في بداية الأمر وانسجاما مع العنوان, سننطلق من الوظيفة الاجتماعية للمثقف على اعتبار أن انتظارات الناس منه هي كثيرة وثقيلة ، صحيح أن المثقف الحقيقي هو الذي يحمل هموم المجتمع لذلك سمي المثقف العضوي حسب غرا مشي، لذلك وجب الحسم والقول أن المثقف الحقيقي هو هذا الذي يحمل هموم عصره ويرتبط بقضايا مجتمعه تشبث الرضيع بثدي أمه، خاصة وأن غرا مشي قد سبق إلى القول أن أي مثقف لا يتحسس آلام شعبه لا يستحق لقب المثقف حتى وإن كان يحمل أرقى الشهادات الجامعية. هكذا إذن يمكن الجزم بأهمية المثقفين ودورهم في التغيير لأن انتظارات الأفراد من المثقف كبيرة على قدر الاحترام الذي يحظى به حتى من لدن عامة الناس في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل وأصبح فيه السياسي مصدر اشمئزاز، فالحاجة الاجتماعية للمثقف هي ملحة اليوم وأكثر من أي زمن مضى لذلك فرضت الضرورة النزول من البرج العاجي وممارسة دوره كاملا فمن المفروض أن يكون هو المتدخل الأول في أية قضية تهم وطنه، وما هذه الفوضى العارمة التي نعيشها اليوم إلا محصلة منطقية لغيابه على دوره كفاعل في خضم المشاكل التي يعج بها الشارع اليوم فاتحا بذلك الباب لمحبي الخطابة الفارغة من أي محتوى وغير المؤسسة لا على مبدأ ولا على أسس نظرية في غياب تام لأي منطق سليم ولأي تحليل علمي، وأقوى مبرر لما سبق هو الحس النقدي الذي يتمتع به المثقف العضوي على خلاف غيره من أشباه المثقفين, خاصة و أن هذا النشاط النقدي يمكن أن يتحول بسهولة إلى إبداع خارق لحل المعضلات التي يتخبط فيها المجتمع بعيدا عن لغة اللغو والمعنى بناء على كون المثقف الحقيقي هو شخص حر من الواجب عليه أن يبذل الجهد الكافي بغية المساهمة في تبديل العلاقات المحيطة به, منتصرا بذلك لقيم المواطنة والديمقراطية والمبادئ الكونية ضدا على منطق السيطرة والمنفعة ،فليس المثقف عضوا في شريحة اجتماعية معينة, بل ننتظر منه أن يكون معبرا عن تطلعاتها وتحدياتها فهو المتمكن من تبليغ الرسالة الفكرية البديلة للمجتمع ضد أشكال البؤس الفكري الأخرى أو ضد الرسالة الفكرية والاديولوجية للمجتمع السياسي, فكيف في مجتمع تحول فيه المثقف إلى عارض لبضاعة نظرية من الأعلى نحو الأسفل مع فقدان الخيط الرابط بينهما, مع الأسف ومختليا بفكره في برجه المغرق في المثالية أن يساهم في تحقيق آمال مواطنيه، فالحقيقة المرة التي يصعب تقبلها تتمثل في أنه لا توجد طبقة دون مثقفيها الذين لا يدخرون جهدا في الدفاع عن مصالحها فكل طبقة تمتلك نخبتها المثقفة الخاصة بها والحديث عن استقلالية المثقف في الزمن المعاصر هو كلام دون قيمة, بل يعبر في العمق عن ضعف لهذه النخبة القليلة العدد مع الأسف لذلك يجب إعادة النظر من جديد في علاقة المثقف بمحيطه وجعلها علاقة اندماج عضوي, نظرا لأن تاريخ المجتمعات اليوم وتاريخ مجتمعنا جزء لا يتجزأ منها يعرف تطورات متسارعة وأزمات متتالية في مقدمتها الأزمة السياسية, حيث انحطاط الخطاب السياسي وتدني مستواه فهذه الأزمات لا سبيل للخروج منها إلا عبر ممارسة المثقف لدوره الطبيعي من خلال نقد الأفكار وطرح الأسئلة الجوهرية من أجل تقويم التجارب أملا في بناء التجربة الناجحة وبالتالي قيادة الرأي العام نحو الوجهة الصحيحة عبر التأثير عليه وفقا لما يمتلكه من آليات لتبرير مواقفه المبنية على منطق العقل لا غير، فهو أولا وقبل كل شيء ضمير إنساني بما تحمله الإنسانية من دلالة كونية فمن يجادل اليوم في أن أزمتنا هي أزمة العدالة والحرية وحقوق الإنسان وهي نفسها الموضوعات التي يسيل فيها مداد المثقف فإذا تم توزيع المسؤوليات فإن القسط الكبير منها سيتحمله المثقف دون أدنى شك وهذا ما أكده بدوره الأستاذ والفيلسوف عبد الله العروي, حيث قال أن مسؤولية الاستبداد السياسي و الاجتماعي لا تقع على المثقف لخضوعه للاكراهات السياسية والضغوط الداخلية كما لا تقع على المواطن البسيط الخاضع للاكراهات الاجتماعية ومتطلبات المعيش اليومي ولكن المسؤولية تقع على عاتق المثقف بوصفه متحررا من جميع الإكراهات, إضافة إلى أن الناس اليوم لهم استعداد لتصديق المثقف لأنه دائما وان لم يمتلك الحقيقة كاملة, فهو يمتلك جزءا منها عكس السياسي الذي فقد شرعيته لتراكم تجارب الفشل وبالتالي انهارت الثقة في السياسي ،لذلك فأمل الناس اليوم هو في المثقف العضوي المالك للقدرة المعرفية الاستشرافية المدافع باستماتة عن القيم, مؤسسا بذلك لأرضية صلبة قوامها إحقاق الحق فهو ضمير الأمة والمعبر عن طموحاتها وقيمها الاجتماعية . هكذا يمكن أن ننتهي إلى أن الرهان كبير على المثقف من أجل الدفع بالأمور إلى نهايتها الفكرية والمعرفية وأن يحفز الصراع من العالم المعنوي أي عالم الأفكار إلى العالم المادي والمطلوب هو أن يمارس المثقف رؤيته حتى وإن كانت تتعارض مع الفهم السائد أو مع النظام العام, بل حتى وإن كانت تتعارض مع مصالحه الشخصية فهو مثقف للوطن و ليس لنفسه، بمعنى أخر لا ينبغي أن يكون المثقف فكرا فقط ففي هذه الحالة فلن يساهم إلا في تعطيل الحركة واستمرار الوضع على ما هو عليه في حين يجب المساهمة في تحقيق النقلة النوعية نحو غد أفضل فالتاريخ لا يكره هكذا مثقفين ويسجل عليهم بدل أن يسجل لهم فدورهم الريادي ينتظرهم حيث لا مجال للخطأ مع التاريخ حتى لا ينطبق قول حيدر حيدر "الحياد في زمن الصراع تواطؤ".