الديني الذي يولي اهمية كبرى للحفاظ على القيم الاجتماعية السائدة و لو على حساب الرفاهية الاقتصادية و التحديث السياسي، فهذا التيار يتاسس منذ البدية للدفاع عن الدين و ليس الانسان. الفئات المتنفذة اجتماعيا والتي تعيش على ثروات مادية مورثة من الاباء او من خلال امتيازات معينة منحت لها لاسباب سياسية او عائلية، من الطبيعي ان تعادي اي نزوع نحو تغيير الواقع السياسي و الاجتماعي، لان هذا يمس بمصالحها المتوارثة ابا عن جدا. اذا سلمنا بصحة هذا التحليل و اردنا تطبيق القاعدة عندنا في المغرب، فلن نجد افضل من حزبي الاستقلال و العدالة و التنمية ليمثلا التيار المحافظ بامتياز، فالاول حزب يميني يمثل بالاخص النخبة الفاسية التي سيطرت تقليديا على دواليب الادارة و الحكم في المغرب منذ العهد الوسيط، اما الثاني فحزب خرج من رحم حركة التوحيد و الاصلاح و هي حركة اسلامية مغرقة في التقلدانية مع جرعة سلفية قوية تغرق خطابها الاجتماعي من خلال اعتمادها على المرجعية المشرقية و فكر الامام ابن تيمية، و يتضح هذا جليا من خلال انتاجها لفقه تبريري لعدد من المشاكل الاجتماعية التي تتجاهلها الحركة لاعتبارات دينية. الحكومة المغربية تنتمي اجتماعيا و فكريا الى صنف الحكومات المحافظة جدا، و التي تتبنى بطبيعتها سياسات راسمالية متوحشة تضر بمصالح الطبقات الفقيرة و المتوسطة، و ربما بعد عام و نصف من عمر الحكومة ظهر هذا التوجه واضحا من خلال الزيادة في اسعار المواد الاولية و الاقتطاعات من الاجور و التنصل من التزامات الدولة في التشغيل و الخدمات الاجتماعية. الانتماء الطبقي : تنتمي اغلب النخب السياسية المغربية، سواء في البرلمان او في الحكومة، الى فئة الاعيان بمفهومها التقليدي الصرف، فالمغرب لم ينتج طبقة برجوازية حقيقية تدافع عن مصالحها وفق النموذج اللبرالي، و لم تتمكن الطبقة العاملة من ايصال صوتها عن طريق نخب يمثلونها نظرا لتفشي الامية ، غياب الوعي السياسي و سيادة بنيات اجتماعية متخلفة تحمل سمات النظام الاقطاعي او القبلي في عدد كبير من جهات البلاد. في مجتمع ضائع بين الحداثة و التقليد ظهر الخطاب الاسلامي لحزب العدالة و التنمية فاسحا المجال امام عناصر من الطبقة الوسطى لايجاد موطئ قدم في الساحة السياسية، لكن بدون رؤية اجتماعية او مشروع اقتصادي، فاذا كانت الحركة الام يسهل تصنيفها اجتماعيا و فكريا فان ذراعها السياسي ليس له هوية طبقية محددة، فهو من جهة يستغل اصوات الفقراء لتحقيق مكاسب انتخابية، لكنه سرعان ما ينسى ذلك و يبحث عن حلفاء في اوساط البرجوازية الغير موجودة اصلا من جهة اخرى، و لعل هذا هو سر الضربة الموجعة التي تلقاها بنكيران مؤخرا عندما رفض الاتحاد العام لمقاولات المغرب لقاء ضيفه التركي اردوغان. يخطئ بنكيران عندما يتصور ان النموذج التركي قابل للتطبيق في المغرب، وان التحالف بين الاغنياء و التيار الديني المحافظ امر ممكن و كفيل بتحقيق السلم الاجتماعي و تحريك عجلة الاقتصاد. المغرب خلافا لتركيا لا توجد فيه فئة برجوازية حققت نحاجا اقتصاديا و تراكما ماليا بناءا على مجهودها التجاري او الصناعي، اغنياء المغرب هم في الغالب اقطاعيون مرتبطون بالدولة او بفرنسا، و الجزء الاكبر من اموالهم يعود الى امتيازات و احتكارات ريعية تتناقض كليا مع مفهوم الاقتصاد اللبرالي. اغنياء المغرب ليسوا برجوازيي تركيا الذين كانوا يرغبون في دمقرطة الحياة السياسية من اجل فتح اسواق جديدة لمنتجاتهم الصناعية في اوربا و غيرها و تحرير التجارة التي كانت متضررة بشدة من سيطرة الجيش على السياسة. في المغرب، الاقتصاد الوطني هو عبارة عن مواد خام يتم تصديرها الى اوربا و قطاعات خدمية مسيطر عليها بطريقة احتكارية. في النهاية يبقى الحزب الذي يقود الائتلاف الحكومي مجرد كيان هلامي بدون هوية حقيقية، فهو ليس نخبة ادارية من تقنوقراط تابعين للدولة، و ليس حزبا للاعيان، و بالتأكيد لا يمثل الطبقة الوسطى المدينية المتعلمة و التي اغلبيتها لا تشارك في العملية السياسية، ورغم ما يوفره خطابه الديني من تعاطف الفئات المهمشة في ضواحي المدن، نكاد لا نعثر على اي تمثيلية للفقراء في اجهزة الحزب . هذا الضياع الطبقي يفسر الى حد كبير الارتباك الحاصل في العمل الحكومي حاليا و تضارب القرارات و تناقضها، فهو من جهة يتحدث عن محاربة الفساد ثم لا يتورع عن التحالف السياسي مع نفس الفاسدين الذين ينتقدهم، و من جهة اخرى يتحدث عن الاصلاح في الوقت الذي يتخذ جميع القرارات اللاشعبية التي تجعل حياة الناس أكثر صعوبة، فلمن يصلح اذن؟؟ اعتقد ان بنكيران نفسه لا يعرف الجواب لانه ببساطة يقود تنظيما ليس بحزب سياسي يدافع عن مصالح طبقة اجتماعية محددة كما هو معمول به في العالم باسره، بل ربما مجرد كيان دعوي في ثوب سياسي الانتماء السياسي: لعل تصنيف الاحزاب المغربية سياسيا الى يمين و يسار هو امر من سابع المستحيلات، فلا يمكن الاعتماد على الادبيات الايدولوجية للاحزاب، فهي مجرد تبذير للورق و الحبر، اما المواقف السياسية ان وجدت اصلا فهي تبعث على الحيرة و الارتباك اكثر مما تنجح في المساعدة على دراسة الفاعل السياسي و دوره في تطور البلاد. حزب العدالة و التنمية ليس استنثاءا رغم انتمائه الى تيار الاسلام السياسي الذي بقي الجزء الاكبر منه الى حد الان خارج اللعبة السياسية، الرسمية منها على الاقل. عدد من قياديي الحزب خرجوا يوم عشرين فبراير رافعين لافتات كتبت عليها عبارة لا ديموقراطية بدون ملكية برلمانية، و لكن في النهاية، قبل الحزب بدستور لا صلة له نهائيا بهذا المطلب. في الشق المتعلق بحرية المعتقد مارس الحزب ضغوطا كبيرة من اجل عدم اقراره في الدستور الجديد، و لكنه لم يلبث ان اقره في مؤتمره الاخير بعد تنصيب الحكومة بعدة اشهر، هل هذه الاشهر كانت كافية للاقتناع بهذا الحق؟؟ هل الحزب مقتنع حقا بفكرة التغيير السياسي و بناء الدولة المدنية ؟؟ ماهو موقف الفقهاء التقليدين الذين يدعمون الحزب مثل المغرواي من القيم الديموقراطية و التعددية الثقافية و حرية التعبير؟؟ لا تسعفك ادبيات الحزب و لا مواقفه السياسية في معرفة توجهه السياسي الحقيقي، فهو من جهة يحرص على تصريف تصريحات متفتحة جدا من خلال بعض مثقفيه كالعلامة احمد الريسوني و الاستاذ عبد العالي حامي الدين، لكن ما تلبث هذه الصورة ان تصطدم بمواقف مغرقة في الرجعية و الصدامية لسياسيي الحزب مثل بنكيران و الرباح. مرة اخرى نتوقف عند ضبابية المشهد الحزبي في المغرب، و محدودية افقه في الاصلاح السياسي، فالديموقراطية و التعددية التي اضحت مطلبا شعبيا في العالم باسره، يتخذ حزب السيد رئيس الحكومة موقفا متخاذلا في الدفاع عنها، فالي اي جبهة ينتمي هذا الحزب بالضبط و هو الذي جاءت به رياح الربيع العربي الى رئاسة الحكومة؟ و ماهي هويته السياسية؟ التغيير الحقيقي تقوم به نخبة مثقفة واعية و وطنية، لديها اختيارات سياسية و اجتماعية واضحة، و برنامج عمل دقيق و مفصل، اي باختصار مشروع مجتمعي قابل للتطبيق. للاسف الشديد لا نتوفر في المغرب على نخبة من هذا القبيل و بالتالي فاي حكومة حالية او مستقبلية تشكلها نخبنا الحالية لن تحقق اي شيء هذا ان كانت لديها الرغبة اساسا في التغيير، لانها مكبلة بانتماءات اقتصادية و اجتماعية تقليدية لا تستطيع الفكاك منها، و لانها كذلك لا تستطيع الحسم في خيارها السياسي بين التحديث و العصرنة او البقاء اسيرة خطاب سياسي لن يظل مقنعا في السنوات القليلة المقبلة، في هذا الاطار يصبح التحدي الحقيقي امام المجتمع المغربي هو افراز نخب جديدة اكثر نضجا و ثقافة و اوسع أفقا من النخب الحالية المهترئة.