ابتداء ماذا يمكن للقارىء العادي أن يفهم من بلاغة السياسة أو بلاغة الخطاب السياسي؟ للبلاغة، بشكل مبسط، معنيان: هي من جهة، الكلام «الإنشائي» أي المصنوع من أجل التجميل والإعجاب (الشعر)، أوا لاستمالة والإقناع (الخطابة)، نصفه فنقول: «كلام بليغ» ونسمي أصحابه بلغاء، وهي من جهة ثانية، الحديث العلمي الذي يصف آليات اشتغال هذا الكلام الإنشائي، نسمي المشتغلين بهذا الكلام بلاغيين. فهناك إذن كلام بليغ (خطبة بليغة مثلا)، وكلام بلاغي (الحديث عن بلاغة تلك الخطبة، كما نفعل الآن). والحديث في المعنى الثاني يستدعي المعنى الأول ويلتبس به، فالوصف يستحضر الإنشاء لامحالة. وبلاغة الخطاب السياسي هي جزء من بلاغة الإقناع. والإقناع قائم على الحجاج، وهو مستويات. وكان أرسطو أول من قسم الخطابة إلى سياسية، استشارية وقضائية «مشاجرية»، وتقييمية، استهوائية، قوامها التحسين والتقبيح، وسمي كتابه: فن الخطابة. وظل هذا التقسيم يفرض نفسه برغم كل التعديلات التي أُدخلت عليه. هل للخطاب البليغ ومنه الخطاب السياسي صفة تميزه عن باقي الخطابات؟ الخطاب البلاغي خطاب إنشائي، أي مبني، ولكنه «رخو» لأنه قائم على الاحتمال، وهدفه التأثير في المتلقي. ومعنى ذلك، أنه يغطي كل المسافة الممتدة بين الهدر وسخف الكلام (غير المبني)، وبين الخطاب العلمي «الصلب» القائم على الضرورة الرياضية والتجريبية المخبرية. فكلما تدخلت أوضاع الإنسان ورغباته وهواجسه في المعادلة، كلما تدخلت البلاغة لتحقيق التواصل وتيسير الفهم والتفاهم والبيان والتبيين. كيف يتجلى البعد البلاغي في الخطاب السياسي؟ هذا يجرنا الى تعريف الشق الثاني من مكونات السؤال الأول: السياسة، في مفهومها الحديث، مجال للحوار من أجل تدبير الشؤون المدنية، حوار بين استراتيجيات تمثلها أحزاب، إذ لا سياسة في العصر الحديث دون أحزاب. وحين نتحدث عن الحوار فنحن نتحدث ضرورة عن مجال ترتيب القيم: من الأحسن إلى الحسن إلى الأقل قبحاً، ومن الأنفع إلى النافع الى الأقل ضرراً، ومن الأعدل إلى العادل إلى الأقل ظلماً... إلخ. ترتب هذه القيم في إطار الإكراهات التي يفرضها الواقع. نحن لا نتحاور حيث يمكن الوصول الى يقين، كما في الموازين والمقاسات والأعداد. حين نختلف في هذه المواضيع نقوم بالاحتكام إلى الجرام والمتر والأعداد فنفض النزاع. ولا تنس أننا نتحدث عن عالم العقلاء. ولكن حين أقول لك، مثلا، إن «الأعدل» هو توزيع الثروات على العمال من أجل رفع مستوى الإنسان، أي نخوض في تدبير الحياة المدنية، فبوسعك أن ترد علي بأن الأنفع هو تجميع الثروة في أيدي المستثمرين من أجل القيام بمشاريع كبرى تنفع الجميع. وبعد حوار ننتقل الى تبني النافع أو الأخف ضرراً بالنسبة للطرفين: يُعتنى بتجميع الثروة في الحدود التي لا تضيع فيها حقوق العمال، وتحترم حقوق العمال في الحدود التي لا تبدد رأس المال وتؤدي الى إغلاق المصانع. فالمسألة كانت في تقاطب وتعارض بين مصالح الطرفين، ثم آلت إلى موقع احتمالي في المسافة بينهما، وهو موقع محتمل تحدده قوة الطرفين في التفاوض تبعاً للبيئة السياسية التي يتفاوضان فيها: هل الحزب الحاكم مثلا هو الحزب الاشتراكي أم الحزب الليبرالي، وهل الظرفية الاقتصادية نشيطة أم راكدة، أرباح أم خسائر... كل شيء محتمل. ما هي الظروف التي تسمح بحوار سياسي بناء؟ ظروف ازدهار الخطاب السياسي هي بكل بساطة «ظروف توازن السلط»، ظروف الحرية والمسؤولية وسيادة القانون، حين يكون الفيتو بيد أحد الطرفين تكون ظروف الحوار صعبة أو عبثية.. القداسة فيتو سياسي... هل توفرت للخطاب السياسي في المغرب ظروف بلاغة إقناعية تستوفي شروط البلاغة الجديدة؟ «البلاغة الجديدة» في مجال الإقناع بلاغة تعاونية، هي أميل الى المنطق والواقعية، تقاوم هيمنة التأثير السيكولوجي، وتحاول التقليل منه، وتعادي السفسطة، ولذلك تنتسب الى منطق القيم، وهو منطق طبيعي احتمالي، ولكنه أميل الى مخاطبة المستمع الكوني حيث يُهيمن العقل. والسائد في الخطاب السياسي المغربي الحالي هو مبدأ «التقية» والإلغاز نظراً لهيمنة السلط والمقدسات... كيف ذلك؟ بالأمس، مثلا، سمعتُ السيد حميد شباط، وهو حالياً زعيم سياسي استقلالي مؤثر، يقول بأن حزب الأصالة والمعاصرة يُعارض حكومة صاحب الجلالة، فهو ضد صاحب الجلالة، ويستغرب الرجل، في شيء من التغابي، كيف أن جميع الأحزاب صنعتها الادارة المغربية كانت مرصودة لمحاربة المعارضة إلا هذا الحزب، فهو يعارض الحكومة. حين تسمعُ هذا الكلام ستقع في حيرة بين منطوقه وبين ما تعرفه علم اليقين من أن جميع المؤاخذات والغمز واللمز الموجه إلى هذا الحزب (من الاشتراكيين والإسلاميين على حد سواء) يتجه إلى علاقة «صاحبه» السيد عالي الهمة بصاحب الجلالة، حيث يشار إليه، في الغالب، بصفة «صديق الملك»! وقيل عن حزبه: حزب صديق الملك. وقيل أيضاً بأن المقصود من العملية هو خلق حزب للنظام على نحو ما وقع في مصر وتونس. فما الذي يريد السيد شباط أن يعبر عنه بهذه الطريقة الملتوية التي تترك المستمع العادي في حيرة؟ كيف يكون الحزب مصنوعا إداريا ومضادا للحكومة! هنا يقدم شباط تخريجة لهذه الورطة الكلامية، فهو يفرق بين حكومة سياسية وحكومة إدارية هي الفاعلة. وحزب الاصالة ينتمي الى الحكومة الادارية، كما ينتمي إليها ايضا وزير المالية الذي سيشن شباط إضرابا ضد سياسته،لا على سياسة الحكومة التي يرأسها الامين العام لحزب الاستقلال! واذا كانت هذه التخريجة حلت مشكلا في الظاهر، فقد خلقت مشكلا آخر: فإذا كانت «الحكومة السياسية» هي حكومة صاحب الجلالة، فلمن تنسب الحكومة الادارية، هذه الحكومة التي يديرها مستشارو الملك وينتمي إليها صديقه؟ إنها متاهة ناتجة عن العجز عن تسمية الاشياء بأسمائها. وهذا ما يسميه الفاسيون: «التقلاز من تحت الجلابة». إنه علامة على بيئة خطابية غير سليمة. وهذا موضوع يمكن أن يؤلف فيه كتاب ضخم ممتع. ألا تلاحظ استعمال حجة السلطة بشكل متواز ؟ صحيح السلطة حجة: كل مختص او صاحب صنعة يعتبر حجة في تخصصه، فهي مبررة بالمعرفة و الخبرة، وكل ورع ومصلح يعتبر حجة بورعه وإصلاحه.. الخ. ولكن المعرفة تتغير والورع ينتحل، والسلط تبقى ثابتة فتتحول الى عائق. ولذلك فهي سلاح ذو حدين لابد من معرفة كيفية استعماله، والا فإن الارض لن تدور، وسيبقى الانسان يبيع أخاه في سوق النخاسة، والمرأة سترد الى «بيت الطاعة» خانعة بحكم قضائي.. الخ. لابد ان تدخل السلط في حوار مع العقل والواقع وإلا عرقلت مسار التاريخ، وهو لن يرحمها. يندر أن يتطرق محاور من الحكومة او المعارضة في قضية خلافية دون ان يقحم خطابا ملكيا او نصا دينيا في حجاجه. هذا يسد باب الاختلاف ويختلط الحابل بالنابل، ويتحلل الجميع من المسؤولية. والحال ان السياسة ممارسة خلافية، تمارسها وجهات نظر مختلفة تترجمها الاحزاب، كما سبق. الخطاب السياسي فضاء للقاء والاستقطاب، ولذلك فهو خطاب هوياتي خاص بكل حزب، هو كالوطن له حدود يمكن ان تلامس اوطانا أخرى ولكنها لاتتعداها، وإلا أثار ذلك التعدي نزاعا. اعتقد أن كتابي: «منطق رجال المخزن واوهام الاصوليين» ألقى الضوء على جوانب مهمة من الموضوع. السؤال //////////////////؟ كثيرة، منها ما أسميه «حجة التسوية» وهي حجة قائمة على قياس فاسد، مبنية على القولة المشهورة: اذا عمت هانت. تستعمل هذه الحجة عادة من طرف من بيده السلطة والمسؤولية، من اليسار واليمين: استعملت من طرف الاحزاب الادارية زمنا طويلا، ثم صارت تستعمل اليوم من طرف اليسار القديم الحاكم. فحين يواجه أي مسؤول بقضية الرشوة أو العهارة او انعدام الامن او السطو على المال العام.. الخ، يبدأ بالرد - كمحاولة اولية لتكسير امواج الاتهام - قائلا بأن هذه العيوب موجودة في كل المجتمعات،في جميع أنحاء العالم وفي كل الازمنة، حتى في الدول المتقدمة، وفي هذه العبارة الاخيرة (الدول المتقدمة) تتركز قوة الحجة، ولكنها لاتعدو أن تكون مغالطة فجة، وذلك حين يسوى بين القاعدة والاستثناء، ولا قياس مع الفارق: فسادنا بنية وقاعدة نعيش بها، وفسادهم شذوذ وحدث عارض يؤكد صلاح أحوالهم، ولذلك تستحق هذه الحجة ان تسمى «حجة القاضي الفاسد» تبعا لقول الشاعر: قال القاضي لما عوتب ما في الدنيا غير مذنب ومن المقايسات التي لم تراع الفارق ما سمعته أخيرا من أستاذ جامعي محسوب على البحث العلمي (من أحد الاحزاب الادارية القديمة) يقارن بين السلطة الكبيرة المتاحة للرئيس الفرنسي وسلط الملك، واستغربت لأن أي واحد من الصحفيين الجالسين أمامه لم يمزق ملابسه، فمن المعلوم أن الفرق بين النظام الديموقراطي وغيره لايكمن في أن النظام الديموقراطي لايشكو من أي نقص، بل يكمن في كونه مزودا بآليات إصلاح أي خلل يطرأ عليه بسرعة. ومن المغالطات التي ترتبط بتحويل الشذوذ الى قاعدة، او القاعدة الى شذوذ، ما ورثه الاصوليون المغاربة عن نظارئهم في المشرق العربي من تلخيص الحداثة في «زواج المثليين» وما شابه ذلك من الاستثناءات. هل يستعمل الآخر دائما حجة لتبرير واقعنا؟ نعم، استعمل كذلك حتى في حال رفضه، هناك مفارقة عجيبة في حجة «الذات والآخر» فإذا كان من بيده السلطة يبرر النقائص بوجود «مثلها» عند الآخر المتقدم فإنه ما إن طرح خطة لإصلاح قطاع من القطاعات حتى يقف المعارضون الشعبويون في وجهه، ملوحين بالاصالة المغربية وتقاليد المغرب العريقة، متهمين صاحب المشروع بتقليد الغرب الليبرالي الفاسد، ونقل نماذجه الفاسدة او غير المتلائمة مع واقعنا. وقع ذلك حين طرحت مدونة الاسرة، كما وقع أخيرا مع مدونة السير. فمدونة الاسرة، كانت قبل إقرارها، مؤامرة عالمية، ثم صارت بعد ذلك هبة مولوية سنية، ومدونة السير مجرد نسخ لقانون السير السويدي.. الخ. ومع سهولة الاستقطاب تطرح حجة الذات والعراقة، وللتصدي لحركة الحداثة والديموقراطية التي أطلت على المغرب منذ أواخر الخمسينيات، ظهرت قيمة حجاجية حزبية أصبحت مجال تنافس، حجة البادية والبداوة. وفارس هذا الميدان هو المحجوبي أحرضان الذي أجاب مرة (سنة 1977) من سأله عن وثائق الحزب لتجديد الحركة: «وثائق الحركة الشعبية هي الرزاز والكنابش، العروبية والشلوح هما وثائق الحزب». هل الحجج السياسية في المغرب مستمرة وثابتة لاتتغير؟ المبادئ والأطر المنطقية العامة مستمرة، ولكن القيم الحجاجية تتغير حسب المجتمعات والظروف، حجج العصر الكلاسيكي ليست هي حجج العصر الرومانطكي كما وضح بيرلمان... اضرب لنا مثلا؟ (هناك حجة طريفة حديثة جدا سميتها حجة «الذئب الخراز»: تبرير السرقة بالفعالية. وهي تسمية «قاسية» رجوت منها تنبيه أصحابها إلى شناعة أفعالهم. حجة ابتدعها بعض «المناضلين» والأطر التكنوقراطية الكفؤة التي أسندت إليها الدولة مهمة إخراج بعض المؤسسات العمومية وشبه العمومية من حالة الإفلاس التي أوصلها إليها سوء تدبير مسؤولين اعتبروها إقطاعا خاصا في العهد السابق. فحين قيل لبعضهم: أخذتم كذا أو سرقتم كذا!... لم يجدوا غير جواب واحد يتضمن الاعتراف بالسرقة ويبررها. قالوا: انظروا ماذا حققنا لهذه المؤسسات، أنظروا كيف وجدناها وكيف صارت الآن، نحن نستحق أكثر مما أخذ! ولو أنصفتم لأعطيتمونا أكثر مما أخذنا٭! يتناسون الأجور الضخمة والامتيازات المختلفة، و يتناسون أكثر من ذلك المجهود المالي الضخم الذي بذلته الدولة لإنقاذ تلك المؤسسات. يحكى أن ذئبا تاب إلى الله من ماضيه الشنيع واحترف الخرازة خدمة للصالح العام، عله يرتق شيئا من جلود الحيوانات التي خرقها. سلمته عجوز، ذات يوم، قربة كثيرة الثقوب مشبعة برائحة اللبن الحامض المثير لشهية الذئب. عندما عادت العجوز، في الموعد المحدد لتسلم القربة، أخبرها الذئب أنه استعمل كل مهارته وصبره في رتق فتوقها حتى صارت كأنها جديدة، وعندما حدد أجرته وجد أنها تتعدى ثمن القربة، فأكلها مقابل عمله. لم تكن الذئاب القديمة تحتاج إلى مثل هذا التبرير لأن العجوز لم تكن تعود لاسترجاع القربة، وإنما ظهرت الحاجة إلى هذا الاجتهاد في العهد الجديد الذي صار يسأل احيانا عن مآل قربه المثقوبة. وقد صارت حجة الذئب الخراز فلسفة في المغرب الحديث، لا احد يرتق قربة إلا ويفكر في أكلها. ولذلك تجد أن كل مشتغل بوظيفة يرى أن ثمارها له أولا، ابتداء بوزارة المالية حيث يتحدث عن تعويضات بعيدة عن مستوى المغرب وصولا إلى المكاتب المختلفة، الكهرباء والماء والقطارات.. لا يبقى خارج اللعبة إلا المعلمون وعمال النظافة ومن على شاكلتهم.. إلخ. ربما هذه حجة جزئية هذه ليست مجرد حجة جزئية، بل هي رؤية وفلسفة، لها امتدادات متعددة. ومن تنويعاتها، أو تجلياتها حجة الجزء غير المؤثر، أو الاستثناء الذي لا يضر، روى أحد المناضلين، في بداية تجربة التناوب، أن وزيرا يساريا لم يستوعب استغراب المناضلين الصغار الذين جلس للاستماع إليهم ،شراءَ بضع عشرات من السيارات الفخمة الغالية الثمن ونصحهم بالاهتمام بالقضايا الكبرى، لأن تلك السيارات لا تمثل نسبة مهمة من ميزانية الدولة. «المشكل ماشي هنا..»... وهذه الحجة تقدم في كل الإدارات، كل مسؤول يرى أن ما يأخذه لا يمثل شيئا، فتكون مجموع النقط التي تؤدي إلى الفيضان. كل واحد يحتج بأن ما يأخذه قليل، ولكن عدد الآخذين كثير. إن حجة الذئب الخراز وحجة الجزء غير المؤثر تنتميان إلى منظومة واحدة: فلسفة العهد الجديد المتسم «بالحياء». يطرح هذا مشكل تحديد المفاهيم؟ تحديد المفاهيم والفصل بين المظاهر والأعراض الخادعة وبين الجواهر أمر أساسي في بلاغة الحجاج بصفة عامة. بل إن تحديد المفاهيم وكشف المغالطات القائمة على الانزلاق من مفهوم إلى آخر هو مدار أية مناظرة. هل يمكن تقريب الإنزلاق المغلط للمفاهيم بمثال؟ أشهر مثال لذلك وأبرزه هو تسمية السرقة «سوء تدبير» كثيرا ما يرد المسؤولون والناطقون الرسميون باسم الحكومة على ما تنشره الصحافة من أخبار السرقات والاختلاسات - بناء على نتائج الافتحاصات التي يقوم بها المجلس الأعلى للحسابات أو غيره من اللجن المكلفة من البرلمان أو من وزارة المالية - بالقول بأن الأمر لا يتعلق بالسرقة، بل «بسوء التدبير». بهذا التحويل، أو الانزلاق المغالط، يبررون عدم مبادرتهم للقيام بوضع الملف أمام القضاء. انظر كيف يتحول الوزير إلى قاض. إن سوء النية ممكن في هذا المجال، لأن المتحدث يعلم أن تحديد إحدى الصفتين من اختصاص القضاء بعد معركة حامية بين الدفاع والاتهام، وهم يعلمون بفعل الممارسة أن ما يسمى «سوء تدبير» سلوك متعمد يخلط الأوراق، لأنه هو الُعلبة التي تلف فيها السرقة. فعدم اتباع الطرق القانونية الشفافة في تدبير الصفقات، مثلا، «سوء تدبير » في الظاهر، أما باطنه فهو العمل في الظلام من أجل السرقة. ولكنه ليس في قوة السرقة المكشوفة الموصوفة التي ينبغي أن تقود إلى السجن مباشرة. سوء التدبير خطوة أولى من أجل الانزلاق الى مفهوم آخر: سوء التقدير. وذلك كله من أجل إبعاد صفة سوء النية، هذا إذا لم يصل الأمر درجة الوقاحة فيتحدث عن المجتهد الذي لم يصب. لتوسيع مجال حجة سوء التدبير يمكن الحديث عن حجة أخرى جديدة، هي حجة «المرض العقلي»، والإدمان، فهي من الحجج التي أفرزها العهد الجديد. تدل، رغم فجاجتها، على نوع من الحياء والحرج، لم يكن الخارقون للقانون في العهد القديم في حاجة إليه. استعملت هذه الحجة في تبريء بعض «الكبار» وأبنائهم وأقاربهم من المسؤولية الجنائية عن حوادث وصلت حد الاعتداء الجسدي والمعنوي على رجال الأمن وهم يؤودن مهامهم بالبذلة الرسمية. وشاعت هذه الحجة في مجال ما يسمى القتل غير العمد أو الجرح المترتب عن حوادث السير من طرف سكارى أو مدمنين. هل نحت الخطاب السياسي المغربي استعارات تستحق التصنيف حجاجيا؟ كثيرة جدا، المخزن له استعاراته، والأحزاب لها استعاراتها، وقد عرضت بعض استعارات المخزن في مناسبة سابقة بشكل هزلي. ورغم أن التوجه العام الذي يسير نحو التخلي عن أكثرها، فإن بعض المتملقين ينفضون عنها الغبار من حين لآخر. ولذلك نذكر هنا أمثلة من استعارات الأحزاب السياسية، لاشك أن قصب السبق في هذا المجال كان ومازال للاتحاد الاشتراكي واليسار بصفة عامة. فاليسار يميز نفسه عن الأحزاب الإدارية باستعارة منفرة «أحزاب الكوكوت مينوت». وأضيفت للحزب الجديد صفة: «الوافد الجديد»، وهي تعني الطارئ، والضيف الثقيل. ولكن الانتاج الاستعاري الكبير للاتحاديين كان في تدبير الشأن الداخلي، حيث يتعذر التصريح بهجاء إخوان مناضلين كانوا في نفس الصف. وهكذا نجد تبرير الانفصال مثلا باستعارات من قبيل: «أرض الله واسعة»، حيث شبهت الخريطة السياسية بالخريطة الطبيعية، والحزب بالخيمة التي يمكن أن تنصب في أي مكان. واستعارة «القطار والمحطات»، قطار الحزب يسير وفي كل محطة ينزل ركاب ويصعد آخرون، وقيل أخيرا: «وردة بدون شوك».. والخطير في الاستعارة أنها ترسخ الحجة وتشغل الذهن عن التفكير في مدى صدقية محتواها، ولذلك فعلاجها لا يكون إلا باستعارة مضادة. وقد استعمل المحجوبي أحرضان مجموعة من الاستعارات في مقارعة الخارجين عن سلطته في الحركة الشعبية من أجملها حقا استعارة «القرد المتسلق» الذي كلما علا متسلقا الشجرة كلما انكشفت عورته، شبه بها مجموعة من وزراء الحركة الذين مهد لهم طريق الصعود فقلبوا له ظهر المجن، ومنها صورة «موكا».. إلخ.