«إننا متفائلون في السياسة اليوم، فلنكن متواضعين بخصوص الماضي، لنكن متفهمين للرغبة العارمة في التغيير، لنكن متفائلين بخصوص قدرة السياسة على إحداث التغيير». بهذه الكلمات أنهى الزعيم الجديد لحزب العمال البريطاني ايدميليباند خطابه الحماسي الذي استغرق أكثر من ساعة مساء يوم الثلاثاء 28 شتنبر بالقاعة الكبرى للمؤتمرات أمام أزيد من 4000 مؤتمر وزائر وممثلين لمختلف وسائل الاعلام، حضروا بكثافة لمتابعة خطاب الزعيم leaders›speech الذي يعتبر أحد أقوى اللحظات في أجندة المؤتمر. خطاب أراده الزعيم الشاب الجديد تأكيدا لجدارته وقدرته على قيادة الحزب بعد فوزه في السباق الطويل نحو الزعامة على أربعة منافسين، بمن فيهم أخوه الاكبر رافيد ميليباند، الذي كانت أغلب التوقعات وجل وسائل الاعلام ترشحه لخلافة براون. فوز ايدمليباند، بفارق نقطة واحدة (50,65 مقابل 49,35 لأخيه) والذي أعلن عنه يوم السبت 25 شتنبر بحضور القادة النافذين في الحزب، بمن فيهم براون وهيرمان هارييت يوم السبت 25 شتنبر بحضور القادة النافذين في الحزب، بمن فيهم براون وهيرمان هارييت وآلان جونسون وآلستر ونيل كينوك ويرسكوب وجاك سترو، جاء في الدور الرابع بفضل أصوات النقابات، التي آزرته بقوة ومكنته في النهاية من تجاوز أخيه دافيد الذي حصل على نسبة أعلى من الاصوات لدى الهيئتين الحزبيتين الانتخابيتين اللتين تمثلان مجمل الاعضاء في الاقاليم والجهات والوحدات الانتخابية PCL والبرلمانيين من جهة ثانية، وذلك في إطار نظام انتخابي للقيادة الحزبية، ثلاثي التركيب (الاعضاء، النقابات، البرلمانيون)، ظل أحد الثوابت التنظيمية لحزب العمال البريطاني، رغم مجمل التحولات السياسية والايديولوجية التي عرفها الحزب خلال مرحلة بلير الذي كان قد عمل على إعادة موقعة الحزب باتجاه الوسط، ومراجعة عدد من علامات إرثه العمالي القديم. الزعيم الجديد حرص على توضيح الشعار الذي اختاره كموجه لمختلف فقرات خطابه ، شعار «جيل جديد لحزب العمال»، سواء على مستوى السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية أو على مستوى خط السياسة الخارجية. ومنذ البداية حرص على إبراز نوع من المسافة مع الارث البليري، ورغبته في إحداث تغييرات كبرى في التوجهات الاستراتيجية للحزب تأخذ بعين الاعتبار الدروس التي يجب على العماليين استخلاصها من نتائج الانتخابات التشريعية لماي الاخير التي عرفت ابتعاد أزيد من 5 ملايين ناخب عن الحزب، حيث أكد أن المسؤولية السامية تقتضي من العماليين ألا يلجأوا الى الحلول السهلة من خلال لوم الناخبين، وأن هذه المسؤولية تقتضي، مع التأكيد على ما أنحز من مكاسب اجتماعية هائلة (الحد الادنى للأجور، تطور كبير في مجال التغطية الصحية، جودة الخدمات العامة والحفاظ على المرافق العامة)، البحث كذلك في معضلة انفصال الروابط مع الفئات الشعبية والطبقات العمالية والمقاولات الصغرى والمتوسطة، مشيرا إلى أنه لا يليق بحزب يضع العدالة الاجتماعية ضمن الركائز الأساسية في هويته أن يقبل مثلا بأن يكون مبلغ ما يحصل عليه بعض مدراء الأبناك في يوم واحد، يساوي ما يحصل عليه عامل في مجال صناعة السيارات خلال سنة. إيدميليباند أكد على رفض الحزب الأورثودوكسية المالية لتحالف المحافظين والليبراليين (كامرون/كليغ) الذين يتخفون وراء مقولة العجز ليمارسوا سياسة موجعة تهدد مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية التي تستفيد منها أساسا تلك الفئات التي لم يكن لها أي ضلع في الأزمة المالية، مؤكدا أن اختيارات المحافظين، لا تمثل على هذا الصعيد أي جديد بالقياس الى أفكارهم ووصفاتهم القديمة. وفي المجال الاجتماعي، أكد إيدميليباند - مع التأكيد على مخاطر الإضرابات العشوائية والتحلي بنوع من المسؤولية في التعاطي مع معضلة العجز - على ضرورة دعم الحقوق والمكاسب العمالية، بما ينسجم والهوية الاجتماعية للحزب، معبرا عن قناعته بأن خطاب المسؤولية والتعاقد يجب أن يكون هم كل الفرقاء الاجتماعيين بدون استثناء. وفي مجال الخط الجديد للسياسة الخارجية، أكد في تعبير مركز، على أن السياسة الخارجية لحزب العمال يجب أن تنبني على القيم والمبادئ وليس فقط على التحالفات، مشيرا بوضوح الى قناعته بأن قرار غزو العراق كان خاطئا، ولم يكن له أي مبرر. وهذا الموقف بالذات، هو الذي عجل بقرار دافيد ميليباند الابتعاد عما أسماه بالخطوط الأمامية Front lines في المجال السياسي واختيار الإعلان عن عدم استعداده، منذ يوم الأربعاء 29 شتنبر، للمشاركة كوزير للظل في الطاقم الذي سيختاره إيد ضمن ما يعرف بوزارء الظل. وقد طلعت صحيفة الاندباندنت وصحف أخرى عديدة، بصور لدافيد ميليباند يخاطب هارييت هيرمان التي كانت جالسة بجانبه لحظة الاستماع الى خطاب إيد،وهي منهمكة في التصفيق لكلامه بخصوص العراق، حيث خاطبها «لم تصفقين وقد كنت في الحكومة مع قرار المشاركة في الحرب؟»، فردت عليه بلغة سياسية زادت من انقباض وجهه «إنني أصفق لأن إيد هو زعيمنا الجديد» - والحوار سجل بميكروفونات أحد الصحفيين في غمرة إلقاء إيد لخطابه. لقد بدا واضحا من خلال مجريات النقاش العام في المؤتمر، سواء داخل الجلسات العامة، التي تناقش التوجهات العامة والسياسات القطاعية وتحسم في المساطر، أو من خلال مختلف الحلقات النقاشية التي تتم بموازاة مع الجانب السياسي والتنظيمي للمؤتمر والتي يؤطرها النواب البرلمانيون والمنتخبون المحليون والأكاديميون والنشطاء الجمعويون وكبار الصحفيين حول قضايا مختلفة، تحظى بالراهنية - لقد تبين أن هناك ميلا عاما داخل صفوف الحزب باتجاه تغييرات أساسية في الاختيارات العامة للحزب، وأن المرحلة البليرية برموزها وأفكارها ومرجعياتها قد أشرفت على نهايتها، وبأن حزب العمال يتأهب لموقع جديد لا يجعل متطلب الانغراس في الوسط (كمتطلب انتخابي) مبررا للابتعاد أو القطيعة مع الطبقات الشعبية أو ما يسمى في لغة الحزب وأدبياته الووركينغ بيبل (الشعب المشتغل أو الناس المشتغلون). إن الامر لم يعد يرتبط، كما صرح لي أحد المندوبين الحاضرين في المؤتمر كممثل عن دائرة توتنهام في احدى حلقات النقاش، لم يعد يرتبط بالنيولايبر (حزب العمال الجديد) في اشارة الى التسمية التي ارتبطت بالحزب على عهد مرحلة توني بلير، ولكن الامر اصبح مرتبطا بما أسماه النيكست لايبر، حزب العمال القادم. تبين أيضا أن الاصوات التي طالبت بإعادة النظر أو زعزعة التركيبة الثلاثية للهيئة الحزبية التي تنتخب القيادة، بهدف التقليل من دور النقابات، بقيت أصواتا معزولة. وتبين أيضا أن التنظيمات الشبابية داخل صفوف الحزب تدعم التوجهات الجديدة وتطالب بسياسة وخطاب سياسي وممارسة سياسية مفهومة وقابلة للاستيعاب من طرف الشباب ، عوض الابقاء عليها تراكيب وآليات وخطابات معقدة، حسب تعبير احد الشباب الذي رافع بحرارة ونال تصفيقات حارة من القاعة وهو يطالب بإعادة ربط السياسة بالهموم اليومية لبسطاء الناس، وتبين أخيرا أن كل زعماء الحزب من الرعيل الاول من انتوني بين اليساري الى كين ليفنكستون الذي نال تأييد وتصفيق الجميع حينما أعلن عن عزمه ترشيح نفسه في انتخابات العمودية لمدينة لندن مستقبلا، قائلا اننا سنكسر الطوق الذي أحكمه تحالف المحافظين والليبراليين على البلاد انطلاقا من مدينة لندن - تبين أن هذا الرعيل الاول في مجمله يساند التوجهات الجديدة التي ينوي ايد ميليباند تطبيقها ضمن خطه السياسي الجديد. ويبدو ان الزعيم الجديد للحزب فهم هذه الانتظارات حينما صرح بأن الجيل الجديد داخل حزب العمال لا يتحدد فقط انطلاقا من عامل السن، بل يتحدد بالمواقف والقيم.