«يغني «مولاي حمد» كما لا يغنيها أي معلم كناوي آخر. لقد كف عن أدائها لسنوات طويلة منذ شرع أحد (المعلمين) العارضين في تسويقها بشكل استعراضي خال من أي عمق روحي. في عينيه لوعة ونظرات حزن عميقة كأنه يودع جمهوره» علق أحد عشاق محمود كينيا بحزن وهو يدعو له بالشفاء. بخطى متثاقلة وجسد ضامر صعد محمود كينيا منصة ساحة مولاي الحسن بمناسبة حفل اختتام مهرجان كناوة موسيقى العالم. تآكل جسده المرض، وقفز به عشر سنوات إلى الأمام. حالة من الصدمة الممزوجة بالألم تملكت آلاف عشاقه الذين لم يستطيعوا التعرف عليه أول الأمر. «لقد تغيرت حالته الفيزيولوجية كثيرا. لم أستطع تبين ملامحه من الوهلة الأولى. كنت أعرف بأنه مريض لكن ليس إلى هذه الدرجة. نظراته هائمة تلاحق عشق جمهوره وأفقا أرحب. أحسني أراه لآخر مرة » صرحت للجريدة سيدة من الصويرة قبل أن تنخرط في بكاء حار وصامت. كينيا شجرة كناوية ضاربة في تاريخ هذا التراث الإنساني المتفرد. مدرسة سخية لا تنفك تنتج معلمين من طينة خاصة. «عائلة محمود كينيا ذات أصول افريقية واضحة. فجده من أبيه ينحدر من السودان أما جده من أمه فينحدر من غانا. محمود كبير إخوة لازال منهم على قيد الحياة زايدة والمختار، فيما توفى الله برحمته كلا من اجميعة، المعلم زيتون ثم المعلم عبد الله. خصوصية أسلوب غينيا في جمعه بين الإفريقي والوطني والمحلي الصويري. فأسلوب عائلة كينيا هو السوداني باعتباره خصوصية وإرثا عائليا قادما من الجد عن الأم المعلم دا سامبا وعن الأب المعلم بوبكر غينيا . هذا الأسلوب تعكسه سبعة مقاطع سودانية منها «يرتى دزنا يرتى»، «هيد بيني كولومبارا»،«هيهي ياجان طايي»، و«تيمارماريا». كما أن محمود يتقن الغرباوي مثل باقي المعلمين المغاربة، وبصم على أدائه بالأسلوب الصويري مجسدا في الليلية الصويرية. فمدرسة غينيا تعكس بوضوح أصول وماهية ومسار نشأة واندماج وانتشار الظاهرة الكناوية في المغرب. فالتاكناويت في الأصل مقاومة ثقافية خاضها عبيد إفريقيا من اجل اندماج اجتماعي في المجتمع المغربي يضمن الحفاظ على تمظهرات هويتهم الإفريقية. وبالتالي فهي تعبير عن المعاناة التي عاشها عبيد إفريقيا المقطعة أوصالهم العائلية والثقافية. هذه المقاومة الثقافية انتهت إلى اندماج جميل يجد صورته في الليلة الكناوية التي تحتضن الثقافة الشعبية المغربية من خلال مجموعة طقوس تدمج ثقافة الشفاء والتداوي بالأولياء والأضرحة »صرح للجريدة عبد الكريم لعسيري باحث في التراث الكنغوي بالصويرة. قبل محمود اعتلى المختار كينيا منصة مولاي الحسن ليلة افتتاح الدورة 18 ، وبعده عمر حياة الذي يجمع بين أصالة العزف والغناء الكناوي وبين فنون المنصة. عمر حياة منتوج مدرسة محمود كينيا، لكنه يتوسط المساحة بينه وبين حميد القصري. تلحف برداء الذئب كما هي عادته في ارتداء عباءات متميزة، وأمسك بناصية «حال» عشرات الآلاف من عشاقه ليهديهم عرضا رائعا مسح على جبين عشاق التاكناويت الساخطين على مشهدية وابتذال عرض أحد (المعلمين) ممن أنتجتهم استوديوهات التسجيل بعد أن لفظتهم «الرحبة». عظمة محمود كينيا في روعة وأصالة أداء عمر الحياة والمختار كينيا. كلاهما وخلفهما صف طويل من الشباب ثمار شجرة كينيا التي لازالت ترخي بظلالها الوارفة على الموروث الكناوي الأصيل. لازالت ضربة هجهوجه بنفس القوة والتفرد والعمق، تتردد عميقا في داخلك كصوت يناجي فيك أشياءك المتوارية. صوته الجوفي القوي يعيدك إلى زاوية سيدنا بلال، ،الليلة الرحبة والجدبة. دقيق في تنظيم مجموعته وتوزيعها، منتش بتناغم حركاتها، تصفيقاتها وتنقلات أفرادها على المنصة. يتبسم كطفل مستسلم لفرح غامر في وجه جمهوره الذي ظل يشجعه، يهتف باسمه، ويدعو له بالشفاء. وفي غمرة عرضه الرائع، خلع محمود كينيا هجهوجه الذي لازمه عمرا، ليسلمه إلى ابنه حسام . طبع على جبينه قبلة «الرضى»، وانهمرت دموعه حارة سخية تسقي أخاديد وجهه الضامر. في قمة عظمته الفنية ترجل محمود ليأتمن ابنه حسام على عشق جمهوره، على أسرار التراث الكناوي التي لازالت منيعة على أشباه المعلمين الذين يسوقون «الشطحانية والتاشياخت»، على عبء ضمان استمرار شجرة كينيا خضراء معطاءة وارفة الظلال. بغض النظر عن دوافع برمجة كينيا في اختتام الدورة 18 لمهرجان كناوة،يمكن القول بأن الاختيار كان ذكيا أنتج مساحة فنية رائعة ولحظات دراماتيكية للتاريخ. بقدر ما كان الجمهور يستمتع، بقدر ما كان يغالب إحساسا عميقا باللوعة وهو يستشرف خسارة فنية كبيرة في الأفق. هكذا هم المعلمين الكناويين الحقيقيين، يعيشون ويموتون «على باب الله» متواضعين، بسطاء، أوفياء. في لقاء للجريدة مع نايلة التازي مديرة ومنتجة مهرجان كناوة، سألناها إن كان هنالك تفكير في صيغة دائمة تتيح الارتقاء بالأوضاع الاجتماعية للمعلمين الكناويين الذين يرحلون تباعا في ظروف صعبة إن لم نقل بئيسة. فأجابت بأن المهرجان بقدر ما أحيا الفن الكناوي بقدر ما عرى الظروف المزرية التي ظل يعيشها المعلمين الكناويين. مؤكدة بأن جمعية يارما التي تم تأسيسها بمعية معلمين كناويين عملت على تحسين الوضع الاجتماعي للمعلم الكناوي باعتباره موسيقيا. فعملت الجمعية في هذا الإطار بتنسيق مع وزارة الثقافة على ضمان بطاقة الفنان التي تتيح الحصول على الفيزا للسفر لمجموعة من المعلمين إضافة إلى التغطية الصحية الممنوحة للفنانين من أجل العلاج. إلا أن الأمر تضيف نايلة التازي يرتبط أيضا بقيام المعلم بالإجراءات الإدارية الضرورية على مستوى مدينته. فالجمعية تطرح المشاكل، تفتح آفاقا وإمكانيات للحلول، إلا أنه يستحيل عليها الحلول مكان المؤسسات والأشخاص. وبالتالي ترى مديرة ومنتجة مهرجان كناوة وموسيقى العالم بأن على جميع الأطراف المعنية بذل مجهودات أكثر من أجل تحسين ظروف المعلمين الكناويين الذين تقع على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على هذا التراث الثقافي. تعاقب على منصات الدورة 18 المعلم حسن بوسو، المعلم باقبو، المعلم مرشان، كيني غاريت، طوني ألان، هندي زهرة، وآخرون. تميز البرنامج بعروض رائعة كما هو الحال مع محمود كينيا، المعلم مرشان، المعلم باقبو، المعلم عمر حياة، المعلم حسن بوسو، المختار كينيا، كيني غاريت. كما انخرط المعلمين بمعية ضيوف المهرجان في تمازجات رائعة، كان أسوأها على الإطلاق عرض حميد القصري وهومايون خان خلال الافتتاح وليلة السبت 16 ماي 2015 . طرحنا على نايلة التازي سؤالا حول المقاربة التي يعتمدها منظمو المهرجان من أجل عدم السقوط في فخ التكرار، فأجابت بأن المهرجان لا يختزل في أربعة أيام فقط باعتباره مشروعا ثقافيا مؤطرا بفكرة عميقة، بتاريخ ومستقبل. فالمهرجان حسب نايلة التازي بدأ بدمقرطة الموسيقى في الفضاءات العامة إلا أنه كان ضحية نجاحه بشكل ما . بعد هذه الفترة المطبوعة بمقاربة سوسيولوجية والتي بصمت حياة وعادات جمهور المهرجان المغاربة، شرع في العمل من أجل إعادة المهرجان إلى حجمه وهدفه الأصليين. فتيمة الحدث حسب مديرته تتيح انفتاحا لا محدودا على مستوى البرمجة والتمازجات الموسيقية.