مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دموع باخوس «رواية حداثية بصوتين»

تؤكد لنا رواية محمد أمنصور الموسومة ب»دموع باخوس»أن الإنتاج الروائي هو رهان على الأسلوب والموضوعة واللغة،وأن الروائي الموهوب هو الذي يستطيع الخروج عن السائد والمألوف لابتكار قواعد لعبة كتابة جديدة،تجعل القارئ ينجذب إلى حقيقة القضية المعالجة وحقيقة الرواية التي لا تقيدها طابوهات أسلوبية أو تنظيرية.
يبدأ فعل الانجذاب من الحدث الرئيس الذي انطلق منه الكاتب،وهو سرقة تمثال باخوس من مدينة»وليلي».|وحول هذا الحدث تم استثمار حكايتين:حكاية السرقة وما ترتب عنها من مآسي بالنسبة «لأنور» وسكان قريته»فرطاسة». وحكاية « علاء» ومشروع روايته اللامكتملة.
بين هاتين الحكايتين يتموضع الانجذاب الثاني الذي يولد متعة القراءة من خلال ما يقترحه الكاتب محمد أمنصور من محافل سردية ولغات تعبيرية لدعم خطابه الفكري.ولبلورة هذا الخطاب، قسم عمله إلى ثلاثة أقسام: الوصية،منزل البهلوان والسر المحجوب،كما جعل كل قسم يتوزع على أربعة محكيات تحمل عناوين تؤشر إلى جغرافية الحكي أو تضاريسه.
إن هذا التقسيم وتفرعاته هو الذي سيخول للكاتب تحقيق تماسك على مستوى السرد،وبناء معمار رواية تتحدث فيها»أنا»: أي»أنور»باعتباره ساردا وموضوعا للحكاية التي يمكن تلخيصها كما يلي:
بعد سرقة تمثال باخوس،مات والد أنور تحت وطأة التعذيب الذي مورس عليه من طرف جهاز السلطة،كما تعرض بعض سكان قريته لنفس المصير.ولتحقيق الثأر لهم،رحل أنور إلى فرنسا للدراسة حيث حصل هناك على دكتوراه في علم التاريخ والأركيولوجيا.وإثر عودته إلى المغرب،ظل مقيدا بوظيفته في وزارة الثقافة وبالتحولات الجديدة التي عرفتها البلاد.وبعد مرور عامين،مات صديقه علاء في فرنسا بعد أن قاوم مرضه من خلال الانغماس في عالم العربدة والجنس.ومع ذلك،فقد انهمك في تأليف رواية لم يتمكن من إتمامها،ثم كلف صديقته»روزالي» بتسليم أطرافها الجاهزة لأنور لكي يقوم بذلك.
في موازاة هذا المحكي، هناك محكي آخر وهو مشروع رواية علاء»منزل البهلوان» وما تحقق منه على مستوى الكتابة.وفيه نطلع على قصة الأمريكية»شيلا» التي قررت السفر إلى المغرب لأخذ صورة تمثال باخوس تدعم بها أطروحتها التي أنجزتها حول حياة الرومان في وليلي.لكن حادثة انفجار الطائرة حال دون بلوغ هدفها.وهذا ما جعل «إميلي» تسافر إلى المغرب لتحقيق رغبة أختها الراحلة.وهناك تلتقي ب»إدريس» الموظف بمكتب البريد،والذي
سيقوم بمساعدتها في رحلة بحثها عن باخوس.لكنه وجد نفسه في علاقة غرامية معها انتهت بفراق بعد أن علمت «إميلي» أنه طلق زوجته»نعيمة».لهذا لم تلتزم بوعدها وهو العمل على الالتحاق بها في أمريكا.
هذا عن مشروع رواية»علاء».أما المحكي الثالث،فإننا نطلع فيه على المشاعر التي انتابت أنور تجاه صديقه علاء الذي اتخذ من سرقة باخوس مادة لروايته.وهو الموضوع الذي سافر من أجله»أنور» إلى فرنسا محملا بأحقاد الثأر لأبيه ولقريته.وفي غمرة السرد،نقف على شريط من الحياة السياسية في المغرب إبان سنوات الرصاص وما ترتب عنها من تحولات على مستوى العيش اليومي، والصحافة الجديدة، والمطالبة بتعويض الضحايا عملا ب»فلسفة طي»ماسبق؛كما نقف أيضا على ما آل إليه « أنور» من توترات نفسية قادته إلى التخلي عن الانتقام والتعويض،كما قادته إلى البوح ل»روزالي» بتفاصيل علاقته بعلاءوروايته،وارتباطه بمدينة «وليلي» وتاريخ الرومان.وفي المقابل،كانت «روزالي» تتحدث لأنور» عن نفسها وعن علاقتها ب»علاء» في باريس،وكذا عن الفن والجنس والكتابة وفلسفة العري.ثم تختفي فجأة بعد أن أصابته ب»الجنون الباخي» دون أن يدرك أسرارها.
* * *
بعد هذا التلخيص المقتضب لمحكيات الرواية،يمكن التأكيد على أنه من الصعب تقديم رصد كامل لتفرعات أحداثها،لأن بناءها مركب ومتداخل يعكس اختيار المؤلف محمد أمنصور وعلاقته بالأدب ناقدا،وكاتب قصة،وأستاذا جامعيا.ودون تردد،نرى أن البناء الذي اختاره لعمله هو»رواية داخل رواية» أو «رواية الرواية». وهو أسلوب متداول في أوروبا وأمريكا يجسد حداثة الرواية وما بعد حداثتها كما نلاحظ ذلك في بعض النماذج الروائية لدى جيمس جويس ( صورة الفنان في شبابه ) خوليو كورتزار ( ماريل) ميلان كونديرا (خفة الكائن اللامحتملة) يوستان غاردر (عالم صوفيا ) وغيرهم كثير.
وقد أطلق عليه تسمية « الميتا متخيل» أي شكل الكتابة السردية التي لها مرجعية ذاتية تكشف عن آلياتها الإبداعية الخاصة.وهو يوازي أسلوبا آخر سائدا في مجال المسرح.ونعني بذلك»الميتا مسرح»الذي يجعل الكتابة الدرامية تتحدث عن نفسها وبأساليب متفجرة،وساخرة في الغالب،كما يفصح عن ذلك الجنس المسرحي المعروف ب «المرتجلة».
وإذا عدنا إلى رواية «دموع باخوس»،فإن تصنيفنا لها في خانة «الميتا متخيل»يرجع إلى توفرها على بعض الفنيات:أولها تراكب روايتين في داخلها،وثانيا بروزها نصا أدبيا يتحدث عن الإبداع الروائي، والفن، والكتابة عموما.كما أنه يوحد بين الواقع والمتخيل من خلال تعدد الخطابات.إلا أن الحديث هنا عن الرواية لا يتخذ طابع التنظير كما هو الشأن مثلا لدى»ألان روب غريي» في روايته المعنونة ب»روائيات»،التي تحتوي على ثلاثة
نصوص متراكبة يرصد الأول منها سيرة ذاتية مختصرة «لألان روب غريي» منذ طفولته إلى التزامه ضمن مجموعة كتاب الرواية الجديدة في فرنسا،بينما يحكي الثاني عن قصة رجل غريب يدعى هنري دوكورانت.أما النص الثالث،فإن الكاتب يعرض فيه آراءه حول الفن والتاريخ والرواية على الخصوص.
* * *
على ضوء هذه الإشارة،نعود إلى القول بأن محمد أمنصور لا يريد أن يكون منظرا للرواية،وإنما يطرح بعض الآراء حول كتابتها في سياق السرد ومنطق تدرجه لدعم خطابه الروائي وأبعاده الثقافية والفكرية.لذا،فإذا كان»علاء»قد كتب رواية غير مكتملة عن سرقة باخوس،فإن»أنور» المتضلع في التاريخ والأركيولوجيا هو المحفز على كتابتها،لأنه كان يتحدث لصديقه عن الحضارة الرومانية وعلى تأثير العبقرية اليونانية فيها.إلا أن «علاء» كان يتظاهر بعدم الاهتمام بما يقوله إلى أن أقدم قبل موته على تأليف روايته.من هنا مصدر الكلام عن الرواية:
يقول «أنور» «أنا لست روائيا،أنا صديقك.أعرف أن الرواية بحر وأن لا أحد ينوب عن الآخر في تحقيق حلمه»
(ص . 9)، ثم يؤكد على لسان «علاء»:»إنها أي الرواية فن الاستحالة والحرية واللعب.وهي ما تبقى أمام العجز من قدرة وما يحققه الخيال من انتصار على الواقع،بل ما يؤكد أن الذي يحدث في الخيال قد يكون أهم مما حدث بالفعل في الواقع» ( ص . 127) و»أن لا وجود للممنوع فيها،وأن كل شيء مباح في عالمها...إلا الفوضى التي هي نتاج جهل بالواقع وتشويهه» يحول الرواية إلى «نوع من سلخ الجلد أو القتل العمد تحت غطاء حرية الكتابة أو حرية التخيل» ( ص . 128).
إن هذا الطرح لمفهوم الكتابة الروائية كثيرا ما يحضر في بعض الأعمال الروائية الأوروبية وذلك بطرق متعددة وحسب اختيار الروائيين،لأن الميتا متخيل يخول لهم الخوض،بوعي فني،في مناقشات حول مواصفات الإبداع الروائي وأهدافه وشروطه دون التقيد بأي نظرية جاهزة.وهذا ما فعله أنور حينما انتقد بعض مكونات رواية صديقه علاء،حيث أخذ عليه عدم استثمار خياله، وشدة اهتمامه بتحويل المسموع إلى مكتوب ( أي ما سمعه من أنور عن تاريخ الحضارة الرومانية):الشيء «الذي جعله يسقط في المباشرة التي لا تليق بعمل أدبي.لأن الكتابة لها حيلها ونزواتها الملغزة» ( ص . 192 ).
بتعبير آخر،إن هذه الحيل لا يمكن أن يدعمها إلا معمار متميز للإنتاج الروائي.وهذا ما دفع محمد أمنصور إلى طرح تساؤلات»أنطلوجية»حول الكتابة والفن، والرواية على الخصوص يقود سياقاتها منطق السرد.وهي في نظرنا تساؤلات تعكس في الغالب موقفه الصريح من الأدب ووظيفته.في هذا الصدد،يرى أن الروائي الحقيقي هو الذي يتوخى في عمله مصداقية الموضوع.يقول «أنور»لعلاء:
«عندما لا نكون على بينة من حقائق واقع ما ونصر على أن نكتب عنه،ألا نكون عرضة لتشويهه.هل تسمح الرواية لنفسها بقلب الحقائق وخلط الموجود بغير الموجود لا لشيء سوى لأنها رواية.في هذه الحالة ماذا عساها تكون الرواية.أهي فوق كل قانون بما في ذلك قانون الواقع» ( ص . 129)
إن هذه المصداقية هي التي قادته إلى كتابة روايته الأولى»المؤتفكة» ( سنة 2004 ) انطلاقا من قصة «مجنينا»التي اهتزت لها مدينة مكناس. وبعد مرور ست سنوات طلع علينا بروايته الثانية (التي نحن بصدد قراءتها).إن هذا الفارق الزمني بين العملين ليس اعتباطيا،وإنما هو اختيار وردت الإشارة إليه في نهاية الرواية على الشكل التالي:»إن الكتابة مواجهة مع الذات وفن البطء» ( ص . 286).
وهكذا،فإذا كانت»دموع باخوس»رواية الرواية،أو ميتا متخيل كما أشرنا إلى ذلك،فإن تأرجح حكيها الأساس بين «أنور» و»علاء» هو تأرجح فني يجعلنا ندرك أن هذه الازدواجية تؤشر إلى « ذات»واحدة، أي المؤلف محمد أمنصور.وهي طريقة فنية تساعدنا قراء على الغوص في باطنية عمله لاكتشاف علاقته بالكتابة، التي كانت بدايتها عندما كان تلميذا صغيرا،أي حينما كتب «أنور»إنشاء مدرسيا حول «المسيرة الخضراء» جعل منه ظاهرة عجيبة وميزه عن سائر التلاميذ في المغرب.إضافة إلى ذلك،هناك إشارة إلى تجذر فعل الكتابة في حياته وذلك حينما كان أنور يتحدث مع روزالي ( في أول لقاء معها) عن هواجسها وأحلامها تجاه علاء..:» لقد ظلت بالنسبة إليه أهم شيء في الوجود إن لم أقل حلم حياته المتمنع الذي يخشى أن يموت دون أن يتحقق.كان يبحث عنها ويعيشها خارج الورق.يركب مفردات أيامه والأحداث الجارية وفق منطق الكتابة لا منطق الواقع.يخالط الناس ويشتبك في التفاصيل اليومية بعقلية الكاتب الذي يكتب بجسده،لا بعقلية الكائن الاجتماعي الذي يعيش بين الناس» ( 74 / 75 ).
من الأكيد أن هذا الكلام يؤكد لنا أن محمد أمنصور قد كتب روايته بجسد جرحته الأحداث المعيشة في بلدنا.فاختار للتعبير عنها شكلا روائيا «حداثيا» يتميز بسرد ثري ومتراكب، تكفل به سارد عارف هو»أنور» الذي رسم محطات الحكي ورصد جزئياته، انطلاقا من حدث سرقة ( سرقة تمثال باخوس) انعكست جزئياته وأبعاده السياسية والاجتماعية من خلال ابتكارات أسلوبية متنوعة، تقوم على تسجيلات واعية للواقع وعلى استبطانات فكرية وثقافية تم استثمارها باعتبارها وسائل فنية، لإضاءة الموضوع المعالج والتركيز على جدته.
ويمكن الإشارة بدء إلى أن أهم أسلوب لجأ إليه الكاتب لبلورة هذا الموضوع هو اللغة العربية الفصحى الشفافة التي تخترق سياقاتها لغة تراثية سردية،كما تندس في نسيجها أحيانا كثيرة لغة عامية تغوص عباراتها في قاع الحياة اليومية وطرق تبلورها كما نلحظ ذلك في مشهد المنادي، الذي جعله الكاتب يقيم قضية تعويض ضحايا القمع والسياسة المتهورة: الطي أيها المواطنون الأعزاء، طيان:الأول يدخل في باب ثني الخلائق عن الاستمرار في معك الكلام عن الماضي والمقابر المجهولة،ومن قتل من إلى ما لا نهاية.والثاني:باب الضميس.أي ضميس الكارطا أو الضواسا لا فرق، فكلاهما سواء.ثم نجيبو دورة كاملين الله يرحم الوالدين.ونشوفو للكدام.نكولوا هادي هي المصالحة.كولوا معايا كاملين:هادي هي المصالحة.قرقبوا عليها سوارت الربح..واللي ما متافقش نعتبروه خارج الإجماع.ننخلوه آسيادنا حتى يفهم راسو باش يعرف أن المخزن هو المواطنة والمواطنة هي المخزن.وما يمكنش الكلمة ديال المخزن تطيح للأرض.فهمتوني آليخوان؟!!!» ( ص. 208 209).
إضافة إلى ذلك،تفيض الرواية بلغة شاعرية تدعم اللغات الأخرى وتساهم ( في مقاطع عديدة) في تحقيق التحام كبير بين الإحساسات الدفينة للسارد وبعض مواقفه في نطاق الحدث.يقول أنور متحدثا عن روزالي:»تشابكت أصابعنا ونظراتنا فطفح من عينيها حنان طارئ.حنان دافئ.حنان سخي لست أدري كيف أطفأ في جسدي التواق إلى الاشتباك الكلي لهيب الشهوات المجنونة.وللتو،أحسست بانكسار رهيب وغامض في أعماقي السحيقة لا عهد لي به من قبل.استمر تدفق الحنان الغامر في لمسات يديها وبريق عينيها وتواصل معه انكساري.فجأة رجتنا صحوة غريبة جعلت كل واحد منا يكتشف أنه صار شخصا آخر! كيف ارتطم ما اشتعل فينا من رغبات محمومة بصخور الحنان المهدئ للشهوة المستعرة؟لست أدري..لست أدري»( ص . 261).
* * *
إن هذا التداخل اللغوي هو الذي خول للكاتب خلق علاقة عضوية بين أشكال التعبير داخل البناء العام لروايته،كما خول له الابتعاد عن الأسلوب الروائي التقليدي.وبالتالي،فإذا كان ميخائيل باختين يرى « أن الرواية تساهم باعتبارها جنسا نقديا في تجديد أسس الأدب النثري والشعري المهيمن،فإن بإمكانها أيضا اللجوء إلى توظيف مواد فكرية وفنية متعددة». (2) وهذا ما يميز رواية « الميتا متخيل» لأنها لا تخضع لتنظير مسبق، بقدر ما تسعى إلى بلورة «الصنعة الإبداعية»للرواية وذلك بتحويلها إلى تأمل حول الإنسان والعالم وإلى فضاء لابتكار نقلات فنية جديدة.
لهذا نجد الكاتب محمد أمنصور يتأمل أوضاع المغرب خلال حقبة سوداء،ويعمل على تسجيلها بصوت حزين وساخر في نفس الوقت.ولكي يجعلنا في تفاعل شديد مع الواقع المحكي الذي يدعمه المتخيل،فقد لجأ إلى توظيف استطراد تاريخي عبر تقنية «التقعير» ليبرز من خلاله فظاعة السياسة الخرقاء التي تقوم على إبادة الناس الأبرياء والتحكم في مصائرهم.ويتعلق الأمر بقصة «نيرون»الذي أحرق روما ودفع صديقه»جاييس بترونيوس» إلى الانتحار عندما قرر إعدامه. والمعروف أن «بترونيوس» كان كاتبا مشهورا عدت روايته»ساتيريكون» من أروع النتاجات في أوروبا وذلك من حيث سخرية أبعادها الفكرية وجمالية لغتها التي تمزج بين اللاتينية الكلاسيكية واللغة الشعبية المبتذلة.
ورغم بروز هذه القصة حكاية صغرى في الرواية،فإنها تتحول إلى مرآة تنعكس فيها مأساة أهل فرطاسة، وكل المواطنين الذين تعرضوا للخطف، والاختفاء والموت خلال سنوات الرصاص:الشيء الذي يؤكد لنا أن للمتخيل الروائي قيمة معرفية فاعلة،وأنه يخول للكاتب الروائي التموضع خارج «الهنا والآن» لإعادة اكتشاف الواقع الحقيقي بطرق فنية أخرى..وهذا ما نلاحظه في رواية «دموع باخوس» التي تستثمر عدة حكايات كالطروسات التي تحكي عن تأسيس مدينة»وليلي» كما ورد في مخطوطات شيلا الأمريكية،وقصة الكنز الطريفة وشخوصها»امي رقية وزوجها مولاي الطاهر والفقيه مولاي بوعزة،وقصة ادريس في الحمام مع الكسال الأعور...
إلى جانب ذلك هناك إشارة إلى قصة انتحار الملكة «ديدون» الفنيقية التي أسست مدينة قرطاج وتطابق مصيرها مع»كليوبترا»،ثم قصة الإله ديونيزوس مع النساء المتوحشات،وقصة الجنرال ليوطي في علاقته بالمغرب إبان الحماية (خصوصا علاقته بوليلي) والتحقيق الصحفي حول سرقة باخوس.ومتابعة جهاز الأنتربول لهذه القضية، وصناع القمع في المغرب.وأخيرا قصة الفنان التشكيلي محمد القاسمي من خلال الحديث عن لوحته «مكناس» أو «باريس الصغرى» ومعرضه «كهف الأزمنة» الذي نظمه في الرباط ثم المرض الذي أخذ ينهش جسده.
إن كل هذه الحكايات تعمل داخل بناء الرواية باعتبارها»حزمات ضوئية» توسع مجال السرد،وتعكس وقع الزمن التاريخي وخطاب الإيديولوجيا من منظور المتخيل في علاقته بالذات والواقع.ومن أهم هذه الحزمات قصة روزالي (فدوى بن حلام)،المرأة (اللغز) التي حملت إلى أنور الملف الرمادي (منزل البهلوان) ،كما كانت مصدر إغرائه وإصابته بلوثة «الجنون الباخي»،وحينما اختفت،تركته وحيدا في «معبده الوثني»دون أن يتحقق من هويتها المتأرجحة بين صورة بشرية للإله باخوس وصفات إنسانية عديدة.
لقد أحس منذ الوهلة الأولى (أي في لقائهما الأول ومن خلال حديثهما عن علاقته بعلاء ومرضه وروايته اللامكتملة) أنها»لغز محير ولذيذ» (ص . 77) رغم أنها كشفت له عن ظروف عودتها إلى المغرب وعن العراقيل التي واجهتها للحصول على عمل يناسب وضعيتها الأكاديمية.وقبل انصرافها، وعدته بلقاء ثان على أساس أن « ينتهي من كتابة الرواية»(ص . 78)،رواية علاء الذي كان بالنسبة إليها»إلها رومانيا فخما».وحينما تم اللقاء الثاني الذي كان جد حميمي كشفت عن وجه امرأة أخرى يحولها»العري إلى جسد هليني مارق يتمزق فيه كل حجاب»(ص . 290).لكنها تختفي بعد أن خاضت معه،في غمرة السكر والنشوة،حوارا مطولا حول علاء والفن والكتابة متمسكة بالقناعة التالية وهي» أن الفنان الحقيقي لا يفصل بين الحياة والفن.ولا يخشى من الحياة على الفن أو من الفن على الحياة»(ص . 270).
لهذا،نرى أن»عري»روزالي هو نتاج وعي ذاتي قادها في فرنسا إلى عرض جسدها»موديلا»أمام نظر الرسامين.وهو فعل يؤشر إلى البراءة الأصلية للإنسان.ومن ثم،فإن اختفاءها هو عودة إلى الأصول يجعل»باخوسيتها»ترمز في الرواية إلى الفن،باعتباره أداة تخول للفنان التعبير عن الذات، وذلك بأبعادها الوجودية التي تربطها بما هو جوهري في حياة الإنسان وعلاقته بالكون.
وما دامت رواية»دموع باخوس»تنبني على سرقة إله روماني،ألا يمكن القول اعتمادا على تصنيفها في خانة الميتا متخيل أن روزالي هي المحفز الرئيس على كتابتها.ألم يقل
عنها علاء:»إنها رواية تستحق أن تكتب»؟( ص. 88).وبما أنها حملت وصيته إلى أنور،فإن دورها هو التوحيد بين ذاتين:ذات متحررة وثنية، وأخرى مسكونة بالمسؤولية ولكنها انصاعت للإغراء»الباخوسي»لتظل معلقة بين الحضور والعدم.
عبر هذه الفرضية،كتب محمد أمنصور رواية جميلة بصوتين:أي من خلال حوار بينه وبين ضعفه (أنور/علاء) حول الكتابة إلى خيمياء عجيبة تتركب موادها من واقع مأسوي حقيقي، ومتخيل نافر وساخر رسم مشاهده ومحيطاتها ليفصح عن قلق الفنان وصرخته الواعية ضد القمع والإبادة.وليؤكد أن الرواية الحداثية هي تأمل متنوع الوجوه حول طقس الكتابة.
1 . Alain Robe grillet.Romanesques
: 1 Le Miroir qui revient.
2. Angelique ou l
enchantement 3
. Les derniers jours de Corinthe
2.M.Bakhtine
:Roman et Epopee.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.