التاريخ يعيد نفسه، لم يتغير أي شيء منذ السنة الماضية، نفس السيناريو يتكرر هذه السنة، لانعتقد بأن ما حدث لم يكن متوقعا، لقد مرت المنطقة من كوارث مماثلة قبل سنوات كان آخرها فيضان السنة الماضية. تم ترحيل السكان إلى مخيمات في مناطق آمنة، انتظروا انحسار المياه ثم أعادوهم إلى ديارهم «بالقوة» بعد أن طمرت الأوحال أثاثهم وممتلكاتهم، والآن يتكرر نفس السيناريو.. فما أشبه اليوم بالأمس. جريدة الاتحاد الاشتراكي، زارت مخيمات المنكوبين الصفراء، استمعت إلى صوت مواطنين بسطاء، بالرغم من المعاناة ، لم تغادر الابتسامة محياهم. يتساءلون: إلى متى ستستمر نفس المعاناة؟ وهل حل الأزمة هو توفير خيمة وقليل من المواد الغذائية وأغطية كل سنة ؟ ومن يتحمل المسؤولية فيما وقع؟ ألم تكن الفيضانات متوقعة ؟ وماهي مسؤولية وزارة التجهيز فيما وقع؟ أسئلة تبقى عالقة لربما سيتم طرحها السنة القادمة عند تكرار نفس السيناريو. لم تستمر فرحة السكان والفلاحين طويلا بعد بزوغ «شمس الشتاء» ، بعد التساقطات المطرية التي عرفتها المنطقة، حتى فاجأتهم السيول القادمة من المرتفعات المتواجدة بحدود تازة وإفران والشاون ووزان والخميسات ومناطق شاسعة من أقاليم مكناس وفاس وسيدي قاسم إلى روافد نهر سبو، حيث التقت فيما أصبح يطلق عليه «الثقب الأسود» والمعروف باسم «المكرن»، والذي «تقترن» فيه كل الأنهار، صغيرها وكبيرها... السدود المشيدة على طول ممرات هذه الأنهار لم تستطع وقف المياه المنهمرة وعجزت عن احتوائها ، كما هو الحال بالنسبة لسد «القنصرة» على وادي بهت وسد «الوحدة» على وادي ورغة وسد «إدريس الأول» على نهر سبو. الملايين من الأمتار المكعبة من المياه القادمة من أنهار سبو وورغة وبهت حولت المنطقة السهلية المنبسطة إلى «بحر كبير» من المياه التي تتدافع في اتجاه البحر عبر معبر ضيق يقود إلى المحيط الأطلسي على جانب القنيطرة والمهدية. دواوير غمرتها المياه بشكل تام بكل من المكرن، أولاد بلخير، المطارقة، أولاد شكر، أولاد عامر، أولاد احسين، البغيلية، وتعاونيات السلم، الوفاق، النضال، اليوسفية سيدي عياش والعكارشة ودواوير من الجهة الأخرى في اتجاه مشرع بلقصيري. المياه فاجأت السكان من كل مكان، منهم من أخذ العبرة من فيضانات السنة الماضية فغادر في اتجاه المرتفعات ومنهم من لم يغادر إلى أن فاجأه «الطوفان» فظل حبيس المياه في انتظار عناصر الوقاية المدنية و أفراد القوات المسلحة الملكية الذين تدخلوا لإجلاء المحاصرين. أحمد من دوار أولاد عامر ، يحكي لنا معاناة الأسر وعلامات الحسرة بادية على محياه :«.. قطعنا أكثر من كيلمترين مشيا على الأقدام وسط المياه ونحن نحمل متاعنا، لم تعطنا السلطات الإذن بالمغادرة إلا بعد أن فاجأتنا المياه من كل جانب، نفقت بهائمنا، لقد كانوا من الأول يخططون لترحيلنا من دون ماشيتنا «الكسيبة مشات لينا! فين هوما هاد المسؤولين واش ماكانوش عارفين بأننا عايشين في مرجة؟» عبارات تحمل مرارة من فقد كل شيء وعاش التجربة لمرات متتالية من دون أن يكون هناك تدخل جذري لحل المشكل. حالة استنفار قصوى في صفوف السلطات العمومية من مختلف الدرجات، عمليات إخلاء للسكان وإعادة إيواء المتضررين والمقدر عددهم بأزيد من 2500 عائلة غمرت المياه المنهمرة منازلهم وأراضيهم الفلاحية. ولحسن الحظ، فبالرغم من الخسائر المادية التي وقعت، لم يتم الحديث عن خسائر في الأرواح. معظم المسؤولين يتحدثون عن تحرك استباقي جنب المنطقة الكارثة بالنظر إلى أنهم استفادوا من كارثة السنة الماضية. السلطات المحلية والجيش، وبعد أن تم إنقاذ المتضررين، تم نقل آلاف الأسر إلى «مخيمات» هُيئت من قبل، لكن السؤال الذي بادرنا أكثر من واحد بطرحه هو إلى متى سيظل نفس المشهد يتجدد كل سنة؟ شهود في عين المكان.. مياه الفيضانات غمرت قرى وأراضي شاسعة على جانبي الطريق الرئيسي الرابط بين القنيطرة وطنجة، بين جماعتي «أولاد اسلامة» و«المكرن» وتمتد من الحوافات على مشارف سيدي قاسم إلى سيدي علال التازي على مقربة من القنيطرة، حيث تتدفق المياه بقوة وسرعة، أتيحت لنا فرصة رؤيتها والمرور إلى الجانب الآخر، حيث كان المواطنون محاصرين من الجانبين في انتظار انحسار المياه أو إجلائهم بدورهم ليلتحقوا بآلاف الأسر في الخيام المنتشرة. هناك من حمل المسؤولية صراحة إلى المسؤولين بوكالة حوض سبو ، كما هو حال شيخ التقيناه في أحد المخيمات : « لقد فتحوا السد وأغرقونا، هذه مياه السد، فالأمطار توقفت منذ مدة عن التساقط، إنهم يخفون حقيقة ماجرى، لن نغادر المكان، سنبقى هنا ولن نعود إلا بعد أن يجدوا حلا لنا، لانريد أن نبقى مجرد رحل بين المخيمات شتاء، ودوارنا صيفا..». كنا شهود عيان على حجم الكارثة، كما أننا كنا شهود عيان على المجهودات الضخمة التي قام بها أفراد القوات المسلحة الملكية والسلطات المحلية والدرك الملكي وعناصرالوقاية المدنية ووزارة الصحة والهلال الأحمر الوطني وأكاديمية التعليم بالجهة والنيابات التعليمية.. التي تدخلت بدورها لضمان استمرار الدراسة وسط «المخيمات الصفراء» للمنكوبين . خلال زيارتنا لأكبر مخيم بضيعة المنزه بالقرب من مدينة القنيطرة، التقينا مدير أكاديمية التعليم بجهة الغرب الشراردة رفقة طاقم تربوي من الأكاديمية ونيابة القنيطرة حيث تحركت جميع مصالحهم لضمان استمرار الدارسة. كنا شهودا على معاناة ابتدأت لكي لاتنتهي بالنسبة للبعض، فهناك من يتحدث عن تجاوزات في عمليات الإيواء، وهناك من تحدث عن تقصير في التدخل للإجلاء، كما أن مجموعة من السكان رفضوا الترحيل، معتبرين أنه ليس حلا جذريا للمشكل. في الطريق إلى المقرن كنا نخترق «بحارا» حيث المياه تغمر كل شيء، التقينا بمجموعة من السكان بوسط جماعة المكرن. أحد الفلاحين صرح لنا قائلا:« الأمطار الغزيرة تسببت لنا في خسائر هامة، آلاف الهكتارات غمرتها المياه وأتلف محصول هذا الموسم، لكن الأسوأ هو أن الوقت لم يمهلنا لتعويض الخسائر التي تسببت فيها فيضانات السنة الماضية لنفاجأ بفيضان هذه السنة»! لقد أدت الفيضانات إلى إتلاف آلاف الهكتارات وجرف المحاصيل الزراعية، ونفوق أعداد كبيرة من رؤوس الماشية، وتضيف سيدة وهي تغالب دموعها :« كلشي مشا، مابقا عندنا والو، كلشي داه الما والأرض اللي عايشين منها ومعولين عليها راها غرقات». ترى هل تكفي الإعانات البسيطة لجبر الضرر؟ هل تكفي أكياس الشعير والدقيق والزيت والسكر تعويض المتضررين من هذه الفيضانات السنوية ؟ في الجهة الأخرى.. وفي الجهة الأخري ما بين سيدي يحيى و مشرع بلقصيري زادت معاناة السكان مع الفيضانات، حيث اضطروا إلى إخلاء منازلهم كرها في اتجاه مراكز إيواء المنكوبين. فعلى الرغم من قرب المسافة الرابطة بين سيدي قاسم و جماعة الحوافات (30كلم) لم تكن الطريق سهلة بالشكل الذي تصورناه، لكون المياه غمرت مقاطع مهمة من الطريق الرئيسية بين سيدي قاسم و طنجة، حيث تحولت معها الاراضي و الطرق الى فضاء ابيض واحد، و لم تكن سهلة ايضا بسبب حالتها المتدهورة. و نحن نقترب من قرية الرتبية التابعة لجماعة الحوافات، لاحظنا أن السلطات قامت بمجهودات مهمة حيث نقلت بسرعة كبيرة مواطني الدواوير المنكوبة وو ضعتهم في مؤسسات تعليمية لكن بمساعدات اقل و ما كنا في الحقيقة نقترب الا من الدمار و الخراب اللذين خلفهما الفيضان. الاوضاع الانسانية بقرية الرتبية، و بالتحديد بإعدادية ابن الهيثم حيث الدراسة متوقفة و حيث يتواجد دوار اولاد عمران، كانت المأساة اكبر من أن توصف، نساء و أطفال رضع تأويهم قاعات أسمنتية باردة بأمتعة أو ما تبقى من الأمتعة التي حملوها معهم هربا من الغرق و الموت. و في رمشة عين و نحن نتجول بين الأقسام و المرافق تجمع حولنا العشرات من الأهالي رجالا و نساء و أطفالا في أوضاع مزرية يستنكرون هزالة المساعدات و يطالبون السلطات بإيجاد حل لأوضاعهم . شباب المنطقة طلبوا منا الذهاب إلى دوار أولاد عمران لمعاينة الأوضاع عن كثب، وافقنا، و في الطريق إليه كنا نتخيل صعوبة العودة من حيث جئنا بسبب ما رأيناه : مسالك مقطوعة ، منازل مهدمة، مياه في كل مكان حتى يبدو لك أحيانا وكأنك تخترق بحرا حيث لاأثر لليابسة على مرأى العين، أما أوضاع الدواوير التالية : أولاد خصيب، أولاد عمران، أولاد جابر القرية المرضية، فكانت كارثية. مواطنون تجمعوا في كل مكان ينتظرون الذي يأتي أو لايأتي و ما زاد من اندهاشنا هو رفض سكان العديد من الدواوير المنكوبة قبول المساعدات المقدمة إليهم ، حيث اكتفت السلطات بتقديم علب السردين و خبز وأغطية. ويعقب السكان على ذلك بالقول بأن المساعدات الإنسانية الحقيقية هي التي يتلقاها سكان القرى المجاورة غير المتضررة! في الحاجة إلى حماية .. فيضانات الغرب تعيد للواجهة إذن ليس طريقة تعامل السلطات المحلية مع الكارثة، فالملاحظ أنها استفادت من الأخطاء الماضية الأمر الذي جعلها إلى حد ما تتوفق في سرعة التدخل ، لكنها تعيد بالأساس فتح ملف حماية هذه المنطقة من الفيضانات سواء من خلال تشييد سدود جديدة أو البحث عن صيغة جديدة لاستغلال ملايير الأمتار المكعبة من المياه التي تجد طريقها إلى أراضي الفلاحين وحقولهم . الأمر يستدعي إطلاق مخطط استعجالي لإصلاح و تعزيز شبكات صرف المياه، خصوصا بالنقط السوداء الموجودة بجماعة «المكرن»، و«مشرع بلقصيري»، و«مولاي بوسلهام». الأمر يستدعي أيضا إيجاد مكان آمن لآلاف الأسر التي تقع منازلها في أماكن يتهددها الفيضانات. والي الجهة أعلن في اجتماع له مع المصالح المختصة عن برمجة بناء سدين خلال السنة الجارية، سد «مديز» على واد سبو، وسد «ولجة السلطان» على واد بهت، لتفادي الفيضانات التي أضحت الجهة عرضة لها عند حلول كل فصل شتاء، إلا أن البعض شكك في إمكانية اتمام المشروعين نهاية السنة الجارية بالنظر إلى مجموعة من الاعتبارات الموضوعية واعتبروا كلام السيد الوالي حلما قد لايتحقق على الأقل على المستوى القريب يقول أحدهم « ليست هذه المرة الأولى التي نعيش مثل هذه الأوضاع، لماذا لم يتم التفكير في الأمر بجدية قبل الآن؟ نحمل الحكومة والسلطات المحلية المسؤولية فيما وقع ، ألم يكونوا على علم بأن هذه السدود لن تقدر على استيعاب ملايير الأمتار المكعبة من المياه؟ فلماذا لم يقوموا بتشييد سدود جديدة لدعم لاحتواء الماء؟ تذكروا جيدا كلام السيد الوالي وموعدنا السنة القادمة لنرى إن كان كلامه التزاما حقيقيا أم مجرد وعود تجرفها مياه الأمطار...» أحلام وآمال تتبخر من جديد.. هكذا إذن تبخرت آمال الفلاحين الذين استبشروا خيرا بعد التساقطات المطرية الأخيرة واعتقدوا أن السنة الفلاحية ستكون أحسن من سابقاتها قبل أن يفاجؤوا بمياه السدود تغمر أراضيهم وتتلف آلاف الهكتارات وتجرف المحاصيل الزراعية، وتتسبب في نفوق أعداد كبيرة من رؤوس الماشية بل وأيضا تتسلل إلى منازلهم وأكواخهم، وتتلف ما بداخلها إلا ما تم إنقاذه. هنا، بمخيم اللاجئين بمنطقة المنزه، الكائن بمحاذاة الطريق المؤدي إلى مدينة سيدي يحيى الغرب كل شيء يسير بانتظام فقد استنفرت مصالح الوقاية المدنية والهلال الأحمر، ومعها القوات العمومية، كافة عناصرها لضمان استقبال اللاجئين في ظروف حسنة، وبادرت إلى توفير الخيام ، وصهاريج المياه، ووضع المرافق الصحية «المراحيض» بمحاذاة المخيم ومد المخيم بالإنارة ، تفاديا لحدوث أي إخلال في عملية الإيواء. تم تقسيم المخيم إلى شطرين، علوي وآخر سفلي والمثير للإنتباه أن المخيم أصبح عبارة عن مركب متكامل المرافق، ففي الوقت الذي نصبت فيه خيام خاصة بالمصالح الطبية والهلال الأحمر المغربي تم إحداث وحدة مدرسية وتوفير اللوازم الدراسية وتعيين 21 أستاذا بالمخيم وتعيين وحدة تربوية مكونة من 5 مديرين و2 مفتشين إضافة إلى توفير النقل المدرسي للمدرسين من النيابة. الحياة هنا أخدت مجراها الطبيعي اللهم بعض الاحتجاجات من هذه العائلة أو تلك بخصوص عدد الخيام الممنوحة لكل أسرة حيث يطالب البعض بخيام عائلية مستقلة عوض تجميع عائلتين في خيمة واحدة. الحياة تسير بشكل طبيعي، واندمجت النساء في محيطهن الجديد، تقول إحداهن:« سنرفض مغادرة المكان، هنا أحسن بكثير من دوارنا الأصلي، لماذا لايتركوننا نستقر هنا بشكل رسمي؟» من خلال شبكة مخيمات المنكوبين وطريقة توزيعها ومناطق نصب الخيام هنا واستقبال المتضررين، يتضح أنه بالإضافة إلى احتواء الوضع بنسبة كبيرة، فإن الهاجس الأمني كان حاضرا من خلال اختيار أماكن الإيواء بعيدا عن المحاور الطرقية لتفادي المواجهات التي وقعت السنة الماضية عندما رفض السكان المرحلون ، والذين تم إيواؤهم في المنطقة الكيلمترية 9، العودة إلى ديارهم ، حيث اعتصموا بمحاذاة الطريق السيار!