آلاف الأطنان من المواد الغذائية المتنوعة تستورد سنوياً بهدف تنويع المواد المعروضة في الأسواق والفضاءات التجارية من جهة، وسد الخصاص الحاصل في بعض المواد الأساسية ذات البُعد الاستراتيجي مثل القمح، استيراد مئات الأطنان من المواد الغذائية الأساسية قد يبدو شيئاً عادياً وبديهياً، بيد أن الدراسات والأبحاث العلمية المختلفة تشير إلى أن الاستمرار أو تطور حجم استيراد المواد الغذائية الأساسية ببلادنا يطرح إشكالية التبعية والأمن الغذائي بالمغرب، وتبعاته الاجتماعية والاقتصادية على الأقل. وقد أكدت في هذا الإطار، الدراسة الاستشرافية للمندوبية السامية للتخطيط حول الفلاحة في أفق 2030، على أن عدم الأخذ في الاعتبار في أي استراتيجية فلاحية مفترضة بالمغرب بملف الأمن الغذائي وبمختلف الشروط والسياقات المرتبطة به، يجعل إمكانية تعرض المغرب لأزمة غذائية في الأفق المتوسط أو البعيد، وهو الطرح الذي يتقاطع في فحواها مع العديد من الدراسات، منها ما له علاقة بمنظمة الأغذية والزراعة، ومجموعة الخبراء البيحكومية حول المناخ، التي تفيد جميعها بأن استيراد القمح وغيره سيزداد تضخماً في الأفق المنظور، بالنسبة لدول المتوسط ومنها المغرب، إذا لم تتخذ التدابير اللازمة لمواجهة التحديات الجديدة (ارتفاع درجات الحرارة وتأرجح وتيرة أسعار الطاقة..) وتحقيق الأمن الغذائي الضامن لنهضة فلاحية.. في الملف التالي محاولة لمقاربة الغذاء المستورد ببلادنا بمشروع ومطمح الأمن الغذائي، وهو المشروع الذي يطرح بالضرورة، ملف أحد مظاهر الأمن القومي بالمغرب الأقصى. مسألة المواد الغذائية المستوردة بالمغرب او الغذاء المستورد بشكل عام قد تبدو في ظاهرها عادية، ومرتبطة بالحاجيات المتزايدة والاذواق الاستهلاكية، التي ما فتئت تتنوع باستمرار مع تطور انماط العيش عبر الحقب والازمنة. ان في بلادنا أو في غيرها من البلدان. لكن التمحيص العميق في مختلف سياقات الانتاج الغذائي (الفلاحي منه او غير الفلاحي)، وطنيا ودوليا، والبحث في التحديات التي تواجه المغرب في ضمان الامن الغذائي. وبخاصة في مواد استراتيجية كالقمح الذي صار يشكل المادة الاساسية ضمن مجموع الغذاء المستورد سنويا، والنبش في مختلف الا كراهات الطبيعية (التغير المناخي و آثاره المفترضة) والسوسيو - اقتصادية، والاخذ في الاعتبار العديد من الدراسات الاستشرافية لمستقبل الفلاحة والغذاء بالمغرب، مثل الدراسة او استراتيجية النهوض بالفلاحة والعالم القروي في افق 2020 التي انجزت تحت اشراف الاستاذ حبيب المالكي، ودراسة المغرب في افق 2030، في شقها المرتبط بالجانب الفلاحي التي اعدتها المندوبية السامية للتخطيط. استحضار كل هذه العناصر والمعطيات يجعل تواصل الارتكان إلى تلبية الحاجة الغذائية الاساسية لملايين السكان على استيراد مواد غذائية متنوعة ومنها اساسا القمح ومواد أخرى ذات بعد استراتيجي (وهو الاستيراد الذي قد يرهن الأمن الغذائي المأمول) يطرح سؤالا ليس فقط حول مآل تحقيق مشروع الأمن الغذائي بالمغرب، بل حول كل التحديات التي قد يواجهها المغرب في افق تحقيق نهضة فلاحية مفترضة في السنوات العشرين القادمة، نهضة تضمن الغذاء الاساسي (القمح، واللحوم، والحليب ومشتقاته) وتحمي بلادنا من تبعاث وتداعيات مضاربات الاسواق الدولية في المواد الغذائية الاستراتيجية، وهي التبعات التي يرى الباحثون والخبراء في منظمة الاغذية الزراعية (الفاو) انها قد تكون ذات آثار سيئة، ان اجتماعيا او اقتصاديا او سياسيا، اي انها تبعات قد ترهن مستقبل المغرب في قطاع له أهمية استراتيجية كبرى اي القطاع الفلاحي!؟ من المعلوم ان المغرب خلال سنوات الستينات يصدر جزءا من الحبوب المنتجة بأراضيها ومنها انتعاش القمح الى الخارج. بيد انه بعد فترة من ذلك، وبفعل تداخل عوامل مختلفة ومنها العامل الديموغرافي، والعامل المناخي وعوامل اخرى سوسيو - اقتصادية (غياب التأهيل المفترض في جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية...) دخل الانتاج الفلاحي المتصل بالمواد الغذائية الاساس في مرحلة التأرجح، بين الصعود، والنزول، لكن اللافت هنا هو أن السمة التي أضحت تطبع هذا النوع من الانتاج الغذائي في السنوات الاخيرة هي الاختلال في الانتاج والمردودية، وهي السمة التي تبرز العديد من المؤشرات المستقاة من دراسات علمية بأنها ستتواصل وتحتد وتأخذ منحى أكثر قتامة في العقود الثلاث القادمة في حالة، اذا لم تؤخذ في الاعتبار مختلف التحديات والسيناريوهات المطروحة؟ فما الذي يبرر كل هذه «التوجسات»؟ وهل البحث في غذائنا المستورد، والمنتج محليا يستدعى كل هذه «القيامة» من طرح الاسئلة والاشكالات؟ هناك العديد من المبررات الوطنية والدولية التي تجعل الغذاء المستورد في بعده الاستراتيجي إشكالا يكتسي أهمية كبرى، ان راهنا او مستقبلا، من بين هذه المبررات، ما أشار إليه تقرير «مجموعة الخبراء البيحكومية حول المناخ؟! المعروفة اختزالا ب (GIEC)، فقد حذر التقرير الذي صدر سنة 2007 من مخاطر تراجع الانتاج الفلاحي، وبخاصة في المواد الغذائية الاساسية كالقمح، بمنطقة جنوب حوض المتوسط ومنها أساسا المغرب. بسبب تداعيات التغير المناخي الذي ستكون له عواقب سلبية - حسب ذات التقرير - في مناطق مختلفة بمنطقة المتوسط وغيرها في أفق 2030، ومن المبررات التي تشرعن كل علامات الاستفهام حول الاستمرار في استيراد الغذاء الاستراتيجي (القمح وما شابه)، المعطيات الرسمية التي تفيد بتراجع كبير في انتاج القمح خلال فترتين زمنيتين اساسيتين، الاولى تنحصر بين 1985 و1995 وهي الفترة التي شهد فيها الانتاج نسبة عالية قدرت ب %10,6، والثانية تتصل بين الفترة الممتدة بين 1991 و2004، وهي الفترة التي لم تتجاوز فيها نسبة الانتاج %0,7، وهي النسبة التي تكشف التراجع الفظيع في الانتاج ، ومن الاسباب الرئيسية لهذا «الانقلاب الكبير» في كمية وحجم الانتاج في مادة او مواد غذائية أساسية، تبعات التغير المناخي، وغياب المكننة، وعدم تأهيل الارض والفلاح، وغياب استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار مختلف أبعاد القطاع الفلاحي، من المبررات التي تكتسي أهمية في هذا المجال ماورد في تقارير ودراسات علمية وطنية ودولية، بأن درجات الحرارة، ارتفعت ببضع درجات في العديد من مناطق العالم، خلال الخمسين سنة الماضية، وبدرجة واحدة في المغرب، ومن المفترض ان ترتفع بدرجة واحدة وطنيا خلال 30 سنة القادمة، وهو الامر الذي يعني بأن المغرب مهدد في الافق المتوسط بمواسم جفاف، وعواصف، وأمطار طوفانية في المستقبل المتوسط والبعيد، ومن المبررات التي تجعل من موضوع الغذاء المستورد موضوعا له أهمية وراهنية كبرى ولو على مستوى مناقشة العديد من الملفات الفلاحية الكبرى، هو ان انفتاح القطاع الفلاحي بشكل غير متحكم فيه وهو ما يلاحظ في العديد من الجوانب، والسعي الى تحرير تام لمناحي هامة منه وهو ما يبدو جليا على الارض، ويتداول هنا وهناك، سيزيد من تعقيد اشكالية انتاج المواد الغذائية ويكرس من تم الاستيراد الذي يرهن كما سبقت الاشارة مستقبل القطاع على الارض. ومن المبررات التي تجعل موضوع الغذاء المستورد بالمغرب ذي دلالات مستقبلية كبرى ، ماورد في تقرير لمنظمة الاغذية والزراعة، فقد أشار الى أن «صادرات الحبوب ستتضاعف خلال العشرين سنة القادمة مبرزا بأن الدول المصدرة ستشمل البرازيل، والارجنتين وروسيا، ودول الشمال عموما بما فيها الولاياتالمتحدةالامريكية. وأفاد التقرير عنه ، في تحاليله المستقبلية المستندة الى دراسات علمية ومسح دولي يتداخل فيه العامل المناخي بالاقتصادي.. والسياسي بأن الدول المستوردة ستكون هي دول الجنوب والتي لم تضع استراتيجيات تواكب التحولات، وتسمح بمواجهة التحديات.. لقد قام المغرب خلال هذه السنة باستيراد كميات كبيرة من القمح لسد النقص الحاصل في الانتاج الذي كان عكس ماكان منتظرا من موسم مطر بامتياز بسبب موجات الحر «الاستثنائية» التي ضربت العديد من المناطق الفلاحية التي تختص في زراعة الحبوب وهو الامر الذي أحجم من مساحة التوقع الايجابية، التي تعني في مظهرها الاساسي ترقب الرفع من الانتاج الفلاحي، والغذائي منه بالاساس... من المبررات التي تجعل الغذاء المستورد، ومن خلاله الانتاج الغذائي بالمغرب (في مفهومه الاستراتيجي المرتبط بالمواد الغذائية الاساس) يرتقي، بحسب الدراسات الرسمية وغيرها الوطنية والدولية الى مرتبة الملفات ذات البعد الاستراتيجي المصيري، ماورد في الدراسة الاستشرافية للفلاحة بالمغرب في افق 2030 الذي انجزته المندوبية السامية للتخطيط. والذي يفيد من خلال طرح العديد من بعض جوانب القطاع الاساسية، وهيمنة الشركات، وسيادة التمركز العقاري، وتكوين فلاحة أكثر ورأسمالية تنتج موارد تصدر في غالبيتها الى الخارج، ولا تعير بالشكل المطلوب الاهمية اللازمة للمنتوج الفلاحي الضامن للأمن الغذائي، وهو «الانتاج» الذي لن تتجاوز فائدته الاقتصادية (إذا افترضنا التحرير التام في جوانب فلاحية مختلفة) %0,5 من الانتاج الوطني الخام حسب ذات الدراسة - و النتيجة الصادمة لهذا السيناريو هو ضياع 300 ألف هكتار من الأراضي الفلاحية في أفق 2030 بالمناطق الساحلية جراء عوامل مختلفة منها قوة التعمير وزحفه على الأراضي الفلاحية... وما إلى ذلك.. ومن العناصر التي تجعل الغذاء المستورد (القمح أساسا..) خاصة إذا استحضرنا عامل التغير المناخي، والسياقات الدولية المتحولة والمتقلبة باستمرار، موضوع بحجم قضايا وطنية كبرى، هو أنه يحيل بشكل مباشر الى الحديث عن الأمن الغذائي وكيفية تحقيق ذلك، وفي هذا الإطار أشارت الدراسة الاستشرافية للمندوبية السامية للتخطيط (وهو الأمر الذي يتقاطع بشكل كبير مع دراسات لمنظمة الأغذية والزراعة، وتحركات وحوارات لرئيسها جاك ضيوف) بأن غياب تحقق الأمن الغذائي في المواد الأساسية تترتب عنه انعكاسات صحية واجتماعية وسياسية، وضمان ذلك يعني توفير مناصب شغل جديدة، ومحاربة الفقر وتأمين الاستقرار، وتجفيف منابع الأموال التي كانت تصرف علي ملفات صحية مرتبطة بالتداعيات الناجمة عن سوء التغذية مثلا من النقاط الأساسية التي تقتضي من السلطات المعنية النظر في غذائنا المستورد ذي البعد الاستراتيجي منه على الخصوص، لما لذلك من دور حاسم بصيغة من الصيغ في انجاح مخططات واستراتيجيات التنمية الفلاحية والقروية ببلادنا، هو أن مضاعفات الحفاظ و قلة التساقطات بسبب الزيادة في درجة الحرارة المفترضة استقبالا، ستكون لها انكاسات سلبية علي موارد المغرب المائية السطحية منها والجوفية تتجلى بعض مظاهرها الأساسية في إمكانية تقلص حجمها بنسبة تتراوح بين 15 و20% في أفق 2030، وهو ما يعني في المجمل بأن عملية استيراد المواد الغذائية الأساسية مثل القمح قد تزداد بالنظر للحاجة، وهو ما قد يفضي إلى تعقيد إشكال الأمن الغذائي، إذا لم يتم من الآن استباق الأمور والبحث في كل الاجتماعات والسيناريوهات التي قد تحقق نهضة فلاحية (تسير بالموازاة مع المشاريع التنموية الأخرى) تقينا من تبعات و عواقب استمرار استيراد المواد الغذائية، إن اجتماعيا، أو اقتصاديا، أو سياسيا، وتضمن الأمن الغذائي الذي صنفت دراسة المندوبية السامية للتخطيط أهميته الاستراتيجية في معادلة ثلاثية الأبعاد (ضمان الشغل ومحاربة الفقر، وتأمين الاستقرار، ذلك أن أزمة المواد الغذائية الأساسية ومنها القمح تكون من نتائجها البديهية إثارة الفلاحة والاضطرابات وما قد يتولد عنهما: وهنا لا مناص من التذكير بأن الدراسة الاستراتيجية لثلاثين سنة القادمة لم تستبعد امكانية حدوث أزمة غذائية في حالة عدم تبني تصور استراتيجي فلاحي شمولي يأخذ بعين الاعتبار كل التحديات والمعيقات والاكراهات والمتطلبات الغذائية المتطورة وكذا الجانب السياسي المرتبط بتأمين المناعة عبر ضمان وتقوية الأمن القومي في بضع مظاهره الأساسية المتمثلة في توفير المواد الغذائية الاستراتيجية، وهو الجانب الذي أوضحه بشكل دقيق الأستاذ فهمي هويدي في أحد كتبه المرتبطة بالأمن القومي بمنطقة الشرق الأوسط، حيث أكد علي علاقة العديد من الملفات الاجتماعية والاقتصادية بموضوع الأمن القومي منها الأمن الغذائي والتنمية في شموليتها وغيرهما. فألا تشكل الحاجة أم الاختراع كما يقال، وألا يمكن أن تشكل الحاجة إلى طعام إضافي نسد به رمق الملايين من المغاربة حاضرا ومستقبلا حافزا أساسيا للبحث عن مختلف الوسائل والامكانيات المتاحة من أجل سد النقص الحاصل وربح من تم رهان الأمن الغذائي الذي لا يمكن لأحد أن يجادل في أهميته البالغة على مختلف المستويات؟ المعطيات المستقاة من الأرض، والمعلومات والافادات المستوحاة من التقارير الرسمية والدراسات.. والأبحاث العلمية الرسمية والمستقلة كلها تجمع على أن المغرب يتوفر على قدرات فلاحية هائلة قد تفضي الى تحقيق أي مشروع غذائي فلاحي له بعد استراتيجي أو غيره. لكن شريطة رسم مخطط استراتيجي وطني شمولي ذي أهداف بعيدة المدى.