حين ننبش في ذاكرة المختار الملالي فإننا نفتح كتابا من مئات الصفحات حول المسرح المراكشي والمغربي، تستمع إليه لساعات طوال دون ان تمل.. يستحضر تلك التفاصيل الصغيرة والكبيرة عن أبي الفنون.. من مؤسسي فرقة كوميديا الشهيرة، ألف الكثير من الأعمال المسرحية.. وشارك في العديد منها كممثل ، مارس الإخراج المسرحي.. أستسمح القارىء، فضيفنا أكبر من أن يختزل مساره الفني في هذا الاستهلال، نستضيفه اليوم ليتحدث لنا عن القاعات السينمائية بمراكش منذ الستينيات من القرن الماضي وعن الكثير من الطقوس التي عرفتها.. أية علاقة بين المواطن المراكشي والسينما؟ المراكشي في الماضي كان يرتاد القاعات السينمائية مرتين او ثلاثة في الأسبوع و إذا كان لديه الوقت فقد يتجاوز ذلك لثلاث أو أربع مرات لكن يمكن أن يخرج في فترة الاستراحة أو ما يسمى ب»لانتراك» آنذاك كان ما يسمى ب «برتي جورنال» أي القسم الإخباري الذي يقدم قبل بداية الفيلم أو أثناء الاستراحة في منتصف الفيلم، وهي فترة تسمح للمشاهدين لقضاء حاجتهم أو لتناول وجبة سريعة أو مشروب ما، في تلك اللحظة يتسلموا ورقة من الحراس تمكنهم من العودة إلى القاعة بعد الإدلاء بها، وهناك من المشاهدين من ليست لديهم الوقت لمواصلة المشاهدة فيذهب بتلك الورقة إلى الغد لمواصلة المشاهدة.. وهناك من يبيع «لانتراك» بنصف ثمن التذكرة وبالتالي تصبح الفرجة بأقل ثمن، أي أن ورقة الاستراحة يدخل بها من لم يخرج بها.. لحظة الاستراحة هذه كان التلاميذ من أطفال المدارس يستغلونها «أو كايتزرعو» كما نقول نحن المراكشيين قصد الدخول إلى القاعة وغالبا ما يتم اكتشافهم ليتلقوا علقة من العصا بدل الفرجة.. هناك ظاهرة كذلك ، كانت في مدينة مراكش والمتمثلة في إشهار من نوع خاص، أي وضع ملصق فيلم معين على عربة يدوية ويتم الحوم بها في الدروب والأحياء وبواسطتها تعرف الساكنة عنوان الفيلم وتاريخ عرضه والقاعة التي ستعرضه، حدثنا عن ذلك.. في تلك الفترة ليس هناك وسائل إعلامية بالشكل العصري الذي نعرفه اليوم، وبالتالي كانت العربات اليدوية المدفوعة من طرف أشخاص يتجولون بها عبر الحارات والأزقاء والأحياء هي الوسيلة الإعلامية التي تمكن الساكنة من التعرف على نوعية الأفلام التي تعرض في مختلف القاعات وتاريخ عرضها، هذا يتيح لأي شخص اختيار القاعة والفيلم والتاريخ الذي يريد، وكان التنافس على أشده بين القاعات من خلال هذه الوسيلة التي لم يعد لها اثر اليوم حيث ماتت ومعها ماتت القاعات السينمائية كذلك.. إذن كان هناك تنافس بين القاعات آنذاك؟ أي نعم، التنافس كان حمي الوطيس بسبب الإقبال الكبير علي العروض السينمائية، إلى درجة أن القاعات لم تعد لتكتف بفيلم واحد، بل تعرض فيلمين في حصة واحدة تفصل بينهما فترة الاستراحة «لانتراكت» التي يعرض خلالها كما أسلفت شريط إخباري مصور حول الأحداث التي عرفها المغرب خلال الأسبوع والمرسل من وزارة الأنباء والمنجز من طرف المركز السينمائي المغربي.. وهذا أيضا يتيح للكثيرين أن يكتفوا بفلم واحد وعند الاستراحة يبيعون «لانتراكت» لشخص أخر وهو ما يشجعهم في الأسبوع المقبل، إنه اقتصاد من نوع خاص.. الأستاذ المختار الملالي، هل يمكن أن تحدثنا عن القاعات التي كانت بمراكش منذ منتصف القرن الماضي ، وما الذي تبقى منها؟ على ما حكى لنا الأسلاف ، فأهل مراكش استمتعوا بالفرجة السينمائية من خلال سينما « إيدن» في الهواء الطلق بساحة «القزادرية» بباب الملاح، بعد ذلك تم تحويلها إلى حي القنارية، وأصبحت سينما «إيدن» تسمى عند العامة بسينما القنارية، وستظهر سينما أخرى غير بعيد منها بحي درب ضباشي حيث تحول مقهى الشاميات إلى سينما غزالة، بعدها تم إنشاء سينما مبروكة بباب أكناو والتي ماتزال إلى اليوم، وكانت عبارة عن «جراج» يستعمل كمستودع للخشب والفحم، ومن خلف هذه السينما هناك سينما الأطلس، التي أغلقت منذ سنوات، تم جاءت سينما الزهرة بعرصة الحوتة وكانت تشتغل فقط في الصيف،أي من بداية شهر ماي إلى حدود شهر أكتوبر لأن عروضها ليلية وتتم في الهواء الطلق قبل أن ينشيء صاحبها سينما أخرى محادية لها تحت إسم «الحمراء».. وكانت سينما مرحبا قد تأسست بحي باب تاغزوت وبعدما توسع حي سيدي يوسف بن علي وارتفع نموه الديمغرافي تم إنشاء سينما الهلال، ثم سينما السعادة بدوار العسكر، لتليها سينما موريطانيا بحي القصبة بالمدينة العتيقة، وبحي الرميلة تحول «جراج» لصناعة هياكل الحافلات كان يملكه شخص يدعى السي عبد الله الشرايبي وهو من الشخصيات المعروفة بحي القصور، إلى سينما أطلق عليها إسم «الفتح»، إذن هذه هي القاعات التي كانت بالمدينة والهوامش، وسننتقل إلى الحي الراقي أو الحي الفرنسي، حي جليز، هناك كانت سينما بلاص أو مسرح بلاص، وبتماس معها هناك سينما لوكس، وأذكر أننا كنا طلبة بثانوية محمد الخامس، وكان الأساتذة يمنحوننا دعوات لحضور أنشطة الأندية السينمائية المكونة بالأساس من أساتذة ثانوية بن عباد وأساتذة محمد الخامس، والتي كانت تنشط بكثرة في هذه السينما وتحضرني الآن بعض الأسماء من أمثال، الكاتب «جون أوريو» وجون بيرجي و دولالوا، وغيرهم، هؤلاء حببوا للشبيبة المراكشية الثقافة السينمائية وكيف يمكنهم تقييم الأفلام ونقدها كاول نواة للنقد السينمائي بالمدينة الحمراء.. بعد ذلك كانت بنهاية شارع محمد الخامس سينما «الريجا « تم سينما «الروكسي» بشارع يوغوسلافيا قبالة مقر الإذاعة الجهوية والتي بدورها تقدم عروضها فقط في الهواء الطلق، والجميل أن كل النوافذ في العمارة المقابلة تتحول في الليل إلى شرفات يتفرج منها السكان على العروض السينمائية التي تقدمها هذه القاعة، وأذكر أنني كنت أقصد صديقا يكتري شقة في عمارة تطل على سينما الروكسي وكنا نجلس على كرسيان بجانب النافدة لنستمتع بفرجة سينمائية ممتعة، نفس هذه الظاهرة تعرفها سينما إدن بالقنارية بالمدينة العتيقة، فهذه السينما تملك ساحة فسيحة في الهواء الطلق ونظرا للحرارة التي تعرفها مراكش في الصيف ونظرا لغياب مكيفات الهواء فمسؤولو هذه القاعة يحولون العروض إلى هذه الساحة كنت أقطن بدرب سيدي بوالفضيل وبالضبط في الرياض الذي سيقطنه فيما بعد الكاتب الإسباني الشهير «خوان كويتسولو» وكل السطوح المجاورة للسينما تتحول إلى مهرجان احتفالي حيث تفرش هذه السطوح بالزرابي ويتم إعداد الشاي والطواجين والطنجيات ومن هناك يتابعون العروض السينمائية التي تقدمها سينما القنارية.. سينما بالاص أيضا تقدم عروضها في الصيف في الهواء الطلق.. وسنعود للقاعات السينمائية بحي جليز لأذكر سينما قليللون هم من يعرفونها إنها سينما «باري» كانت في المكان الذي توجد به حاليا محطة للوقود بشارع الزرقطوني غير بعيد عن مقهى التجار، وكانت أيضا تقدم عروضها وفي الهواء الطلق.. لن أنسى أن بحي الداوديات تم إنشاء سينما الريف تم بعدها سينما المسيرة.. ماهي علاقتكم كمسرحيين بهذه القاعات ، علما أن مراكش كانت تفتقد للمسرح في السابق؟ قليلون أيضا من يعرفون أن بجنان الحارثي كان هناك مسرح بلدي، وقاعة الزجاج مجرد جزء منه، هذا المسرح الذي عرض فيه يوسف وهبي انهار نتيجة انفجار غير مقصود لقنينة غاز.. ولم يحظ بعناية المسؤولين حيث بقي مهملا لسنوات إلى أن اندثر وهو المصير الذي عانه المعهد الموسيقي أيضا.. إذن تم القضاء على مركب ثقافي متكامل وكنا كجمعيات وجهنا العديد من الرسائل والنداءات منذ 1965 ولكن لا حياة لمن تنادي.. فما الذي بقي لنا كمسرحيين؟ طبعا وجدنا في مسرح سينما بلاص المكان الأفضل والأنسب باعتباره يتوفر على الشروط المهنية من خشبة وغرف الممثلين وقاعة التداريب وأروقة الكواليس ناهيك عن كل الآليات التقنية من إضاءة وصوت وبشروط احترافية متقدمة..وهناك كانت تقدم فرقة أصدقاء المسرح الفرنسي التابعة للكوميديا الفرنسية عروضها.. قبل أن تقوم بجولة عبر المغرب، وكان الأساتذة يأتوننا ببطائق الإنخراط الخاصة بمسرح السينما ليبعوها في الثانوية بنصف الثمن وهذه البطائق تمكننا من تتبع ست مسرحيات في العام بهذا المسرح.. على العموم فمسرح سينما بلاص كان يستقبل الكثير من العروض المسرحية المحلية والوطنية وهذا يعرفه الطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج وغيرهم ممن قدموا عروضهم بهذا المسرح.. هل يمكن أن تحدثنا عن بعض العروض المسرحية الشهيرة أو بعض النجوم المتألقة في عالم المسرح والتي عرضت بمسرح سينما بالاص؟ لابد أن تعلم أن مسرح سينما بلاص كان مجهزا بشكل احترافي وكل الفرق الأجنبية التي تأتي إلى مراكش تقدم فيه عروضها، ومن الأسماء الشهيرة أذكر عمر الحريري، أمينة رزق في مسرحية «مجنون ليلى» في الستينات، ناهيك عن الفرق الفرنسية وكذا فرقة الشبيبة والرياضة والفرقة الوطنية، وفرقة الصديقي، مسرح سينما بالاص عرف نهضة مسرحية متميزة منذ الستينات إلى بداية الثمانينات لكن هذه الطفرة ستعرف ركودا فيما بعد... ما هي الطقوس التي كانت تصاحب المراكشيين في علاقتهم مع السينما؟ بالنسبة للأسر الشعبية والتقليدية أو بعبارة أصح الحرفيين الذين يعتبر يوم الجمعة هو يوم عطلة بالنسبة لهم، فإنهم يفضلون ارتياد القاعات السينمائية بعد زوال يوم الجمعة أما الموظفين والنخبة المثقفة فيوم السبت هو اليوم المفضل، أما نحن فنخرج من النادي ستة أوسبعة أصدقاء قصد متابعة فيلم له جاذبية خاصة، عندها كانت بالفعل تحف سينمائية لا يستطيع الفرد أن يصمد أمامها لتستقطبه.. كنا نذهب وكأننا مدعوون لمأدبة ما، وطبعا قبل الدخول نتناول عشاء جماعيا في مطعم أو على الأقل نتناول «سندويتشا» خفيفا قبل ولوج القاعة السينمائية التي نلتزم فيها الصمت والمتابعة الدقيقة لمجريات الفيلم دون الاكتراث لتصرفات بعض المتفرجين ممن يحلوا لهم إطلاق العنان لصفير أو النطق بكلمة قد تضحك القاعة بكاملها أحيانا في انسجام مع مجريات الشريط، وعند الخروج من القاعة السينمائية نكون مشبعين بنوع من النقاش الجاد حول جوانب كثيرة من الشريط الذي تابعناه وما الذي أعجبنا وما الذي لم يرق لنا، وأحيانا نكمل هذا النقاش بمقاهي ساحة جامع الفناء، مقهي السربون أو مقهى «ماطيش».. ويطول بنا الحديث عبر سهرة تتميز بالنكتة وخفة دم أو كما يقول المراكشيون «شدان القشاشب».. أما بالنسبة لأصدقائي في الجمعية كالسي عبد الله الزيادي شفاه الله، السي عبد الكريم بناني، السي عبد الله المصابحي رحمه الله، تم بعدها انضمت لنا مجموعة أخرى كالسي عبد الجبار بلوزير ومحمد بلقاس رحمه الله، نلتقي أحينا دون سايق دعوة في القاعة السينمائية، وبعد الخروج نواصل اجتماعنا في احتفالية خاصة. الأستاذ المختار الملالي هل يمكن أن تحدثنا عن رموز سياسية أو ثقافية كانت لها علاقة خاصة بالقاعات السينمائية بمراكش؟ الواقع أنه بالنسبة لي لم أتذكر الكثير، غير أنه كان معلوما لدينا أن أسماء لها رمزيتها السياسية والوطنية والثقافية كانت تدفع بالفعل الثقافي ومن ضمنه السنمائي كواجهة لتوعية الجماهير، كمولاي عبد الله إبراهيم، وعبد القادر حسن، والعاصمي، ومجموعة من الوطنيين الذين كان لهم اهتمام بالثقافة والسينما كالسي الحبيب بن موح والسي الحبيب الغيغائي الفرقاني وغيرهم ممن ساهموا في تكوين أجيال مشبعة بعمق ثقافي مفعم بحب الوطن، وبالتالي خلق تقاليد ثقافية رصينة من ضمنها المسرح والسينما كواجهة أساسية للرفع من مستوى الوعي لدى الجماهير.