على إثر المواجهات التي عرفها مخيم نهر البارد سنة 2007، بين الجيش اللبناني ومسلحين إسلاميين ينتمون لتنظيم فتح الإسلام، تم تدمير المخيم بنسبة 95 بالمائة. ومنذ ذلك الحين، ظل اللاجئون الفلسطينيون الذين كان يعيشون هناك يبحثون عن مناطق جديدة تأويهم، وحاول قسم كبير منهم العودة ليصطدموا بحجم الدمار الذي لحق بمخيمهم. الحقيقة أنه تم وضع مخططات لإعادة أعمار نهر البارد، لكن تظل هناك تحديات تعيق تنفيذ هذه المخططات وتزيد من معاناة آلاف من الأسر التي انتقلت معاناة الطرد من فلسطين إلى معاناة النفى داخل المنفى. تظل الأوضاع في منطقة نهر البارد كارثية، حتى أن الأمر تطلب منا ثمانية أيام من الانتظار قبل الحصول على تصريح بالدخول. دخولنا لم يكن عاديا إذ أحاطت بنا حراسة عسكرية على مدى جولتنا في هذا المخيم الذي لا يبعد إلا بستة عشر كيلومتر عن مدينة طرابلس بشمال لبنان. وكان هذا المخيم قد شهد ما بين 20 ماي إلى الثاني من شتنبر 2007 مواجهات قوية بين الجيش اللبناني وجماعة فتح الإسلام. والنتيجة تدمير المخيم ومحيطه بنسبة 95 بالمائة، ورغم ذلك، فإن حوالي ثلثي الساكنة، التي كانت قد رحلت عن المخيم خلال الحملة العسكرية، عادت الآن في محاولة لتدير دواليب الحياة من جديد. كان نهر البارد يمثل، من حيث حجم الساكنة، المخيم الفلسطيني الثاني في لبنان، وكان يتميز بهدوئه في أغلب الأوقات. تم تأسيسه سنة 1949 على مساحة لم تكن تتجاوز 0.2 كلم مربع، حيث كان في البدء عبارة عن مجموعة من الخيام، ليتم بعد الانتقال إلى مرحلة البناء بالإسمنت والآجور. على حدوده الشمالية الغربية يمتد ساحل بحري، تطلق عليه الساكنة اسم «بحر الفقراء»، لأنه يحمل معه كل نفايات المدينة الصناعية. لم يكتف المخيم بالمساحة التي كانت مخصصة له في أول الأمر، بل توسع وامتد ليلتهم محافظتين مجاورتين، كانت أكبر منه مساحة، لكن أقل كثافة سكانية، فأصبحتا بدورهما جزء منه وتحملان اسم «المخيم الجديد». تحدثت إلينا هدى، التي تشتغل مع جمعية نسائية تدعى «النجدة»، وقالت: «لقد كان المخيم قطبا جد نشيط، حيث كان المخيم الوحيد الذي يمكن أن تجد فيه محلات بيع المجوهرات. وكان اللبنانيون أنفسهم يأتون إلى المخيم من أجل التبضع وأحيانا لاشتراء سلع مهربة من سوريا.» لكن كل هذا كان جزء من الماضي، إذ يسود إحساس في أوساط الساكنة بأنهم تعرضوا للخيانة: «لقد غادروا المخيم بطلب من الجيش ومنظمات فلسطينية. لكن بالنسبة لهم، فإن القضاء على أربع مائة من الجهاديين لا يمكن أن يكون بأي شكل من الأشكال مبررا لإلحاق ذلك الحجم من الدمار بالمخيم.» عادت الموجة الأولى من اللاجئين إلى المخيم في شهر أكتوبر 2007، لتصاب بصدمة كبيرة. كانت مشاعر الأسى واضحة على محيا أبو غسان، الذي التقيناه بمخيم شاتيلا ببيروت، حيث تعيش حوالي مائتي أسرة، وهو يقول: «لقد تم محو المخيم باستخدام الجرافات. وتم نهب منازلنا، وتدنيس أماكن العبادة. ولم تعد بحوزتي ولو صورة واحدة مما كنت أملك. لقد فقدنا كل شيء، حتى ذاكرتنا.» ومع ذلك، فقد اختار عدد مهم من الساكنة (حوالي ثمانية آلاف شخص)، الانتقال إلى مخيم فلسطيني آخر يحمل اسم مخيم بدوي، الذي ينضاف إلى مخيم طرابلس والذي تضاعفت ساكنته سنة 2007. وتطلب الأمر أكثر من سنة قبل أن يتم إيجاد حل للمشاكل التي طرحتها مسألة استقبال لاجئي المخيم، بعد جهود من طرف وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) والمنظمات الفلسطينية الناشطة بالمخيم، وتم فتح مدرستين جديدتين، ورغم ذلك، فلا تزال بعض الأسر تعيش في بعض المرائب التي تم تحويلها إلى دور سكنية، لكن أكثر حالات الحرمان والفقر فيتم تسجيلها في «المخيم الجديد». يقول خالد: «لا يمكن دخول المخيم ولا مغادرته دون الإدلاء بتصريح تمتد صلاحيته ليوم واحد فقط، أو لأسبوع أو تصريح دائم. وقد يحدث أحيانا أن يتم إبقاؤنا رهن الاعتقال ليوم كامل من دون مبرر.» أصبحت المنطقة كلها قطاعا عسكريا ممنوعا على الأجانب، ويحق فقط للاجئين الفلسطينيين ومستخدمي الأونروا أو المنظمات غير الحكومية الولوج إليها. وبالكاد انطلقت أشغال البناء في المخيم القديم. يقول خالد: «كان يتعين انتظار أكثر من سنة ونصف من أجل إزالة الألغام من المنطقة، غير أنه بعد توقف الحرب الإسرائيلية على لبنان سنة 2006، عاد السكان على التو إلى منازلهم،رغم انتشار آلاف القنابل العشوائية في مختلف مناطق الجنوب.» وتعيش الأسر في هذا المخيم محاطة بالدمار والأنقاض، ويقومون بإعادة ما تبقى من الدور بأيديهم المجردة، كما يستعينون بالجدران التي لا تزال قائمة كمآوي مؤقتة. وأعدات بعض المحلات التجارية فتح أبوابها، غير أن عددا قليلا من الزبناء يتمكنون من عبور الحواجز الأمنية التي أقامها الجيش اللبناني. يقول علي حسن: «بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، أصبح ثمة ما يسمى بمرحلة ما قبل وما بعد نهر البارد.» كانوا دائما يعتقدون أن مستقبلهم يتحدد في حدود مخيم «عين الحلوة»، أو مخيم صيدا الكبير الذي طالما كان محل الأنظار، حيث كان للجهاديين حضور منذ عدة سنوات، مما يفسر وقوع عدة حوادث هناك. غير أن التنظيمات الفلسطينية تفرض وجودها وتحول دون فقدان السيطرة على الأوضاع الأمنية. يقول علي حسن: «معظم المتطرفين ينحدرون من المخيم نفسه، وتوجد أسرهم هناك، مما يجعلهم يستبعدون فكرة إشعال فتيل المواجهات هناك. أما في مخيم نهر البارد، فجل المتطرفين ليسوا فلسطينيين، بل ينحدرون من أصول لبنانية، سعودية، يمنية، عراقية، إلخ... لكن ما هي الأهداف التي جاؤوا من أجلها؟» أسئلة كبيرة تظل معلقة، رغم أنها تصل في منتهاها لتطرح أسئلة أبرز حول حقوق اللاجئين لفلسطينيين في لبنان. يقول الأستاذ ساري حنفي، من الجامعة الأمريكيةببيروت: «إن توطينهم النهائي مرفوض كما ينص على ذلك الدستور اللبناني، وكما أكدت عليه مقتضيات اتفاق الطائف. ليظل هذا الرفض غطاء للمعاملة العنصرية. بالنسبة لساري حنفي، فالتعديلات الأخيرة التي أدخلت على قانون التشغيل تمثل خطوة نحو الأمام، لأنها تسمح للفلسطينيين بممارسة عدد معين من الأنشطة، التي ظلت إلى عهد قريب ممنوعة عليهم، غير أن الأعمال الحرة تظل مع ذلك في غير متناولهم. ويظل العائق الأكبر أمام اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هو عدم تمكينهم من حق ملكية الأراضي والعقارات، مما يعيق أعمال إعادة بناء مخيم نهر البارد. ورغم ذلك، فإن الدولة أخذت على عاتقها مهمة إعادة البناء. يقول ساري حنفي، الذي يوجد أيضا ضمن لجنة إعادة إعمار مخيم نهر البارد: «لقد تم هدم العديد من المخيمات الفلسطينية بلبنان، لكن هذه هي المرة الأولى التي تتم فيها إعادة بناء أحدها. إنه مشروع بارز وغير معتاد، إذ يتم الاشتغال عليه بيتنسيق بين اللاجئين، المنظمات الفلسطينية، لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني، السلطات اللبنانية والأونروا.» ويمثل هذا المشروع بالنسبة للأونروا ورشا مهما في تاريخها بالمنطقة، حيث تراهن فيه على مصداقيتها. ويبذل سالفاتور لومباردو، مسؤول المنظمة الأممية عن المشروع، قصارى جهوده من أجل إنجاحه. يقول: «إن فشلنا في هذا المشروع سيخلف آثارا سلبية على الأوضاع الاجتماعية والاستقرار في شمال لبنان. أتمنى ألا يصاب اللبنانيون بالعمى السياسي في هذا الصدد.» كان عام ونصف فترة كافية لبلورة مخططات المشروع: «يتعين في البداية إعادة بناء كل منطقة على حدة، كل زقاق وموقعه والحصول على موافقة الأسر. وهنا يمكنكم تخيل الموارد التي ينبغي تجنيدها لهذا الغرض.» وتم إطلاع المهندسين على البنية الاجتماعية للمخيم، والتي تقوم، كما هو عليه الحال في معظم المخيمات الفلسطينية، على أساس علاقات الجوار التي كانت موجودة في المناطق التي ينحدر منها الساكنة في فلسطين قبل سنة 1948. ولهذه الغاية تم إحداث مجموعة تفكير من أجل التواصل مع الساكنة، التي ينحدر أغلبها من قرى الصفوري، الصفصاف والخليل. غير أن المخطط الإداري الذي وضعته الحكومة هو الذي عقد الأوضاع بالنظر إلى التحديدات التي وضعها، إذ حدد عدد الطبقات في الدور السكنية في أربع، مع إمكانية بناء شرفات فقط في الطابقين الثالث والرابع، للحيلولة دون وجود منفذ إليها من لشارع في حاول وجود اضطرابات، وعدم السماح ببناء أقبية في المنازل، وبناء طرق واسعة، لا تقل في عرضها عن أربعة أمتار ونصف، مما يسمح بمرور دبابة، ثم تقليص المساحة المخصصة لكل أسرة بنسبة 15 بالمائة. بالنسبة للمنظمات الفلسطينية فمسألة إعادة بناء المخيم حظيت بالإجماع: «لقد خسرنا معركة النهر البارد، يعترف السيد جمال شيهابي المسؤول السياسي لحماس في لبنان الشمالي. لم يكن بوسعنا أن نمنع هدمه والآن نحن مسؤولون عن إعادة بنائه» أما بالنسبة لمسؤول فتح في بدوي، السيد أبو جهاد فايد، فهو يعتبر أن «النهر البارد كان بمثابة حادث كان ضحاياه الفلسطينيون والجيش»، غير انه ذكر «ان الناس ينتظرون قبل كل شيء العودة الى فلسطين». إنه الملف الأول الذي شكل ارضية للتعاون ما بين فتح وحماس، وهي خطوة مهمة أكد عليها عبد الله عبد الله السفير الجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت: «إننا نشتغل من أجل إحداث وفد موحد. إننا لا نريد أن تتم مقاربة هذا الملف من زاوية أمنية فقط، كان علينا ايضا اخذ حقوقونا السياسية بعين الاعتبار والعمل على تحسين وضعيتنا على المستوى الانساني. إننا نود أن نضع حدا لتلك الصور النمطية التي ظلت ملتصقة بالمخيم. إننا في حاجة الى الامن بالمخيم ونفس الشيد بالنسبة للبنانيين. وعلينا ان نشتغل معا. إن التمييز في التعامل يمكنه أن يؤدي للانفجار. بالنسبة إلينا، المهم هو أن نحافظ على علاقتنا مع الشعب والثقة في قوتنا الذاتية». المسؤول عن الملف في منظمة التحرير الفلسطينية ومدير اللجنة العليا للنهر البارد، مروان عبد الله، على إطلاع جيد بالمخيم الذي قضى به ثلاثة اشهر من الحصار. بالنسبة له، لقد تم تجاوز مختلف العراقيل التي حالت دون اعادة البناء غير ان مشكل حرية الولوج اليه ظل حاضرا: «لا يمكن الاحتفاظ بنقط التفتيش الاعتباطية، الاسلاك الشائكة، مراقبة التحركات في داخل و خارج المخيم عبر فرض رخص على ساكنة المخيم» «ففي فبراير 2009، يضيف، حاول وزير الدفاع أن يقيم قاعدة جوية بجوار المخيم القديم، غير انه تراجع عن ذلك. إننا منزعجون من مشروع إحداث مركز شرطة بداخل المخيم». سيتم تخصيص خمسة ملايين دولار لاستتباب الامن بالمخيم، الذي تتكلف به الى حدود الآن المنظمات الفلسطينية، بحسب وثائق ڤيينا. أن هذا الاجراء يخيف الساكنة الذي ترى فيه تهديد لكل لبنان «سوف يكون الأمر، تتأسف أم طارق، كما لو أنه اختبار لتوسيع مراقبة الجيش لمخيمات اللاجئين». عن «لوموند ديبلوماتيك»