لم يجد ما يلزمه بأن يدفع للموت ثمنا ما من ارتجافه، لهذا يغادر قبل أن نرتجف، قبل أن نخشى عليه من الموت. الحياة عندما تكون صراعا دائما من أجل الحياة، يكون الموت محاربا دائما لمن يقدر هذا الصراع، ابا إيخيش من هذه الطينة. لا عزاء فيه، سوى هو نفسه. لا عزاء في موته سوى حياته نفسها، لو لم يعش حياته كما عاشها، بشرف كبير، بتواضع وبنكران ذات، وبتسامح لا يضاهى، لكنا ابتكرنا بطلا ليعيشها مكانه وليكون لنا أملا في السمو. مات ابا ايخيش، ولم نملك حتى الحق في أن نقول له: لوخرجت هذه المرة بدون معطف الحياة، سنغضب منك! نحن نذرع المقبرة اليوم كما نذرع آخر مربع لنا في قيم الحياة .... السليمة: نودع من لن نودعهم بدون أن يموت شيء كبير في الداخل، ومن لا نودعهم، بدون أن يفقد الشجر من خضرته والشمس من أنانيتها والماء من نرجسيته الصافية.. هل ضللوا الكون ليستدرجوه بعد أن فاقتهم الحياة في الكثير من بسالتها الرهيبة، لأنهم لم يستطيعوا أن يسايروا الاتحاد الكبير؟ لا نقدر على أن نعطي تعريفا دقيقا لمقاعدهم في الغياب.. لم يكن با إيخيش، سليل الجبال يحلم بأكثر من حياة بسيطة، لكنه كان يدرك، مثل آخرين من فصيلته، أن الممر صعب للغاية، وأن الحياة البسيطة في وطن جميل تمر بحياة أصعب في زمن صعب في وطن صعب. لهذا كنا ندرك عندما نصافحه أو نستمع إلى سيرته رفقة من معه، أنه غير معني بتاتا بالموت، لأنه حي أولا، ولأنه عندما يموت سيترك لنا معناها وفراغها وتلالها ومجازاتها ، وسط كل الذين لا يستحقون الحياة!! عندما ألمس الوقت قليلا، وأتأمل الذين رحلوا، قبله بقليل، أتدارك نفسي بالسؤال: هناك سر ما يخفونه عنا: فهاهم يهرولون نحو باب الخروج الكبير، ونحن نتابعهم، هل هي سرية جديدة؟ هل يذهبون إلى مهمة أخرى يرون أننا لن نستطيع معهم صبرا؟ ها هو الشامي، ها هو المجدوبي، ها هو بن ديهاج، ها هي والدة المستغفر، وزوجة المستغفر وشقيقة المستغفر، كما لو أنهم يعرفون مكان اللقاء المرتقب، الذي لن نعرفه..! نكاد نصرخ فيهم: إلى أين ترحلون؟ ما الذي تخفونه في رحيلكم، الواحد تلو الآخر. كما لو أن سنة الحياة هي أن نفقدكم تباعا؟ لماذا تجعلوننا نمدح الموت في عز الحياة؟ عندما يموت رجل شهم عاش بسيطا بيننا، وخاطب البطولة بخطاب دارج ويومي عندما يموت ابا إيخيش، لا نحزن كثيرا لأنه مات، بعد عمر أبيض للغاية، وسيرة نظيفة، بل ما يؤلم هو أننا لا ندرك كيف نعزي النفس في موت رجل بسيط بألم يليق، وبحزن غير طبيعي وغير بسيط؟ أعتقد بأن الرجل الجبلي الشاسع الروح مات لأن الحياة أصبحت ضيقة عليه، كان عليه أن يضيف الموت إلى خارطة روحه لكي تتسع، هي والحياة لها.. هذه الموت هي التي تستطيع أن تجمع بين خالد بن الوليد وبين وليام سكشبير في القول: أن الجبناء يموتون كثيرا، أما الابطال فيموتون موتة واحدة، عندها لا يخطئون موتهم أبدا؟ لا ندري عندما نكون وسط عالم متشابه كالرمال، وصغير للغاية بين الاصفرار والاضمحلال، من الذي يختار الآخر: البطل الذي يختار نهايته وتوقيتها، أم الموت هو الذي يسدد الطلقة الأخيرة إلى حياة من نحب؟ الألم أيضا هو أن الأحياء ليس بمستطاعهم أن يعلّموا أي شيء للموتى، والموتى علموا ما علموا للأحياء، وحزموا أعمارهم وركبوا الرقم الأخير في هاتف الحياة، ورنت أقدارهم بالوداع، لا لأنهم يستعجلون الرحيل فقط، بل لأنهم لا يستحلون البقاء.. وما الحب الذي نبادلهم إياه سوى طريقتنا في أن نحكم على طريقتنا في وداعهم. بماذا سنقيس الأعمار يا ترى، نحن الذين كنا نكبر بعظمة أحيائنا: هل نقيس أعمارنا بالسنين، أم بالموتى الذي نفقدهم، ومازلنا أحياء؟ سنطلب سنة واحدة فقط من العمر أم ميتا واحدا من العمر؟ هي ذي قمة الألم..! لا أحد يرعى الحياة مثل الذين يعطونها معناها بموتهم: الذين عاشوا بيننا جيلا رفيعا ورقيقا وشفافا وسط الأعاصير ووسط الدم والنواح، ورحلوا بعد أن مرنوا الحياة على فضائلهم وأخلاقهم ورفعتهم. الذين نتوقع دوما أنهم يغضبون عندما نخطئ، أو أنهم يبتسمون عندما نقلد سموهم وحبهم العالي للإنسانية الرفيعة. هؤلاء البسطاء، الذين يمثلهم في الجدارة الأخلاقية ابا إيخيش، هم الذين صنعوا مجد الذين سيظلون بالتاريخ وبالكتب وبالخلود. الذين قالوا لا عندما كان الموتى المحتملون وحدهم يقولونها، والذين سكتوا عندما أصبح الأحياء وحدهم يصمتون! ولأنهم أحرار، فإنهم لم يفكروا وهم أحياء سوى في الموت، ولأنهم أحرار كانت حكمتهم التي نرث هي تفكير الموتى في الحياة! وقد يبدو للوهلة الأولى أن الموت لا يلقن، ولا يمكن أن نتعلمه، لكن الذين استطاعوا أن يتسللوا بين أنياب الوحش في مغرب القهرة والحديد والمشانق، يمكن أن يلقنونا العكس، أي أنهم بالفعل تعلموا الموت، الموت العالي.. رحم الله ابا يخيش، هذه العبارة البسيطة التي تقول كل شيء، في الأعالي!