الباحث والكاتب المغربي المراكشي الاستاذ عبد الرحمان الملحوني تناول ساحة جامع الفنا في الكثير من أبحاثه ومن مختلف الزوايا ، ولعل كتابه « ذاكرة مراكش...صور من تاريخ وأدبيات الحلقة بساحة جامع الفناء» يعد بحق من أهم ما كتب عن الساحة، حيث تعامل مع الموضوع برصانة الباحث المتمكن، وبإبداعية العاشق المتأمل بالبصيرة قبل البصر، وتلك حنكة المتفوقين من أهل الإعلام، و بمنهجية الأكاديمي العالم.. ومن خلال هذا الكتاب الذي يعد بحق وثيقة متميزة، نلامس موضوع ملفنا حول ما الذي تبقى من ساحة جامع الفنا ؟ يقول الأستاذ الملحوني: « ....أمامي مجموعة من صور ساحة جامع الفنا، أخذت أتأملها وأجيد التفكير في ما تضمنته في داخلها من مشاهد قديمة، وكأنني في كل صورة أعيش فترة من فتراتها التاريخية السحقية. نعم، فهناك صورة قديمة جدا جذبتني إليها معالمها بدون شعور، إنها صورة رجل من أحواز مراكش كما يبدو في زيه ، منهوك القوى، يجلس إلى جوار طفل غض مأخوذا بحركات الحكواتي، مادّا ساقيه على الأرض. ترى - كما أتخيل - هل رقد الرجل في جلسته - من تعب السفر - رقدة النعاس ؟ أو غفا غفوة السارح في أحلامه، أو المخمور ، أو المتأمل في ما كان يسرد السارد من فصول ما يقدم من حكايات وقصص !! نعم لقد امتد بي الخيال طويلا فصرت أتصور ماذا يمكن أن يحدث داخل الحلقة بين هذا الرجل الغريب، وبين لحلايقي الحكواتي ؟ لأن الرجل كان يأخذ حيزا كبيرا في جلسته، وهو على وضع لم يألفه صاحب الحلقة من رواده، وجمهوره العريض الذي يلتف حوله كل صباح ومساء، وكل يوم من أيام الأسبوع، ما عدا يوم الجمعة. لقد كانت الحلقة بساحة جامع الفنا أيام زمان فرصة «سانحة» للغرباء زائري المدينة، ففيها يأخذون استراحتهم من تعب السفر، وفيها أيضا يجدون العطف و المحبة من صاحبها، ما داموا ينفحونه بشيء من النقود ، من حين لآخر. نعم، فهو وحده سيد الموقف، ومالك الزمام ، يمضي في تعاليمه في جرأة وبسالة ، ليخلو الجو العام من أوهام الحلقة وأشباحها0 إذن، فرجل الحلقة في كل دور من أدواره، تجده يهزم الأوهام والأشباح بقوة خياله الجانح، فيخلق لنفسه عالما آخر، وهو يسرد سيرة من السير، أو حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، أو أسطورة من أساطير الجن. نعم، إنه بهذا الخيال يحيا الحياة التي يتصور معالمها بمدى قربه أو بعده عما يمكن تحقيقه ، فيزيل العوائق من طريقه، ويشطح بهذا الخيال نحو المستحيل عند غيره . إذن، فهو في هذا الحال لا يتقيد أبدا - خياله بقيود المستطاع ، فهذا خيال الذي يحلم به العقلاء !! أما رجل الحلقة، فيرسل لخياله العنان، بمقدار ما يمكن ذلك الخيال من إبداع فني جميل، لا يكبو جواده معه ولا يتعثر، وهو يسرد، أو يرقص، أو يعزف لحنا جميلا لجماعته الشعبية العريضة ». يقف الأستاذ الملحوني عند الكثير من الفوارق وهو يتأمل صور الماضي ليقارنها بصور الحاضر، ليدرك أن ملامح الساحة وتقاسيم وجهها قد تغيرت حيث يقول: «حين نضع اليوم بين أيدينا صورة تذكارية من الصور الحالية، القريبة العهد، نرى أن كل شيء قد تغير في معمار الساحة، وحتى الجمهور من العينة القديمة قد أخذ يتقلص يوما بعد يوم، يغيب بغياب رواد الحلقة وأعلامها، فغدا القائمون بشؤون الحلقة وطقوسها، لا يوفرون لزبنائهم مناخا فنيا ، وثقافيا أصيلا. وعليه ، فالساحة المثقلة بمشاهد شتى من تاريخ مراكش، و المزهوة بكثافة أعمال فرسانها ، وأبطالها ، أضحت تئن أنينا في كل فضاء من فضاءاتها، حيث تقدم مناخا جافا، وأدبا مطبوخا، ومطبوعا بطابع التلقائية والعفوية الساذجة ، فجف من روافدها معين الخلق والإبداع الأصيل. هذا بعدما كانت الساحة تقدم لزوارها عروضا رصينة، وبدائع أخرى من الفنون الجميلة الأخاذة، تهديها من عصارة حضارة مراكش ، مقتبسة من أصالتها ، ومن نبع معارفها، وثقافة ساكنتها، إن فضاء اليوم ، تغيب فيه مواهب وقدرات رجل الحلقة في كل صنف من أصنافها، وفي كل جنس من أجناسها كما عرفها جيل الأمس الذي كان يتفاعل مع الظروف الاجتماعية التي كانت تعيشها البلاد، متجاوبا مع معطيات المحيط الفني، والثقافي، مما قد أهله تأهلا ليخوض معارك شتى ، يصارع الحياة ، والحياة تصرعه، ومع هذا التفاعل تسنى له أن يمثل بعض الأدوار الطلائعية الكبرى، معبرا عن موقف الجماعة الشعبية العريضة في جرأة وشجاعة. نعم ، فلقد كان لحلايقي القديم: قصاصا ماهرا، وممثلا موهوبا، ومنشدا أصيلا، وواعظا أمينا، ونكاتا ظريفا، ومشعوذا نبيها يفظا !! ففي هزلياته، ومستملحاته، العديد من أنماط الحلقة الناجحة التي استوفت في نطاقها العام شروط الإبداع : إنه إبداع من طراز آخر، يستهوي رواد الحلقة ويأخذ بلبهم وإعجابهم. نعم، فالتحديات التي تطبع عمل رجل الحلقة هي التي كانت تشكل طبيعة عمله الإبداعي الجميل وتجعله يتلقى من داخل الذات الوقود الروحي الذي تستمر به مواهبه وعطاءاته إلى حين. إذن، فذات الفنان الأصيل تكشف عن جواهره الثمينة من خلال إبداعاته المتنوعة التي كانت تسمو بها معارفه، وتتجدد أصالته وعبقريته » . وعن الوجه الخفي في تاريخ الساحة ، وآفاق المستقبل يطرح الباحث عبد الرحمان الملحوني أسئلة كثيرة في كتابه «ذاكرة مراكش» أهمها ما يتعلق بدور الجهات المسؤولة عن تسيير الشأن العام المحلي حيث يقول : «هناك أسئلة كثيرة تطرح اليوم في نطاق الاهتمام بساحة جامع الفنا ، والكشف عن الوجه الخفي في تاريخها ، وآفاق مستقبلها. ولعل السؤال الرئيسي عند المهتمين بهذه الساحة .وهو أكثر إلحاحا من غيره، وعند كثيرين من ساكنة المدينة ، ومن خارجها ،المولعين بالفرجة والتسلية ، هو: كيف تتصور الجماعات المحلية مستقبل الساحة وأدوارها الفنية، والثقافية في الألفية الثالثة وعلى تعاقب الأجيال ، وتوالي الأيام والسنين ؟» . «نعم ، إنه سؤال عريض وهام ، ولكن ، ما أسهل اليوم على الناس أن يقولوا : إن لديهم أفكارا في كذا ، وكذا ، أفكارا اجتماعية ، واقتصادية ، سياسية ، وطنية، دينية تخص الساحة، والمهم عندنا : متى تخرج هذه الأفكار إلى حيز الوجود ؟ إذن ، فالجماعات المحلية لها تصور عام تعقد من أجل الإعلان عنه عدة لقاءات ، وندوات ولكن ، تبقى دار لقمان على ما عليها ، وأخيرا تحولت الساحة إلى مطعم للسياح يأخذ حيزا كبيرا، ويضايق على مجموعة من الحلقات ، التي كانت بالأمس تمارس نشاطاتها بكل حرية. وبهذا انصرفت الساحة عن وظيفتها ، وأخذت الظروف الآن تعمل على تذويب الكثير من الفضاءات التي عصفت بالمشروع الفني، الثقافي الكبير، الذي كانت تحلم به ساكنة المدينة وباقتراح الجماعات المحلية على لسان المجتمع المدني. وبهذا غدا المشروع الفني والثقافي ، يغشاه اليوم ما يغشاه من الفتور والهمود إلى حين » .