أضحى حفار القبور الإسباني، مارتين زامورا، رجل أعمال بامتياز، متخصصا في جني الأموال على حساب الموتى من المهاجرين السريين المغاربة الذين كانوا يحلمون بفردوس أوربي لا يلبث أن يتحول في غمضة عين إلى جحيم للأسرة المكلومة وفردوس لحفار القبور، الذي يكسب أربعة آلاف أورو مقابل نقل كل «رأس» إلى المغرب. لقد عاد الشاب بوشعيب إلى بلده، لكن هيهات أن يكون قد عاد لى قدميه، بل عاد جثة هامدة موضوعة على نعش يحمله إلى مقبرة تعج بالنباتات العشوائية ويتوسطها ضريح قديم. قبر لا يميزه أي شيء عن باقي القبور؛ كومة من التراب ترتفع شيئا ما عن الأرض، وحجرة صغيرة على طرفها لا تحمل اسما ولا تاريخ ميلاد ووفاة. تقع هذه المقبرة على حدود دوار الحياينة، وعلى بعد ساعتين من مدينة الدارالبيضاء، مجموعة من الدور المنبعثة من أرض يابسة حيث تعيش حوالي مائتي أسرة. يقول أفراد ذلك الدوار، متحدثين عن أنفسهم: «نحن موحدون كأصابع اليد الواحدة». الجميع كان متأثرا للغاية بوفاة بوشعيب، وعلى الأخص بعودته. تقول والدته: «لقد كان شجاعا. وها قد قُتل. تلك إرادة الله. وأمام هذه الكارثة، أقول إنني محظوظة لأن جثمانه عاد. وكأن هذه معجزة. أنا الآن أشعر بالراحة.» العديد من أبناء المنطقة لا يزالون في حكم المختفين، ويظل ابنها «العائد الوحيد». لم يكو بوشعيب (20 سنة) ليحظى بذلك الحظ ويعود إلى موطنه في يوم من الأيام، إذ كان من الممكن أن يلقى نفس مصير المئات من المغاربة الذين يموتون في رحلة البحث عن الفردوس الأوربي عبر مضيق جبل طارق، ليتم بعد ذلك الاحتفاظ ببقاياهم في قبور بئيسة تحمل شواهدها اسم «غريق» أو «مختفي»، وتنتشر في مختلف المناطق الإسبانية. غادر بوشعيب، الابن البكر، أسرته المكونة من سبع إخوة، بدعوى أنه سيلتحق بأصدقائه بمدينة الدارالبيضاء، والحقيقة أنه قرر العبور إلى إسبانيا مهما كلفه ذلك. لقد ظل ذلك الحلم يسكن أفكاره على الدوام. وكان قد تمكن سنة 2007، وهو لم يتجاوز حينها ربيعه السابع عشر، من الوصول إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط عبر مركب صيد. لكن بقاءه بإسبانيا لم يمتد إلا لثلاث سنوات، حيث طردته السلطات الأمنية الإسبانية إلى المغرب. وعندما عاد إلى الدوار، لم تكن تجول في ذهنه سوى فكرة واحدة، المحاولة مجددا، لكن هذه المرة ستأخذ الأمور منحى مأساويا. فرغم تمكنه من تجاوز شرطة الحدود في المغرب والخزيرات، لم يمض وقت طويل على ذلك، وأثناء توقف صاحب الشاحنة، التي كان بوشعيب يتخفى أسفل محركها، في محطة استراحة بالجزيرة الخضراء، تم اكتشاف جثته المتفحمة. وهنا سيأتي دور حفار القبور، مارتين زامورا، الذي يمارس عمله بالخزيرات. مهمته إعادة جثامين المهاجرين السريين المغاربة إلى المغرب. وبعد اكتشاف جثة بوشعيب، قام مارتين بمعاينة الجثة في مقر الشرطة القضائية بالخزيرات، حيث تم العثور في جيب بوشعيب على بطاقة هوية يظهر عليها اسمه العائلي (شوبياني) وتاريخ ومكان ميلاده (1990 بالحياينة). وهناك تمكن مارتين من الاتصال بأهله بمساعدة الدرك الملكي المغربي. وبحلول شهر يوليوز، تم التحصل على مجموعة من التصاريح، لتأخذ رحلة نعش بوشعيب طريقها نحو الجنوب. يقول مارتين: «لقد كانت تلك الرحلة صعبة للغاية»، متذكرا كل ما مر به وهو ينتظر على ظهر العبارة، أعطاب السيارة، الحرارة المفرطة والغبار... وفي المجموع، قضى عشرين ساعة دون أن يغمض له جفن، وإلى جانبه مترجمة وسائق سيارة نقل الموتى. كان مارتين يريد أن يكون وصوله إلى الدوار في الصباح، لأنه يعرف أن شعائر المسلمين تنص على دفن الجثة بأسرع ما يمكن. لدى وصولهم، استقبلتهم أصوات نسوة باكيات يرددن عبارات للنواح، أصرت والدة بوشعيب على فتح النعش الذي كانت تغطيه قطعة من الزنك، محاولة إلقاء النظرو الأخيرة عليه، رغم رفض مارتين الذي حاول أن يشرح لها أن الأمر مستحيل لأن الجثة أصبحت تمثالا متكلسا. لم تمض سوى فترة قصيرة ليتم رفع النعش على الأكتاف وينقل إلى المسجد ثم إلى المقبرة وخلفه يسير جميع أفراد الدوار. لم يكن أي أحد في الد وار يعرف من يكون ذاك الشخص الذي كان يقود موكب النعش. صحيح أن ماراتن لم يفتح فمه للحديث سوى مرة واحدة، لأنه لا يتحدث العربية ولأنه أيضا لم يكن يريد الكلام. ولم يكن في نظر أهالي الدوار سوى سائق سيارة الإسعاف أو ناشطا جمعويا. أما في الخزيرات، فشهرة ماراتن مختلفة تماما. يقول أحد معارفه: «هذا الرجل أقرب إلى الموت منه إلى الحياة». يعيش ويشتغل في بلدة «لوس باريوس» على مشارف الخزيرات. يتحدث بصوت خفيض وبنبرة غير متغيرة، السجائر لا تغادر شفتيه إلا قليلا، يضع نظارات طبية ويرتدي قميصا من الجينز يكشف عن حجم بطنه البارزهيئته لا توحي بتلك الصورة المسبقة التي قد تلغ أحدا عنه، لكن ما إن يتكلم، ولو بعبارت موجزة، حتى يرسم لك صورة مغايرة، إذ يتحدث كرجل أعمال متخصص في الموت، لا إله له ولا قدوة، انخرط في عمله كحفار للقبور منذ أحد عشر عاما، أب لسبعة أبناء أنجبهم من ثلاث نساء. قبل بضع سنوات، حاول ماراتن توسيع عمله، فراهن من أجل ذلك على المهاجرين المغاربة. وأضحت شبكة زبنائه تتشكل في الوقت الراهن من مئات الآلاف من المغاربة المقيمين بشكل قانوني على التراب الإسباني، والراغبين في أن يتم دفنهم عند وفاتهم في «لبلاد». وفي مدة لا تتجاوز عشر سنوات، تمكن من نقل حوالي ثلاثة آلاف جثمان مغربي إلى المغرب، مقابل أربعة آلاف أورو عن كل جثمان، وهو ما يمثل سعرا أقل بالنصف عما يطلبه منافسوه. ما يميز عمل مارتين هو اشتغاله برا، على عكس الشركات الأخرى التي تعمل على استئجار الطائرات. وأصبح نشاطه يشمل العديد من المدن الإسبانية، حتى في الشمال كلاكورونيا، ويصل في رحلاته نحو الجنوب إلى مدينة مراكش، بمعنى أن رحلة واحدة قد يقطع فيها 2200 كيلومتر برا، يقطعها في وقت قياسي. يقول: «لقد بدأت أحفظ المغرب عن ظهر قلب، وسواء تعلق الأمر بالطرق الإسفلتية أو غير المعبدة، فأنا لا أخشى السياقة لعدة أيام متواصلة». يوجد مقر عمله في بناية تطل على بلدة «لوس باريوس»، حيث أقام مسجدا اختار له طلاء أبيض. لم يغير اسمه الذي يحمل إيحالات مسيحية، واختار اعتناق الإسلام «تضامنا مع الزبناء»، حتى أنه أصبح قائدا للجالية المسلمة في البلدة. يقول: «لحسن حظي أن آلام الظهر تمنعني من الركوع خلال صلاة الجمعة، كما أن إصابتي بداء السكري تعفيني من الصوم». يتقدم إلى قلب قاعة فسيحة حيث يشتغل ويقول: «إننا نؤدي عملنا بشكل جدي، فكل مغربي يموت يقوم إمام بتغسيله على الطريقة الإسلامية، قبل أن يتم لف جثمانه في كفن أبيض. وهذا هو السبب الذي يجعل المسلمين يفضلون الاستعانة بخدماتي . ولقد تناقل الناس أخباري عن طريق الكلام فقط». أما بالنسبة للمهاجرين السريين الذين يلفظ البحر جثتهم أو يتم العثور عليهم وقد تفحموا تحت محركات الشاحنات، كما هو الحال بالنسبة لبوشعيب، فالأمر يحمل في ثناياه قصة أخرى طالما احتفظ بها مارتين لنفسه. كانت البداية سنة 1999 على أحد الشطآن بالخزيرات، حيث اصطفت ست عشرة جثة غارقة لمهاجرين مغاربة. وتزامن ذلك مع وجود مارتين في عين المكان. يقول: «كنت أرى في ذلك عملية مربحة، أربعة آلاف أورو للرأس، لكن المشكل الوحيد هو العثور على أسر الضحايا.» فتوجه بسيارته الكبيرة إلى نواحي مدينة بني ملال، حيث من المعتقد أن أسر الضحايا تعيش هناك. أخذ معه ملابس لاضحايا، ساعاتهم، الأوراق التي كانت بحوزتهم، وبدأ يعرضها أمام الأسر المحتملة، ولم تلبث أن تعرفت عليهاإحدى الأسرة، ثم ثانية، ُم أخرى...: «لكن كانت الصدمة هي التالية. كنت آمل أن أجمع ثروة من تلك العملية، لكن أحوال تلك الأسر كانت مزرية، وبالكاد كانت تضمن قوت يومها. وفي النهاية اتفقت معها على منحي ثلاثة آلاف أورو». ومنذ ذلك الحين، أقام مارتين خطا قارا لنقل المهاجرين السريين المغاربة الذين قضوا وهم في طريقهم نحو أوربا. وفور تلقيه خبر العثور على مهاجرين ميتيين، يقوم بربط اتصالاته بالشرطة، والإسعافات، والقضاة، والمستشارين... من أجل الحصول على الجثامين في أقرب وقت ممكن، ليعمل بعد ذلك على الاحتفاظ بها في غرفة باردة، والبحث عن وسائل تمكنه من تحديد هويتها ومعرفة أسرتها، تم نقلها إلى المغرب. وقد تتطلب هذه العملية منذ البداية إلى النهاية حوالي ستة أشهر من الانتظار. وفي حال عدم إجراء اختبارات الحمض النووي، يأمر القاضي بالاحتفاظ بالجثة. يجد مارتين نفسه دائما في مهمة صعبة عندما يحاول إيصال جثة إلى أهلها في إحدى القرى، فالأجواء هناك تكون غير مريحة إطلاقا، سيما أن أهله الميت لم يروه منذ عدة سنوات، فيكون الإصرار على فتح النعش، ويكون النواح والعويل بطريقة عنيفة لدرجة انسياب الدم. لكن حضور الجثة يسمح لهم بإقامة المأثم، وذلك أفضل بالنسبة لهم من وضعه ابنه ضمن لائحة المفقودين. عن ليبراسيون الفرنسية