لا أبالغ في التفاؤل إن قلت إن مجمل أعمال المفكر المغربي عبد الله العروي ، سواء التاريخية النقدية أو الفكرية أو السردية ، ستسهم في إحداث ثورة ثقافية قادمة ، ستؤثر لا محالة في بنية المجتمع والدولة ، ليست هاته طوبى بل نظرة واقعية تستشرف آثار مجهودات أنبغ مفكر مغربي ، موسوعي في معارفه دقيق في تحليلاته ، مثل جراح أو طبيب يشخص العلل ويقترح البدائل . إن المفاهيم التي يحلل بها العروي ، الوقائع ، وإن بلغت مستوى عاليا من التجريد ، فإن نشأتها مستمدة من مساءلة الواقع الاجتماعي والوضع الثقافي والمشهد السياسي ، متقيدا في ذلك بمنهجية صارمة ، مكنته من تفكيك الآليات المعرفية وتحليلها للوصول إلى أحكام نقدية شملت النخب الثقافية والسياسية والإدارية . في نقد النخبة المثقفة : ينطلق العروي من المضمون السوسيولوجي للمثقف الذي لا يشير بالضرورة إلى ثقافة عميقة ومتكاملة (1) ، ويقارب دوره في عملية التحديث والعقلنة ويبرز موقفه من قضايا مجتمعية مصيرية كالمساواة بين الرجل والمرأة ، وعلاقته بالتقليد والسلطة والمعرفة . وانطلاقا من الممارسة اليومية للمثقف ، يسلط عبد الله العروي الضوء على الممارسة اليومية للمثقف لمعرفة انحسار وعدم تأثير فعله الثقافي في عملية التحديث المجتمعي ، داعيا في ذلك ، لتدقيق النظر أكثر ، إلى تأصيل علوم المجتمع ، معتبرا أن عدم ازدهارها في البلاد العربية يعد على رأس المعوقات التي تقف حائلا دون مواكبة مسيرة التنمية الإصلاحية (2) . يسجل عبد الله العروي مجموعة من مظاهر اللاعقلانية تشمل الأسرة والشارع والإدارة ، داعيا إلى إلقاء نظرة إلى تصرف الأفراد وهم يدافعون عن حقوقهم فيلجأون إلى الطرق الملتوية، مع أنهم يشكون صباح مساء من المحسوبية ، فهدا سلوك متناقض ... لذلك فالمثقف يواجه يوميا مظاهر التخلف واللامعقول ، وهي كلها مظاهر تدل على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا ، والتي يجب أن تكون شاملة ، دون الاقتصار على قطاعات دون أخرى ، لأن المجتمع يغذي الدولة بقدر ما تكون الدولة المجتمع ، يتألم المثقف ويشتكي من هذه المظاهر ، لكنه عندما يكتب يبقى سجين المرويات والمقروءات ، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدم وهذا هو أصل الانفصام . هذا الانفصام هو الذي دفع المفكر عبد الله العروي إلى المناداة منذ زمن بعيد ، إلى إنجاز دراسة سوسيولوجية حول النخب لا سيما الثقافية منها ، لكن هذا النداء لم يجد صدى لأن المثقف ، أو من يسم نفسه بهذه الصفة لا يرغب في رؤية نفسه في المرآة ، موجها السؤال للجميع :كيف تريدون أن أفسر بشكل آخر هدا الكثوم حيال البديهيات ، فضلا على أنني لست أعمى ، فأنا أبصر كيف يعيش المثقف المغربي يوما بعد يوم ، فأنا لا أحكم عليه من خلال خطابه ، بل من خلال سلوكه (3). ورغم غياب المعارف السوسيولوجية حول المثقف لمقاربة الدوافع الخفية لمواقفه النكوصية ، فإن المؤكد من خلال الممارسة أنه يزكي التقليد ويناهض الحداثة ، ولا أدل على ذلك من خلال المواقف المتذبذبة للمثقفين من قضية المساواة بين الرجل والمرأة ، باعتبار قضية المرأة هي في العمق أساس المجتمع الديمقراطي العصري ولا يمكن أن نبني مجتمعا عصريا بدون نواة عائلية مكونة من زوج وزوجة لهما مشروع في الحياة . لم يعد يراهن المفكر عبد الله العروي على النخبة المثقفة في عملية التحديث الاجتماعي وبث قيم العقلانية ، لا سيما عقلانية السلوك باعتبارها أساسا لمجتمع حر ، متقدم ولنظام ديمقراطي . لكن ما العمل في غياب نخبة تمتلك القدرة على تحديث كل مظاهر الحياة ، مادام مجتمعنا غير عقلاني في أهم مظاهره ؟ ها هنا تجد الدعوة إلى التحديث معنى لها ، لكن من يقوم بها إذا تبين لنا أن عبد الله العروي يتخذ موقفا من نخبتين : نخبة ممثلة في الجهاز الإداري بمعنى عام بما فيه الدولة بكل مكوناتها ، والنخبة المثقفة المتغيرة المواقف والأسماء كلما تغيرت الظروف : هم اليوم ماركسيون متطرفون وغدا إصلاحيون دينيون ... ، المتغير هو مجموع الشعارات والمرجع الفكري ، لكن الثابت هو الموقع الاجتماعي ، بدليل أن بعض العناصر انقلبت بسرعة البرق من جانب إلى آخر . وبناء عليه ، يعترف العروي أن الجهاز الإداري ، مهما كانت ميوله الشخصية ، مضطر للحفاظ على قدر من السياسة التحديثية بسبب علاقاته مع الخارج ، ولو كان ذلك لأغراض دفاعية فقط ، في حين أن النخبة المثقفة سواء كانت في موقع اليسار أم في اليمين ، فهي تدافع في كلا الحالتين عن التقاليد ، أي أن أعدادا كبيرة من المثقفين أصبحوا ينظرون إلى الحداثة وكأنها كارثة على الالتحام القومي والتوازن النفسي والتواصل التاريخي ، فينتهي بهم الأمر إلى رفضها ومعارضتها اعتمادا على حجج ملفقة وواهية . إذن، لم يبق أمام عبد الله العروي من خيار سوى التركيز على الدولة كجهاز للتحديث « لأني يئست من أن يكون المثقفون وسيلة تحديث .... هذه الوضعية ليست خاصة بنا بل عرفتها أوروبا أثناء فترتها التحديثية ، أغلبية المثقفين الأوروبيين كانوا ضد الحداثة وطالبوا بالعودة إلى السنة والتقليد . هناك أقطاب الحركة الرومانسية في ألمانيا وفرنسا ، هناك كارلايل وراسكن (RUSKIN ) ، في انجلترا ، هناك دوستويفسكي في روسيا ..الخ (4). وللخروج من دائرة التهميش والكسل والاتكالية والخضوع المطلق لسلطة التقليد . إن العروي يرى أن دور المثقف يتمثل في البقاء قريبا من الواقع ، ومن ثمة التذكير بالبديهيات . ليس عليه أن يلعب هذه الورقة أو تلك، للانتماء أو لحشد التصفيقات لصالحه أو للتسلق وظيفيا . في مجتمع حيث الفكر العلمي ليس مهيمنا تحديدا،وفي انتظار تشكل نخبة علمية كثيرة العدد ومؤثرة ، من واجب المثقف التعبير عن سعة الموضوعي . فالموقف المشرف للمثقف المتحرر من كل القيود ، هو تحديد عناصر تجاوز الأزمة. وعليه، من عمق اليأس يعود العروي مجددا ليلملم أوراقه ويدقق في مكانة ووظيفة المثقف ضمن شروط تستوجب منه التذكير بالبديهيات ورسم المسافة الواجب الاحتفاظ بها لصد إغراءات السلطة وتجاوز لغة الخشب. في نقد النخبة السياسية : إن المجهود الكبير الذي قام به المفكر العروي في البحث عن الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية ، ساهم في توضيح الرؤية عن طريق تفكيك بنية السلطة وآليات اشتغال المخزن . هذه الكلمة، التي تم تداولها بكثرة خلال القرن 19 ، وهي تحمل معاني كثيرة ، منها المعنى المركز، ويتعلق الأمر بالبيروقراطية والجيش ، وأيضا المعنى الواسع الذي يشمل كل المجموعات التي بواسطتها يحدث أعضاء المخزن المركز منها : الخاصة ، عشائر الكيش ، الشرفاء ، الزوايا ... . وكان السلطان الحسن الأول يقيم تمييزا بين الشؤون المخزنية وتلك المتعلقة بالشرع ، مما نتج عنه الفصل الوظيفي بين الكتاب والعلماء . ، هذا التمييز بين الشأنين استغله الفرنسيون بذكاء ومكر أيضا للاستيلاء على المخزن أي الحكومة الدنيوية بينما بقي السلطان الشريف يمارس دوره كرئيس لهرم العلماء التراتبي ، مادام أن السلطان بالنسبة لهم هو زعيم ديني وهو ليس ملكا بالمعنى الغربي . وبعد بحث معمق، يتوصل العروي إلى أن الوطنية كما تطورت في المغرب في القرن 19 ، تبدو جوهريا ، أنها من خلق الطبقة الكهنوتية بمكونيها الإثنين : طبقة العلماء «المستقلين» أي الذين لم يكن ينفق عليهم المخزن ، والآخرين الكتاب الذين كانوا موظفين لدى هذا المخزن ... جعلت العروي يعتقد أنه لم تحدث قطيعة إبان قيام الحماية ، وأن «من استلم المشعل هم سليلو هذه الطبقة الكهنوتية التي حاولت عصرنة البلاد ، بتوافق مع العائلة العلوية الحاكمة خلال القرن 19 ، والتي لم تنجح في مسعاها هذا ، وهؤلاء هم من قالوا إبان الحصول على الاستقلال : المغرب من صنعنا (5). ومع حصول المغرب على الاستقلال ، لم يبق محمد الخامس سلطانا بل صار ملكا ، تمت إثارة مشكلة إمارة المؤمنين وتم إسنادها للمؤسسة الملكية لصد أطماع التيار المحافظ لاسيما الراغبين في تحويل النظام الملكي إلى خلافة أو إمامة شرعية ، مع التمسك بالخصوصية للرد على النزعة القومية لدى اليسار . لم ينتبه الوطنيون إلى ازدواجية السلطة هاته ، وكان بإمكانهم التذكير بها في المغرب التقليدي وفي مغرب الحماية وجعل هذا أساسا لانطلاق علمنة واقعية . إلا أن الوطنية كحزب كانت تشكل أقلية بالنظر لمخلفات أوضاع مغرب الحماية ، خصوصا الدور السلبي الذي لعبه الاستعمار في تشجيع التقليد والعمل على ترسيخه من خلال مغرب الفلكلور : «الرزة والجلباب والفروسية»، الذي عمل الملك الراحل الحسن الثاني ما في وسعه للحفاظ عليه ، بالإضافة إلى أعمال إيديولوجيي الاستعمار الذين عملوا على تأكيد وجود مغربين : مغرب ناطق بالعربية وآخر بالأمازيغية .وما تأسيس الحركة الشعبية في مغرب خرج لتوه من الاستعمار إلا محاولة للتكلم باسم الأغلبية الصامتة . هكذا لم تكن السوسيولوجيا مقوما من مقومات القوة التفاوضية لصالح الوطنية كحزب ، للمشاركة في بناء الدولة ومؤسساتها وتأهيل المجتمع ، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لم يستوعب الوطنيون مقتضيات معاهدة الخزيرات ، مما جعلهم يسقطون في فخهم الذاتي . « لقد طالبوا طوال سنين بالتطبيق الحرفي لمعاهدة الخزيرات التي هي الإطار القانوني الدولي الذي يندرج في إطاره عقد الحماية لمارس 1912 . إن إلغاء الثاني يجعلنا في مواجهة الأول ، والحال أن معاهدة الخزيرات تشير إلى سيادة السلطان وليس إلى سيادة المغرب . هكذا وجد محمد الخامس نفسه في سنة 1955 متوفرا على مجمل سلطات الحسن الأول . في تلك الفترة لم يكن أحد واعيا بالأمر باستثناء الحسن الثاني ربما . لو كان الإنجليز محل الفرنسيين لقالوا بدون شك : نعيد لكم السيادة ، لكن شرط أن تعملوا حالا مسلسلا تفوضونها عبره لممثلين منتخبين ، مثلما فوضتموها لنا في الماضي . وفي سنة 1958 ، استخلصت النتائج ، طالما ليست هناك انتخابات ، فلا حزب يمثل الشعب . إن العاهل هو الذي يجسد الإرادة الشعبية (6) . هذا هو عمق النقاش الذي تواجهت عبره الوطنية كحزب مع الحسن الثاني ، فاختار كل واحد خندقه ، فكان الاستقطاب على أشده ، الأمر الذي اقتضى أحيانا «التصفح» بالديماغوجيا كأسلوب في العمل السياسي لاستعادة الفرد بعد تأميمه داخل الحزب ، وإرجاعه إلى أصوله طوعا أو كرها ، وبذلك ضاعت فرصٌ كثيرة و.. مشروع تحديث البلد بتعطيل التوافق على النظام الديمقراطي وتأجيل القضية النسائية واعتبارها ليست ذات أولوية في عملية التحديث المجتمعي ، مما عزز التقليد ورسخ سلطته في الوعي الفردي والجماعي وأعاد الفرد إلى القبيلة ومنحها الولاء . هذا التقليد وظفه الراحل الحسن الثاني لتزكية مغرب الفلكلور وأيضا استراتيجية فعالة في ضمان الأمن الاجتماعي الذي يعد من أولى واجبات رئيس الدولة ، لذلك يرى عبد الله العروي أنه لا يجب أن ننتقد رئيس الدولة لاستعماله التقليد في دعم نظامه ، لأن هذه هي السياسة ، هنا نعثر على إجراء ميكيافيلي. وإذا أردناه أن يقوم بإصلاحات يمكنها ، نظرا لطبيعتها ، أن تزعزع توازن المجتمع ، فمن اللازم أن يخضع لضغوطات كبيرة وهي ضغوطات تأتي من الخارج ، من المنظمات الدولية ...لكن السؤال المحرج هو : هل كانت النخبة السياسية في تلك المرحلة تمتلك ما يكفي من الثقة في قيم الحداثة لاعتمادها كبرنامج وفرض هذا البرنامج ؟ هل مناخ تلك المرحلة كان مواتيا لإطلاق الإصلاح المجتمعي ، بل حتى عندما توفرنا على وزير أول من اليسار ، رجل قانون يعرف جيدا المعاهدات والمواثيق التي وقعت عليها البلاد والذي عليه من ثمة تطبيقها ، هل توفق هذا الوزير في تطبيق برنامجه إذاما أخذنا بعين الاعتبار ما لاحظه عبد الله العروي ، أثناء إقامته بمصر في بداية ستينيات القرن الماضي .إنه لايكفي أن تكون السلطة بيد جماعة تريد الصلاح والإصلاح ، تحارب الاستغلال وتستهدف التقدم والرقي ، إذا كانت ذات ثقافة ضعيفة ، غير مستوعبة للأفكار المؤسسة للمجتمع العصري . رجوعا إلى نصوص علال الفاسي ( المرتكن إلى الحلول التقليدية للمذهب المالكي ) وحتى المهدي بن بركة ( رغم تسلحه بالإرادة) ، يتبين أن مشكلة الأسرة لم تكن في نظرهما مستعجلة ، مما دعم موقف الخندق المناهض لإصلاح مدونة الأسرة ( التقنين بدعة في نظر العلماء) . إن إصلاحات المجتمع لم تكن على رأس أولويات الأحزاب بما فيها الأكثر تقدمية ، وحتى الحسن الثاني لم يكن منفتحا بما فيه الكفاية على مثل هذه الإصلاحات لأنه لم يجد في مواجهته رجالا مقتنعين بضرورة تطبيق هذه الإصلاحات (7). وبناء عليه يستنتج العروي أن المشكلة الحقيقية ليست سياسية بقدر ما هي -في الجوهر- ثقافية ، جعلت المجتمع المغربي غير مستعد ، في الواقع ، لقبول مبدإ المساواة بين الجنسين ، لذلك اقترح مدخلا بيداغوجيا من خلال تنظيم حملات توجيهية فعلية هدفها إقناع الناس بأن مسألة المساواة بين الرجل والمرأة شرط ضروري لتحسين الحياة اليومية للجميع ، وإذا ما خسر الرجال في المدى القريب ، فإنهم سيكونون رابحين في المدى البعيد . كما نبه العروي إلى عدم الخلط بين المستويات . ففي تعدد الزوجات لا يجب أن نناقش إلا ما يتعلق بشيء واحد فقط وهو أثر تعدد الزوجات على الادخار وبالتالي النمو ، أما إذا خلطنا بين المستويات تعذر التفاهم وتداعى الحوار البناء . المطلوب إذن هو طرح السؤال التالي على الباحثين الاجتماعيين والاقتصاديين والمربيين بدلا من العلماء الذين لا مصلحة لهم في ذلك . والسؤال هو : هل وضعية المرأة في مجتمعنا أساسي في التخلف أم لا ؟ ويمكنهم طبعا أن يجيبوا سلبا لأن الكثير من الأنتروبولوجيين يفعلون ذلك ، وفي حالة حصول الأمر سننتقل إلى قضية أخرى ، مثلما فعل أسلافنا . وفي حالة الجواب إيجابيا ، فسنتوجه إلى رجال القانون ليجدوا لنا الحجج والحلول القانونية ( في قضايا الإرث على سبيل المثال ) ، وفي آخر المطاف فقط سنطلب من العلماء البحث عن توافق مع الله . لاشيء من كل هذا مستحيل إذا ما قمنا بمجهود على مستوى الخيال ، لكن هذا الإعمال للخيال ليس هو نقطة قوتنا . لكن السؤال المؤرق هو هل ستجد دعوة العروي إلى تربية الرأي العام هاته طريقها سالكة في ظل التحكم الإعلامي وقولبة الرأي العام والتفتيت الذهني التي تفرزه المنظومة التربوية كمعمل لإعادة إنتاج الثقافة التقليدية ؟ وبما أن العروي يقر بأن الجميع يساهم في التقليد كمعيش وممارسة يومية ، الأمر الذي حثه على تقديم ملاحظات أمام أعضاء أكاديمية المملكة المغربية، مفادها أن التربية ، بمعناها الواسع ، تتم على عدة مستويات ، وأن التربية المهيمنة في المغرب هي تلك المنبثقة من الزوايا ، ومن الزاوية انبسطت لتشمل الأسرة ، الحرفة ، المخزن بل وحتى القبيلة ، ويخلق هذا النموذج آثارا في السلوكات (تقبيل اليد ) . هذه التربية المنتشرة هي التي تفسر ، حسب اعتقاد العروي ، التقليدية العميقة في مجتمعنا وتشرح إلى حد ما ، انتعاش جو الأسلمة الذي نلاحظه راهنا . هنا تكمن عبقرية العروي في كون تاريخانيته تتجلى من خلال الأهمية الكبيرة التي يوليها للتربية الاقتصادية وهي الفكرة التي دافع عنها منذ سنوات ليجدها مبلورة في كتاب ذكريات ميشال روكار الذي عزا سبب انحسار المجتمع الفرنسي يكمن في ضعف المعارف الاقتصادية على مستوى التعليم الإعدادي ، طالما لا نشرح لتلاميذ هذا المستوى الدراسي مصدر الثراء ، وطالما الاقتصاد السياسي ليس جزءا أساسيا ضمن منظومة التربية المدنية لن يحصل هناك تحول في عقلية الأشخاص ، فهم ما يزالون يؤمنون بالهبة السماوية . في معضلة المزاوجة بين الديمقراطية والمحافظة على الدولة : لم تتوقف القوى الوطنية في المطالبة بالتحديث السياسي ، رغم الخصومات المتكررة ، لإقامة دولة عصرية ، دولة المؤسسات ، لكن للعروي وجهة نظر خاصة لا سيما بعد نظره في السلسلة الطويلة من الحروب والثورات والانقلابات خلال تاريخ المغرب ، ليخلص الى أن مقدمة المقدمات لبناء دولة ومجتمع متوازن يمكننا من العيش عيشة عصرية ، لأجل ذلك لا بد لنا أن ننسى آثار الماضي السلبية ، أن نتعالى عن الفوارق المذهبية والظرفية والمحلية واللغوية ... وقد حصل بالفعل وفاق وطني حول قضية الصحراء كمسألة وطنية ، مما أدى إلى نوع من التصالح بين القوى السياسية العاملة في البلاد وانفتاح جهاز الدولة على عناصر خارجة عنه ، إلا أن قضية حقوق الإنسان ستأخذ أبعادا سترخي بظلالها من جديد وتحرج القوى المنتصرة للمصلحة الوطنية ، رغم ذلك فقد بقيت قوى الصف الوطني الديمقراطي متشبثة بالاختيار ، وتلك كانت كما يعتقد العروي ، وضعية عبد الرحيم بوعبيد الوطني الذي كان ديمقراطيا ووطنيا حتى النخاع . عبد الرحيم بوعبيد كان رجلا ذا حساسية كبيرة . لقد عاش الوضعية كمأساة دائمة . إجمالا، فقد بقي اليسار وفيا للميثاق الضمني الذي يربطه بالمؤسسة الملكية ، لا سيما من طرف رجل لم يتنكر لوعده الذي قطعه على نفسه حتى لو كانت لديه أسباب تدعوه للاعتقاد بأن الحسن الثاني لم يلتزم بوعده . لقد تمكن الراحل الحسن الثاني من بناء الدولة بسبب توفر الوسائل وطول المدة ، لكن المسألة الديمقراطية بقيت مطروحة على جدول الأعمال ، مما جعل عبد الله العروي في كتابه « المغرب والحسن الثاني «، يعبر عن إحساس بالإحباط ، ذلك أنه منذ بداية القرن 19 ، لم نعرف كيف نزاوج بين الديمقراطية والدفاع عن الدولة ، فالتاريخ والجغرافيا ، يقول العروي : أجبرتنا في كل مرة على القيام باختيار صعب ... فعندما يكون مصير الأمة والمصلحة الوطنية في خطر ، فإن اليسار هو المجبر على تقديم تنازلات . لم يغفل العروي التأثير غير المباشر للمنظمات المالية في عملية الإصلاح السياسي ، ذلك أن المنظمات الدولية تشترط دائما قبل المساعدة ، عملية الترشيد ، وهذه في حد ذاتها تكتسح شيئا فشيئا كل المجال الاجتماعي ، تبدأ بالسياسية المالية ، التجهيزية ، ثم التعليمية ، ولا بد أن تنتهي بالإصلاحات السياسية . لكن العروي يلاحظ أن الاتجاه في العالم كله هو نحو ترسيخ فصل بين مستويين من المسؤولية : المسؤولية التاريخية وحولها يتم الوفاق الوطني والمسؤولية السياسية والإدارية والمحلية ...... بناء عليه، لا يتصور العروي أن تقوم في المغرب الحالي دولة على نمط عصري في شكل غير برلماني ، أي بدون أن يكون رئيس الحكومة مسؤولا مسؤولية تامة وكاملة أمام البرلمان ، مما جعله يعتقد جازما أنه من المستحيل تحديث بلد دون اعتماد النظام الديمقراطي . وحيث لا تتوفر شروط ذلك فمن واجب القادة فعل كل شيء بلا مماطلة لخلق هذه الشروط ، لأنه بدون ديمقراطية لا توجد مسؤولية سياسية . لكن السؤال/ الإشكالية هو : هل اليسار استنفد جميع محاولاته في التحديث أم أنه يكفيه التنازلات التي قدمها في سبعينيات القرن العشرين ( المصالحة الأولى من أجل القضية الوطنية ) ومنتصف تسعينيات نفس القرن ( المصالحة الثانية من أجل الانتقال السلس للعرش ) ، وإنقاذ المغرب من السكتة القلبية . هل الدور الآن والأمل معقود على الملكية ، لا سيما وأن عبد الله العروي ، متأكد من أن السلطة الملكية لها دور ضامن للاستقرار ، خصوصا أنها تسمح بالتفريق بين الديني والسياسي (8) ، أليس في ذلك إحالة إلى تجربة اليابان خلال حقبة إصلاح عميق قادته أسرة « الميجي» ، بالاعتماد على « الساموراي» وهم فئة عسكرية من مختلف الرتب يحترفون الحرب ومحرم عليهم التجارة . وقد كان منهم من تعلم تقنيات عصرية وبعضهم أرسل إلى الخارج للدراسة . ......كان شعار الميجي هو « جيش قوي وبلد غني « . وقد تمكن فعلا إصلاح « الميجي « من إقامة قاعدة اقتصادية قوية بتعاون بين القطاعين العام والخاص وتأسيس تجمع للشركات الكبرى ، بمساعدة الدولة ، فاحتكر هذا التجمع الاقتصادي الضخم ، الذي أطلق عليه « زايباتسو» ، الصناعات الثقيلة والمعادن والبنوك وشركات تجارية سيطرت على أغلب مرافق الاقتصاد الياباني (9). لكن هذه الإصلاحات أنتجت نظاما اقتصاديا وعسكريا توسعيا ، وهكذا أصبح لليابان أقوى جيش في آسيا ، فهزمت الصين (1894) واحتلت جزيرة التايوان وألحقت هزيمة مدوية بروسيا (1905) ودخلت الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول المحور ، فقد جلست مع المنتصرين في مؤتمر فرساي وقد أصبحت اليابان على درجة من القوة بحيث تخلصت من المعاهدات التي كانت فرضت عليها منذ منتصف القرن 19 يتضح إذن أن عبد الله العروي يراهن على أعلى هرم في رئاسة الدولة في إنجاز هذه المهمة التاريخية من أجل الانخراط في نادي الدول الديمقراطية العصرية . رهان مرتبط بالتحولات الدولية المعقدة ، هل ستكون عاملا مساعدا أم عنصرا كابحا لإطلاق دينامية في مسار دمقرطة الدولة وتحديث المجتمع ، هو سؤال بلا شك منفتح على المستقبل وربما على اللامتوقع لأن التاريخ يفاجئنا باستمرار . لا شك أن الأحداث الكونية تعد من العوامل المؤثرة في رسم خارطة طريق في إدارة الشؤون الداخلية للبلد ، وبما أن المغرب في ظروفه الراهنة عرف كيف يجتاز بعض الرجات القوية ، لكن طموح وتطلع المغاربة إلى بناء نظام سياسي عصري مازال مستمرا ، لا سيما في ما يتعلق بمراجعة دستورية عميقة ، هذا ما أكده العروي مجيبا عن أسئلة هيئة تحرير مجلة النهضة : أصفق بالطبع للتعديلات التي أدخلت على النظام السياسي في بلادنا ، لا أنسى أن الدستور الجديد أي دستور فاتح يوليوز 2011 جاء نتيجة توافق بين الأحزاب ، وبالتالي لا يلبي رغبات كل الجهات ، أرى أنه لا يرقى إلى ما تتطلبه وضعية المغرب في عالم اليوم (10) . يستفاد من خلال هذه المساهمة المتواضعة التي ركزنا فيها حول مواقف المفكر المغربي عبد الله العروي المستخلصة غالبها من الحوارات التي كان يجريها مع مجلة آفاق ، مقدمات والنهضة ، ابتداء من تسعينيات القرن الماضي إلى منتصف العشرية الثانية من القرن 21 ، وهي مواقف مستخلصة من المعايشة والمراقبة الدقيقة للعروي لمختلف تفاصيل الحياة الثقافية والفكرية والسياسية ، لذلك يمكن اعتبارها مواقف / شهادات مدونة للتاريخ ضد المحو والنسيان وفي الآن نفسه منارة تفيد في إضاءة المسالك والاتجاهات ، وتزرع في النفسانية الحسم في الاختيارات لمعانقة الكوني دون اصطفاء أو انغلاق . المراجع : 1 كتاب محاورة فكر عبد الله العروي ، تأليف مجموعة كتاب ط1 /2000 المركز الثقافي العربي يتضمن حوارا أجرته مجلة آفاق / الرباط عدد 3/4 سنة 1992 . 2 الدرس الافتتاحي لعبد الله العروي : تأصيل علوم المجتمع ، المقارنة والتأويل ، بكلية الآداب والعلوم ، جامعة القاضي عياض بمراكش بتاريخ 7/10/1999 ، تغطية جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 16/10/1999 . 3 جريدة الاتحاد الاشتراكي الملف الثقافي 15/10/2010 ع9606 ، ورد الحوار /النقاش في مجلة مقدمات عدد صيف 2006 . 4 جريدة الاتحاد الاشتراكي ، الملف السياسي : نظرة مؤرخ للمغرب في عهد الحسن الثاني بتاريخ 13/10/2010 عدد 9604 . 5 ن م / محاورة فكر العروي 6 ن م / جريدة الاتحاد الاشتراكي ، الملف السياسي. 7 ن م /جريدة الاتحاد الاشتراكي ، الملف الثقافي 8 مجلة زمان ع 18 أبريل 2012 حوار بالفرنسية مع المفكر عبد الله العروي ص 69 . 9 علي أومليل : أفكار مهاجرة ، ص 45 ، ط 1 /2013 مركز دراسات الوحدة العربية . 10 مجلة النهضة ، العدد الثامن ، ربيع صيف 2014 ، هكذا تكلم عبد الله العروي ط 1 /2014 .