كان بقامته الفارعة، وجسده الممتلئ، وهو في السبعين من عمره ويزيد، يثير دوما فضولي، وأنا أتأمله يمشي شامخا في دروب الحياة، وكان السؤال الغر يلح علي: كيف كان هذا الرجل في شبابه ورجولته إذن؟!.. أكيد أنه كان جبلا.. وهو جبل فعلا، بقوة رمزيته وقوة شخصيته وقوة ما يجره وراءه من تاريخ. ولقد أسعدني الحظ الجميل أن أعاشره لسنوات، وأن أتعلم منه الكثير. بل إنني كنت أتعلم من صمته أيضا، حين أتأمل كيف ينحني له الرجال احتراما وتقديرا وتبجيلا. لم يحدث أن رأيت الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي أو الراحل المقاوم الفقيه البصري، يقفون إجلالا لشخص مثلما رأيتهما يعاملانه. الحسين إيخيش، الذي غادرنا البارحة، هو تراكب من المعاني.. فهو من طينة رجال منحهم لنا الزمن المغربي، في واحدة من أنضج لحظات الفعل، التي أخصبها جيل استثنائي في تاريخ البلاد الحديث، صعب أن يتبلور بذات الألق والقوة والبهاء والرجولة.. لأنه حين يتأمل الواحد منا - بدون نزوع نحو يأس عبثي غير عاقل - واقع الحال اليوم، سلوكيا واجتماعيا، حيث ثمة أزمة هائلة للقيم عندنا بمعناها الوطني المخصب والحامي للهوية، يكاد المرء يتساءل هل كان فعلا بيننا رجال من طينة الراحل الكبير الحسين إيخيش. الرجل الذي تعفف عن الثروة، والذي لو اكتفى بحساب الذات لكان من أغنياء الوقت، لكنه ربح أن يكون مع نفسه رجلا، وأن يترك لأبنائه رأسمالا، لا ينضب، إسمه: الشرف. وإن كنت، أتحسر كثيرا على أمر في حياتي المهنية، فهو أنني لم أترجم قط مشروعا كنت اقترحته عليه رحمه الله لتسجيل سيرته، وكنا شرعنا في تحديد الإطار العام والخطوط الكبرى، هو الذي كان يتهرب دوما من الحديث عن ذاته، بأن كان يكتفي بأمازيغيته الرصينة والهادئة أن يقول لي: «إزري مايان» (لقد مر الأمر وانتهى). كنت أتحجج مع نفسي، أنه ما زال في الوقت متسع، وكنت أتوهم أن الرجل أكبر من الموت، ولم أكن مستعجلا، حتى وأنا أتتبع أخبار مرضه الأخير ودخوله المستشفى مرارا. الحسين إيخيش، فيه صلابة الأطلس الكبير.. فيه شموخه واعتداده، لأنه واثق من نبع دمه، وأنه نزل من علياء الأشراف الذين يبنون مجدهم بالفعل لا بالقول.. لقد ظل الرجل وفيا لبلدته هناك في أعالي الأطلس قريبا من جبل توبقال، فوق السحاب، حيث طائر النسر يطلق جناحيه للتحدي وللنخوة الآسرة. كنت كلما سألت عنه صغرى بناته «زهرة»، يأتيني الجواب أنه هناك قد صعد إلى الجبل. والرجل، من أولئك الذين ينطبق عليهم بيت الشاعر التونسي الكبير أبوالقاسم الشابي: «ومن لا يحب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر». لهذا السبب، كم صعد من جبال الوقت الصعب، حين كان الشعار السياسي ليس خطبة في ساحة عمومية أو داخل مكتب، بل وضع الروح على الكف والنزول إلى ساحة الفعل في الميدان. لهذا، فقد عاش الرجل في المنافي، حاملا السلاح، في معسكرات تدريب في هولندا، وسوريا وليبيا، قبل أن يقرر الدخول إلى سماء البلاد، لأن هواء تربتها أجمل، حتى ولو كان هواء زنزانة باردة في معتقل سري هنا وهناك. الحسين إيخيش، الذي قضى أكثر من سنتين في بداية السبعينات من القرن الماضي، في معتقل سري قرب تمارة، (وهنا أحكي من بعض مما فزت به معه من تفاصيل)، معصوب العينين، مقيد اليدين، ستتصلب عضلات يديه، مما كان يمنعه من الأكل أو التحكم في حركات اليد التي شلت بالكامل. وحدث مرة أن حمل في سيارة خاصة وظل يسترق السمع إلى أن أحس عجلات السيارة تمشي فوق حصى لا يكون سوى في الإقامات الفاخرة، فأدرك أنه أخذ للقاء شخصية هامة في الدولة. كانت الشخصية تلك هي الجنرال الدليمي، الذي بادره بترحاب مثير. وبعد حوار عاصف جاء فيه الحديث عن الشهيد المهدي بنبركة والجنرال أوفقير والملك الحسن الثاني والحركة الإتحادية، أحس أن الجنرال يأخذه إلى مقلب ما، فسأله أن يختصر اللقاء ويذهب رأسا إلى مطلبه. ببرود أخرج الجنرال مسدسا من درج المكتب الذي كان جالسا وراءه، وقال له: « سنعيد لك كل ثروتك، وسيارتك الفولسفاغن البيضاء، سنمنح لأبنائك جوازات السفر ونمنحهم منحا للدراسة. سيكون لك وضع اعتباري خاص... إلخ».. في مقابل ماذا؟! تساءل باحسين إيخيش (هكذا كنا دوما نناديه)، فأجابه الجنرال: «أن تصفي الفقيه البصرى».. ضحك الرجل وقال له: «أيها الجنرال، الظاهر أنكم لم تتعلموا شيئا معنا. فنحن معشر الإتحاديين لا نخون بعضنا البعض، وتذكر مني جيدا هذا الكلام، سوف يقع لك ما وقع للثور الأسود. ويداي المشلولتان لن تتحركا سوى لتوجيه المسدس إليك». سأله الدليمي: من تقصد بالثور الأسود؟!. فأجابه الحسين إيخيش: «أوفقير».. فأرغد الدليمي وأزبد وبقي إيخيش هادئا. مات الجنرال، وعاش الحسين إيخيش حرا بعد ذلك.. عاش رجلا إلى أن لقي ربه في تطوان، التي سافر إليها لبعض استجمام.. وشاء القدر أن يسلم الروح في ذات الإقليم وذات المنطقة التي توفي أيضا فيها الفقيه البصري (الشاون) الذي ذهب هناك لبعض راحة واستجمام بعد عملية جراحية دقيقة على القلب.. رحم الله الحسين إيخيش، فهو من طينة الرجال الذين لن تنساهم ذاكرة الأيام قط، هو الذي لم يسع قط لمجد أو وهم سلطة، غير أن ينام قرير العين، أنه كان وبقي رجلا.