كما قد يكون الكلام وسيلة لإخفاء الأفكار ، كذلك قد تكون المدرسة وسيلة للحيلولة دون التفكير . وذلك لأنها غالبا ما تخلط بين الوسيلة والغاية. وتجعل التلاميذ يتعلمون الحلول بدلا من البحث والتقصي بأنفسهم. وعوض أن تنتج المفكرين المستقلين الذين يبنون فهمهم للعالم على أساس محاكمتهم العقلية وقدرتهم على التفكير فلسفيا أو تاريخيا أو اقتصاديا ........الخ .تنتج العقول الخاملة غير قادرة على التفكير والتي يردد أصحابها ما قاله الاخرون من تصورات فلسفية أو أحداث تاريخية أو نظريات اقتصادية ، ولا ينجح فيها إلا من كان أكثر قدرة على الحفظ والاستظهار ، والمتمثل لقيمها المحافظة، وأشكال تقويمها الاسترجاعية. رغم تعالي صيحات منظري البيداغوجيات الحديثة وتأكيدهم على ضرورة التمركز حول المتعلم وانبناء المعرفة والنظرة الايجابية للخطأ واعتبارهم للخصوصيات الفردية والتعلم عن طريق الخبرة ، والانطلاق من وضعيات حقيقية مماثلة لما يمكن أن يصطدم به في الواقع الفعلي ، وضرورة تجاوز أشكال التقويم التقليدية واعتماد التقويم التكويني والذاتي وجعله من مرتكزات العملية التعليمية التعلمية، إلا أن فاقد الشيء لا يعطيه. فيصعب على المدرس الذي تكون على شكل معين من التدريس وراكم عبر مساره المهني عادات تدريسية أصبحت جزءا من ذاته المهنية أن يتخلى عن هذا المكتسب وحتى إن اقتنع بعلمية وفعالية الطرائق الحديثة يصعب عليه أن ينظر بعين نقدية إلى ممارساته ويجعل من النظريات المعتنقة هي الممارسة الفعلية . من بين المرتكزات الأساس التي لا تخلو منها أية ممارسة بيداغوجية ، الأسئلة الصفية والتي يمكن أن تكون أداة لتغذية راجعة من خلالها يقف المدرس على مستوى تلاميذه وتفاعلهم وأخطائهم ويستطيع أن يعدل من سلوكه ويطوره أو وسيلة للاجترار وإعادة الانتاج . فما هي الأسئلة الصفية ؟ وما أنواعها ؟ وما خصوصيات السؤال الجيد وكيفية توظيفه ؟ تم ما هي أهم الإرشادات التعليمية التي يمكن توجيهها للمدرس لرفع كفاية تعامله مع الأسئلة الصفية لتطوير أدائه البيداغوجي من جهة وتعليم تلاميذه روح المبادرة والفكر النقدي من جهة ثانية . « الأسئلة الصفية هي أفعال تلفظية يقوم بها المدرس كتابيا أوشفهيا لإدارة الحوار بين التلاميذ أوتعزيزتفاعلهم أواختبارتعلمهم أو إكسابهم معارف جديدة ...» (1) فالأسئلة داخل الفصل الدراسي يمكن أن تكون كتابية أوشفاهية أو حتى عملية تطبيقية توظف حسب الهدف من طرحها. فإما أن تكون وسيلة لتغذية راجحة يتأكد المدرس من خلالها من درجة تحقق الهدف أو درجة نماء الكفاية ( أسئلة الوضعية) أو توظف لتعزيز التفاعل بين المتعلمين وإدخالهم في حوار بيداغوجي يكتشفون من خلاله استراتيجيات تعلم وسيرورات ذهنية جديدة فينظرون إلى الموضوع من زوايا أخرى ويفهمون كيف وصل النظراء الى النتيجة أو لماذا استعصى عليهم ذلك ؟ قبل تقديم بعض التصنيفات التي تتوضح من خلالها أنواع الأسئلة وخصوصيات كل نوع ، نفضل أن نقف أولا على وظائفها باعتبار أن الوظيفة من المرتكزات الأساس التي اعتمدت في الكثير من التصنيفات . يمكن التمييز بين خمس وظائف للأسئلة (2) : 1 – أسئلة التطوير : تقدم بتراتبية معينة وتستهدف تطوير المتعلم نحو الهدف المحدد أو المنتوج المنتظر . 2 – أسئلة الضبط : تطرح للتحقق من المكتسبات ومن الفهم . 3 – أسئلة المساعدة : وهي الأسئلة الملائمة والمساعدة للتلميذ . 4 – أسئلة اعادة الإكتشاف : وهدفها استخراج معلومات جديدة من التلميذ ومساعدة الذهن على الوضع ( التوليد السقراطي ). 5 – أسئلة الإنتاج : وهي تلك التي تضع التلميذ في وضعية الإبداع والإنتاج الشخصي . هذا بشكل عام ، وإذا أردنا أ، نكون أكثر اجرائية فإن طرح الأسئلة داخل الفصل الدراسي لابد أن يخدم أحد الأهداف التالية : - استرجاع واستعادة معلومات وحقائق ومفاهيم سبقت معرفتها. - إثارة الاهتمام وحب الاستطلاع حول فكرة معينة أو موضوع ما. - تشخيص الخبرات والمعلومات والوقوف على تمثلات وآراء المتعلم في موضوع الدرس . - تشخيص الصعوبات التي يواجهها التلاميذ في الدرس . - اثارة الحوار والمناقشة . - تشجيع المشاركة الصفية والتفاعل خاصة لدى الخجول أو المتردد . - دفع المتعلمين للتفكير وإثارة العمليات الذهنية الهادفة للتحليل والتركيب والملاحظة والمقارنة والاستنتاج....الخ. ورغم تعدد التصنيفات التي تعاملت مع الأسئلة الصفية إلا أنه وبناء على ما سبق ، يمكن تبني تصنيف عام وشامل يقوم على ثلاثة معايير أساسية (3) يمكن تلخيصها في الخطاطة التالية : والتي بدورها يمكن اختزالها إما في أسئلة تثير التفكير وتنشط العمليات العقلية وتنمي روح المبادرة، أو أسئلة تعتمد الذاكرة وتتعامل مع المضامين كحقائق ثابتة لابد من حفظها وإعادة انتاجها. الاولي ندرج فيها أسئلة الاكتشاف التي تدفع التلميذ ليكتشف ، وأسئلة التقييم التي تعطي للتلميذ فرصة لتقديم وجهة نظره حول الفكرة المطروحة والأسئلة المجردة التي تعتمد على تحريك النشاط الفكري المجرد للتلميذ حول تصور أو مفهوم . والثانية نضمنها أسئلة الاختبار والتشخيص والتي تسعى الى معرفة مدى تمكن التلميذ من المكتسبات السابقة وأسئلة الذاكرة التي تتوجه الى المخزون المعرفي للتلميذ والأسئلة الحسية التي تبقى في حدود الحسي والمشخص لتقريب وتبسيط الأفكار للمتعلمين . أما أسئلة التحويل فهي وسط بينهما يمكن أن تستثمر في هذا الاتجاه أو ذاك كما يمكن أن تسبر أغوار النشاط المعرفي للمتعلم وتجعله يقف على سيروراته الذهنية وخصوصياتها وحدودها . وتقدم M .Altet تصنيفا يراعي هذه الخصائص لكن بتسميات مختلفة وبالتركيز على جوانب محددة .حيث تميز بين ثلاثة نماذج من الأسئلة (4) . * الأسئلة المغلقة : وهي التي تستدعي جوابا واحدا وهو المنتظر من طرف المدرس والصحيح بالنسبة إليه، لينتقل إلى السؤال الموالي . فهذه الأسئلة مرتبطة بالمضامين المدرسة والأهداف المحددة وليس للتلميذ فيها أية مبادرة أو حرية اختيار . فما عليه إلا أن يخمن ما يريده المدرس والذي قد يترك جانبا بعض الاجابات الصحيحة لأنها لا تعبر عما يريد بالضبط أو ليس هذا ما قاله .....فيقدم بنفسه الجواب المنتظر . * الأسئلة المفتوحة : هذا النوع يصلح لإثارة تفكير المتعلم ودفعه الى البحث الشخصي والتعبير الحر ، كما يمكنه من تقديم وجهة نظره والتعبير عن أفكاره ومشاعره بالنسبة للمضامين المقترحة أو المفروضة من طرف المؤسسة . * الأسئلة الموجهة : وعبرها يعمل المدرس على حمل تلامذته على التفكير في استراتجيات تعلمهم ( كيف حصلت على ذلك ؟ اشرح .....) هذه الأسئلة في الغالب ما تكون موجهة الى تلميذ بعينه خلافا الى تلك الموجهة الى الفصل بأكمله .ومن خلالها يصاحب المدرس التلميذ في عملية تفكيره ويساعده على الوعي مثلا بأنه لم يجب بعد على السؤال المطروح أو أنه لم يقم إلا بجزء من المهمة المطلوبة...... أي يوضح للتلميذ ما يقوم به بالفعل . ورغم تأكيد المدرسين على أن الطريقة الحوارية هي أفضل طريقة لدفع التلاميذ الى التفكير والمشاركة وادعائهم بأنهم يستثمرونها في كل مراحل الدرس – في بداية الحصة وتكون غايتها الكشف عن الخبرات السابقة لدى المتعلمين من اجل استثمارها وتعديلها وتوفيرها إن كانت ناقصة .أو أثناء الشرح وغايتها ضمان مشاركة التلاميذ واستمرار دافعيتهم وكذا إعطاء تغذية راجعة للمدرس عن مدى استيعاب وتفاعل التلاميذ .وفي نهاية الحصة بهدف تلخيص ما تم تدريسه وتوجيه أنظار المتعلمين إلى الأجزاء الهامة من المادة التي عليهم التركيز عليها – إلا أن المحلل لمضمون التفاعلات الصفية يستنتج ألا شيء من ذلك يحدث . وأن الأسئلة تخدم المدرس في بناء خطابه انطلاقا من إجابات التلاميذ أكثر مما تخدم التلاميذ ، وأن الحوار البيداغوجي هو شبه حوار لأن المدرس هو الذي يطرح السؤال وهو الذي يأخذ المبادرة ويدير التفاعلات . بل لقد لوحظ من دروس مسجلة (5) أنه كلما كثرت الأسئلة كلما كانت الاجابات قصيرة وموجهة وغير مفكر فيها . فالمدرسون في الغالب لا يميزون بين أسئلة التقويم وأسئلة التعلم والتي يجب أن يهتم فيها المدرس أكثر بالأجوبة الخاطئة عوض الصحيحة (6) مادام هدفه هو إقدار التلاميذ على التمييز بينهما خاصة إذا كانت الأخطاء منتظمة أو دالة . كما يمكن ملاحظة أن المدرسين لا يعطون الفرصة والوقت لحمل التلاميذ على التفكيرولا يشجعونهم على طرح الأسئلة ولا ينتبهون الى ان ما يستدعي التفكير حقيقة هي أسئلة التلاميذ وليس دائما تلك التي يطرحها المدرس . فأسئلة التلاميذ هي احدى الركائز المؤسسة للحوار الحقيقي والتواصل الأًصيل بين المعلم والمتعلم . إن نجاح التدريس رهين بالتواصل ، والتواصل رهين بالتدرب على أصول صياغة الأسئلة الصفية وطريقة تنفيذها وأوجه الاستفادة منها . وهذه بعض الاعتبارات التي لابد للمدرس من مراعاتها عند التعامل مع الأسئلة الصفية : * على العموم أسئلة المدرس يجب أن تكون من النوع الذي يثير مشكلات تحتاج الى حل وتتحدى عقول التلاميذ وتحفزهم للعمل والمشاركة أو على الأقل من النوع الذي يوظف المكتسبات السابقة في سياقات جديدة وليس من النوع الذي يقف عند حد الاستظهار والحفظ. * من الواجب ألا يحصر المدرس أسئلته في جماعة محددة من المتعلمين الأقوياء أو الضعفاء .لأن المدرس الحاذق هو الذي يستطيع توجيه أسئلة من مستويات مختلفة بحيت تكون كلها هادفة ومفيدة ويكون فيها نصيب من التحفيز للطالب القوي مثل ما هو للمتوسط والضعيف . * إن التعامل مع ما يتلقى المدرس من إجابات لا يقل أهمية عما يطرحه من أسئلة فعليه أن يتقبل الإجابات الصحيحة ويعمل على تعزيزها ويعمد إلى تقويم الإجابة الخاطئة بأسلوب لا ينفر منه التلميذ أو يشعره بالضيق أو النقص لأن المهم هو أن نتحرى مكمن الخطأ في الإجابة ومعرفة أسبابه لتلافيه . * ينبغي إعطاء الوقت وإتاحة الفرصة للتلاميذ للتفكير قبل الاجابة وعم السخرية من الاجابات فلا بد أن تكون الأسئلة تربوية بمعنى أنها وسيلة للتفكير والنمو وليست أداة للإرهاب . كما أنه من المهم أن يشجع المعلم التلاميذ على أن يسألوا بدورهم . فلعل هذا النوع من الأسئلة هو أفضلها لكن عليه في الوقت نفسه أن يحذر سوء استخدامهم لهذه الطريقة حتى لا تكون وسيلة لضياع الوقت والخروج عن الموضوع .» وإلقاء الأسئلة فرصة نادرة لتعلم اداب الحديث والإنصات والمناقشة واحترام الرأي «(7) * ألا يقف عند حدود الأسئلة العرضية التي يطرحها حسب ظروف الموقف . بل يهتم بالأسئلة التي تعد بشكل مسبق وتخدم هدفا ما « وأن يراعي في هذا النوع ألا يخرج مضمون السؤال عن الهدف المحدد له ، وأن يكون الهدف من السؤال واضحا في ذهن المعلم قبل طرحه على المتعلمين «(8) بالطبع لا يمكن التعامل مع هذه التوجيهات باعتبار أن كل أسئلة المدرس يجب أن تكون من النوع الذي يدعو إلى التفكير ونقصي الحفظ ونقول ألا أهمية للذاكرة.بل لا بد من خلق توازن بين جمع المعطيات وتبيين ما بينهما من علاقات وإكسابها معنى والقدرة على تعبئتها واستخدامها في مواقف جديدة لأن الذهن لا يمكن أن يفكر إلا اعتمادا على بيانات متحكم فيها « فلا تفكير لمن لا معطيات له كما أنه لا إدماج لمن لا موارد له « فعلى المدرس في توجيهه لأسئلته أن يستثمر كل مراحل معالجة المعلومات التي يقوم بها التلميذ – كما يفيدنا بذلك علم النفس المعرفي المستفيد بدوره من الذكاء الاصطناعي – والتي يمكن تلخيصها في الخطاطة التالية : فتكون أسئلته في مرحلة المدخلات ترتكز على استحضار المعلومات التي يحتفظ بها التلاميذ في الذاكرة القصيرة أو الطويلة المدى أو تدعوهم لاستخدام حواسهم لجمع الحقائق والمعطيات .. كل ذلك بهدف إقدارهم على جمع البيانات وتذكرها لتمكينهم من تعريف الأشياء ووصفها وتحديدها وترتيبها ...الخ. وفي مرحلة العمليات فتستهدف أسئلته إعطاء البيانات معنى في طريق المقارنة بين المعلومات الجديدة وما يعرفه واستخلاص العلاقات بينهما . وذلك بهدف إقداره (المتعلم) على التصنيف والتفسير والاستدلال والتمييز والمقارنة والتلخيص .... وغير ذلك من العمليات . أما في مرحلة المخرجات والتي تستهدف تطبيق هذه المعلومات على مواقف جديدة أو افتراضية وتقييم ما قام به المتعلم : فيجب أن تنصب الأسئلة على الحكم والتعميم والافتراض والتقييم ... المراجع : 1 – عبد الكريم غريب « المنهل التربوي معجم موسوعي في المصطلحات والمفاهيم البيداغوجية والديداكتيكية والسيكولوجية « الجزء الثاني . منشورات عالم التربية مطبعة النجاح الجديدةالدارالبيضاء الطبعة الاولى 2006 ص: 798 . 2- Marguerite Altet ( la formation professionnelle des enseignants ). P.U.F. 1 ere édition paris 1994 P : 116 3 – عبد الكريم غريب “ المنهل التربوي “ مرجع سابق ص : 799 4 –Marguerite Altet ( la formation professionnelle des enseignant) ibid. P : 114 5 –Marguerite Altet .... Ibid P : 112 6 – J.P Astolfi économie et management n° 128 juin 2008 Article “ le questionnement pédagogique “ 7 - إبراهيم عصمت مطاوع وواصف عزيز واصف “ التربية العلمية وأسس طرق التدريس “ دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت 1986 ص . 29 . .8- محمد عبد الرحيم عدس “ المعلم الفاعل والتدريس الفعال “ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع عمان 2000 ص: 203 9 – صفاء يوسف الأعسر “ التعليم من أجل التفكير “ دار أنباء للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة 1986 ص : 18 .