يحلم أحيانا بأنه يسكن منزلا مليئا بالأسماء جدرانه عالية ومكسوة بالعديد من الرفوف الكبيرة جدّا، رفوف في كل مكان في المطبخ وغرفة النوم وغرفة الضيوف، وصالون السيجور والحمام والممر الضيق الذي يتوسط المنزل. يرى امرأته في الحلم متبرمة دائما ومتجهمة الوجه، لا تكف عن إبداء حنقها وغضبها من الرفوف المتناسلة ومن الملفات والسجلات الضخمة التي تربض فوقها والتي تكسوها طبقة سميكة من الغبار، ومن المحبرات الزجاجية المليئة بمداد أسود والأقلام ذات الريشة المعدنية. تقول لزوجها دوما بأنها ملت حياتها وسط هذه الدفاتر الشبيهة بسجلات العزاء وأنها من فرط رؤيتها يوميا، أصيبت بالاكتئاب وليس بعيدا أن يتوقف قلبها فجأة عن الخفقان فيعثر عليها مستلقية على بلاط المطبخ جثة هامدة بعد عودته من العمل. أحيانا توغل في نوع من السخرية السوداء فتسأله: "النساء تتزوجن بالرجال وأنا تزوجت بسجل للولادات.." ثم تنخرط في ضحكة هستيرية يقف الزوج حائرا في تأويلها هل هي ضحكة شامتة أو إرهاصات جنون قادم. أحيانا يحلم داخل هذا الحلم بالذات، بأنه يعيش حياة سعيدة جدّا ويستسلم كل ليلة للنوم، وهو يحلم داخل حلم آخر بأنه هاجر إلى كندا مع زوجته الغاضبة دائما من السجلات والمحبرات والمداد الأسود. حلم آخر يراوده في الليالي التي يلفي فيها نفسه خالي الذهن مرتاح البال، حيث يحلم بأن له اسم فرنسي هو Personne أي "لا أحد". حين يخبر زوجته بحلمه الأخير هذا تهزأ منه تحرك عينيها بطريقة ساخرة وتمصمص شفتيها بشماتة ولا ترد عليه. مرة اختلط عليه الحلم بكابوس رهيب جعله يهتز ويئن وهو نائم بجوار زوجته، بادرت هذه الأخيرة لتحريك ذراعه حتى يستيقظ من كابوسه وحين فتح عينيه مرعوبا ورآها جالسة فوق السرير بشعرها المنفوش، انخرط في الصراخ ظنا منه بأنها إحدى كائنات حلمه المخيف، ليلتها هدأت من روعه ثم ألقت عليه أغلظ الإيمان بأنها ستتركه وتأخذ ابنها معها وتطلب منه الطلاق، إذا استمر في جنونه ذاك. استبد به القلق وجافى النوم عينيه أصيب بالأرق، وحين كان يغفو يستسلم لأحلام كأمواج متلاطمة وتطوح به الرؤى في كل الاتجاهات، يحلم بوجوه النساء كأقنعة معلقة بجوار الملفات والسجلات وبأطفال رضع حديثي الولادة يفتحون أعينهم المشربة حمرة ويحدقون فيه وهم ينادونه باسمه "بوشعيب...بوشعيب...بوشعيب..."، ويرى شاهدة قبر أمه الرخامية مكتوبا عليها اسمه بجوار اسمها، ويراها وهي تبتسم له وتقول له بفرنسية سليمة: "Mon fils je t?attend. Viens vite"، فيذرف الدموع ولا يدري هل يبكي أمه أم نفسه. زوجته ازداد تضايقها من أحلامه وهددته ثانية بطلب الطلاق، فتضاعف أرقه وعوض أحلام النوم صار يكتفي بأحلام اليقظة، صار بطل العدو في مسافات الأرق الطويلة. إبان ذلك الوقت تناسلت الرفوف وامتدت مثل لبلاب لتحضن الجدران، ليكتشف الحالم بأنه ليس المتحكم فيها والمولع بها والحالم بحدائق الأسماء بل أسير تلك الجدران الشبيهة بقاموس أسود. المرأة من كثرة ما رأته غارقا في الأحلام لم تعد تعرف هل هو كائن فعلي أو متخيل. الرجل المولع بالأسماء ذو قامة فارهة الطويل بشرته بيضاء، حتى أن الدم يحتقن أسفل ملامح وجهه. يعشق ارتداء ألبسة وفق موضة السبعينات، أحذية رياضية، أو برودكانات، سراويل جينز، أقمصة ذات مربعات وجاكتات على نفس النمط، يضع على عينيه نظارة طبية ويغطي صلعته بكاسكيط. وجهه الدائري وملامحه الوديعة توحي بشخصيته الهادئة وحبه للعزلة، وعند الذقن تبرز لحية صغيرة مشذبة بعناية تجعله كبير الشبيه بالزعيم الروسي لينين خصوصا حين يزيل قبعته. يذهب يوميا في نفس التوقيت لعمله، وحتى يتفادى اللقاءات مع الناس يمر عبر الحديقة الخلفية لمقر عمله في البلدية، وحتى حين يلتقيه أحدهم عنوة يسلم عليه باحترام كأنه أحد أصدقائه الحميمين. يلج بطن الحوت حيث يقضي سحابة يومه في مكتب ضيق بالكاد يتسع لموظف واحد، لكن ضيق المكان جعل الغرفة تحتوي بين جدرانه أربعة موظفين كل منهم قابع خلف مكتبه منهمك في تحرير الشهادات الإدارية في المكتب المخصص للولادات. هنا يربض الشخص المولع بالأحلام والأرشيف ساعات طويلة من النهار، يدوّن أسماء الحيوات الآتية. يفتح السجل الكبير أمامه، يضع المحبرة المليئة بالحبر الأسود يغمس قلم الريشة فيها، ثم يرفع عينيه عن الصفحة البيضاء ويسأل الأم الواقفة أو الأب عن الاسم الذي اختاره، ويدونه بخطه الجميل المنتظم الأحرف صحبة المعلومات الضرورية. يمنح الحيوات لعشرات الأسماء يوميا، كأنه يروم تسمية الكائنات كلها، وكأن الأرض بلا اسم لا تعني أي شيء بالنسبة له. أحيانا حين تنعدم حركة الدخول إلى المكتب يخرج إلى حديقة البلدية، يجلس فوق الكرسي الحديدي أسفل أشعة الشمس، يضع سماعة هاتفه المحمول في أذنيه ويستسلم لسحر موسيقى البلوز، يغلق عينيه ويرحل بعيدا في سهوب المسيسيبي يتخيل نفسه جالسا في إحدى المقاهي مع جون-لي هوكر والمغني الزنجي العجوز يعزف له وحده chill out، مع كارلوس سانتانا وراي كودر أو مقرفصا أسفل جدار، أمام إحدى منازل تيمبكتو المتداعية ينصت لقيتارة على فاركاتوري وهو يعني بلغة الطوارق ذلك البلوز الصحراوي الناشف والجارف. تغمره إيقاعات الشساعة المحيرة فيحلقا عاليا بعيدا عن المكان، بعيدا عن مكائد الأسماء، ولعنة الأرشيف، وبرودة الإدارة، يتخيل نفسه وحيدا في الكون. يستفيق من تهويماته فيرى الموظف المجنون جالسا بجواره يحك فروة رأسه بقوة، ويدخن السجائر الواحدة تلو الأخرى، فينتفض قائما من مكانه ويلوذ ثانية بمكتبه. أحيانا يفكر بأن قد يكون سجّل أسماء كل المواليد الجدد في هذه المدينة القروية الصغيرة، فينتابه إحساس غامض وملتبس بالنشوة والرعب في آن. الناس يأتون كل صباح لإعلان شهادة الحياة مذيلة بتوقيع السلطة وخاتمها، كما لو أن تدوين الإسم خروج إلى العلن، إلى دائرة الضوء التي تمنح الأفراد شرعية الوجود. مع كل حلم من أحلامه كانت الرفوف يتزايد عددها، حتى ضاق بها المنزل. مرة رأى نفسه سائرا في نفق طويل شبه معتم والرفوف تسيل فوق جدرانه الرطبة وسجلات الأرشيف تندلق فوقها كسائل لزج ذي رائحة نتنة، وأصوات من داخل النفق تنادي عليه بالأسماء ذاتها التي دونها في السجلات منذ بدأ العمل منذ سنوات قبل أن يصاب بالصلع. كل اسم كان ينادي ويظهر مضيئا على الجدار ليختفي بسرعة. أمه ظلت لسنوات تسأله: "هل صحيح أن ما تقوم به عمل وأنك موظف في المخزن". يتعب في إقناعها دون أن تتخلى عن شكها. هي لم تتصور يوما أن يتقاضى شخص أجرة شهرية عن تدوين الأسماء في دفاتر شبه مدرسية. بعدها تخلى عن محاولة إقناعها. يحلم بأنه الوحيد السائر داخل النفق، وأنه النفق الخاص به، لأنه كثيرا ما كان ينادي عليه باسمه: "بوشعيب...بوشعيب...". ثم رأى شخصا فارع الطول وافقا وسط الممر يحمل سجلا ضخم ويقدمه إليه وحين اقترب منه اكتشف بأنه أعمى وتساءل مستغربا: (كيف لأعمى أن يدون الأسماء في هذا السجل وينسخها في سجلات وأوراق أخرى). أصابته الحيرة، وهو طاعن في الحلم وتساءل: "هل يكون الناسخ الأعمى أنا، وهل يمكن له أن ينسخ الأسماء بحبر آخر غير حبر النسيان." يومها استيقظ والحيرة تحاصر حواسه وأيقن أن الوظيفة التي يعيش منها ويعيل زوجته وعياله، ليست مجرد عمل، بل مصير وجودي لا مرّد له، مثل لعنة التيه التي طوحت بأوليس في البحار وسط الأمواج المتلاطمة كما كتبها سارد أعمى هو الآخر في "الأوديسة". قال مخاطبا نفسه بعدما تناول فطوره وتبادل ابتسامة صفراء مع زوجته وغادر البيت ذاهبا إلى المقهى لتناول قهوته الصباحية السوداء: "لا مفر لي...الأعمى في نفق الحلم نداء والعميان. وحدهم يعرفون الحقيقة". عبر عتبة البلدية ذلك الصباح فهاله المشهد الذي رآه وأصابه بالدوار، حشد هائل من النساء في الممر المؤدي إلى المكتب حيث يعمل، أغلبهن مسربلات في جلابيب لاصقة ويحملن بين أذرعهن أو على ظهورهن أطفالهن، ويبدو من ملامح وجوههن بأنهن في العشرينات أو الثلاثينيات من العمر. شق طريقه بعد معاناة شديدة إلى مكتبه واضطر للاستعانة في ذلك بمخزني، وحين دخل وجد الموظفين الآخرين واجمين كأن على رؤوسهم الطير وحين بادرهم بالسؤال: "ما الذي يحدث؟"، لم يجيبوه، بل اكتفى أحدهم بأن تناول ورقة موضوعة أمامه ومدها إليه ليقرأها، كانت عبارة عن مذكرة إدارية، تدعو موظفي الحالة المدنية لتسجيل الأطفال المولودين خارج مؤسسة الزواج، أي من أمهات عازبات. قضى أياما يستقبل الأمهات مصحوبات بأطفالهن ويدون الأسماء التي اخترنها لأطفالهن. راعه الكم الهائل من الأمهات العازبات داخل المدينة الصغيرة. الأسماء تنهمر من الأفواه مثل أمطار محايدة، وهو يكتب ما يني ينسخ من الصباح إلى المساء، وفي كل ليلة يغرق في الحلم بالمزيد من الأسماء ويتذكر بأنه درس في الكلية إبان حصة اللسانيات الطابع الاعتباطي للعلامة اللغوية، فكر في دوال تحيل على مدلولاتها ولا تحيل عليها، وتذكر أيضا بأن النساء كن يخترن أحيانا كثيرة الأسماء الشخصية لعشاقهن، ويحولنها إلى أسماء عائلية لأبنائهن مثل (سعيد سليمان) و (سكينة الخياطي)...إلخ...الناسخ الوديع الوحيد المولع بالنسخ والأرشيف كان يعلم بأن الأمر اجتاح المدينة كهذيان. "أين اختفى شعب الأشباح هذا لحدّ الآن؟" قال لنفسه وهو يرشف من فنجان قهوته السوداء. ماذا لو تعلق الأمر بسخرية سوداء. تذكر حين ذهب مؤخرا إلى المدينة الجبلية البعيدة بعشرات الكيلومترات عن مقر سكناه وعمله، ليستخرج نسخة من سجل الولادة، نظرت إليه الموظفة البدينة ذات ملامح الوجه المنفرة وقالت له بصوت خشن: "ماذا تريد؟" أجابها بهدوئه المألوف: "نسخة من سجل الولادة، الله إيخليك". سألته "متى ولدت؟". قال لها: "1957". أشارت بسبابتها إلى إحدى الرفوف المليئة بالسجلات وقالت له بلهجة آمرة: (ابحث عن سجلك هناك وستجده. خده واذهب إلى الخارج عند صاحب الدكان المجاور وانسخ بالفوطوكوبي صورة من الصفحة الخاصة بك ,اعد السجل إلى مكانه والنسخة المصورة لأطبع عليها "صورة طبق الأصل"). نفذ أوامرها بوداعة، دون احتجاج أو إبداء رأي.(ما الجدوى من إبداء الرأي، قال لنفسه، حتى لو صرخت في هذه الشساعة المحيرة والغامضة فلا أحد من الفانين سينصت لصراخي. الأفضل أن أظل صامتا وأشتغل بهدوء). هوت الموظفة بالطابع على الورقة ومدتها له بحنق وصرخت في وجهه قائلة (جوج دراهم)..."آه..." قال والحيرة تجتاحه. صرخت ثانية:"جوج دراهم". منحها إياها وخرج لا يلوي على شيء كالفار بجلده. زوجته مازالت تحرس لياليه المضطربة، وتحصي أحلامه التي يرى فيها أحيانا شعبا من الزومبي يتقدم نحوه مثل آلات معطوبة، وهو ينادي عليه باسمه: "بو...ش...ع...يب...بو...ش...ع...ي...ب...". رأى ذلك في حلم، داخل الحلم الذي يحلم فيه بجدران المنزل العالية المليئة برفوف تتراكم فوقها سجلات الولادات. رأى ذلك ومن فرط رؤية لم يعد يصدق أن تلك وظيفته وحياته، أم مجرد رؤى شخص يحلم...