تمثل التسممات الحادة السبب الأول للاستشارة في قسم المستعجلات عند الأشخاص الذين يقل سنهم عن 30 سنة، لذلك ارتأيت ان أخصص ركن هذا الأسبوع لتقديم قصة طبية لطفل تعرض لتسمم جلدي بالمبيدات الحشرية الفوسفورية العضوية، ومعطيات بحث أنجزه قسم الطب الشرعي بمستشفى ابن رشد حول التسمم بتكاوت الرومية . محور الحكاية طفل قروي يبلغ من العمر 14 سنة، تعرض عندما كان يساعد والده في المزرعة الاسرية نتيجة لتهور لتسمم جلدي بالمبيدات الحشرية الفوسفورية العضوية عند انسحاق فلاحي، وبعد لحظات من ذلك شعرالطفل بألم بطني، قيء وإسهال مع تعرق، إضافة إلى تحزم عضلي ورعاش وضيق في التنفس مع احتفاظه بوعيه كاملا. ولحسن حظه لم تستغرق عملية النقل الاسعافي والاستشفاء في قسم العناية الطبية وقتا كثيرا، فبعد التأكد من طبيعة المادة السامة وزمن الحادثة وظروف التسمم والسوابق المرضية والفحص السريري قام الطبيب المعالج بالقيام بتدبير أولي متمثل في إزالة الثياب الملوثة مع غسل جسد الضحية بالماء والصابون، ثم انطلاق العلاجات الاستعجالية ب «الاتروبين» و»الكونتراتيون» و»الديازيبام» مع تأمين الطريق الهوائي، والتأكد من تهوية جيدة، إضافة إلى منح الأوكسيجين والقيام بتحري مخبري تسممي ومعايرة الكلونيستراز في الدم . وتقوم هذه المواد بتثبيط انزيمات «الكولين استراز» خصوصا «استيل كولين استراز»، وهذا يؤدي الى تراكم «الاستيل كولين» في المستقبلات الميسكارينية والمستقبلات النيكوتينية. وتمثل هذه الحادثة الفجائية التي أصيب بها هذا الطفل والتي تنم عن تهور وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة في مثل هذه الحالة، تقصيرا في التحسيس بخطورة استعمال هذه المواد السامة، فرغم التطور الايجابي لحالته الصحية يمكن أن يحدث بشكل متأخر «اعتلال اعصاب عواقبي» بعد أسبوعين أو ثلاثة، كما أن هناك حالات طبية يمكن أن تؤدي الى غيبوبة مع شلل عصبي ورخو لعضلات الاطراف والعضلات التنفسية ..فالتسمم بالمبيدات الحشرية جد متواتر في المغرب ويحتل المرتبة الثانية ب 21.2 في المائة بعد التسمم بتكاوت الرومية . يساوي التسمم الحاد 3 الى 7 في المائة من النشاط غير الرضحي لقسم المستعجلات و 10 الى 15 في المائة من الاستشفائات في قسم الملاحظة الطبية لزمن قصير، مع قبول5 الى 10 في المائة من المرضى في قسم العناية الطبية المركزة وفي غالب الحالات يكون التسمم اراديا لغرض الانتحار . فالتسمم ب «تكاوت الرومية» يحتل الرتبة الأولى في أقسام المستعجلات بالدارالبيضاء ب 63.8 في المائة، مع 02 في المائة من الوفيات الناجمة عنها، يليه التسمم بمبيدات الحشرية الفوسفورية العضوية، وفي الصف الثالت التسمم الدوائي ب 19.7 في المائة، ثم التسمم بأوكسيد الكاربون ب2.8 في المائة، وبشكل نادر تسممات أخرى . ومن أجل لفت الانتباه لخطورة التسمم ب «تكاوت الرومية» في المغرب نقدم معطيات بحث المعهد الطب الشرعي للمستشفى الجامعي ابن رشد، والذي سجل 20 وفاة ناجمة عن التسمم بها في ظرف زمني لا يتعدى ثمانية أشهرمن بين 32 حالة وفاة بتسمم ، أما أسباب الوفيات الأخرى فهي كالتالي : 5 وفيات ناجمة عن فوتوكسان . 4 وفيات ناجمة عن مبيدات الحشرات الفوسفورية العضوية . 3 وفيات ناجمة عن الحامض الكلوروري 90 في المائة من الضحايا نساء تتراوح أعمارهم بين 14 و 37 سنة من مستوى اقتصادي اجتماعي ضعيف، مع ملاحظة وجود في السوابق المرضية، الكآبة والاضطرابات النفسية بنسبة 40 في المائة، بينما 75% في المائة من الانتحارات حصلت بين الخامسة زوالا والعاشرة ليلا . فالتسمم الانتحاري يصبح مميتا بعد اخذ جرعة تتعدى 02 غرام الى 7 غرام من هذا الملون الصناعي السام الذي أدخل الى المغرب سنة 1970، والذي استبدل عوض تكاوت المحلية التي هي نبات غير سام . وفي مجموع الاعراض السريرية للمصاب بتسمم ب «تكاوت الرومية» يحتل رأس هذه القائمة : وذمة مع انتفاخ وجهي عنقي ب65 في المائة. ضيق تنفسي حاد ب 38.5 في المائة، وصدمة قلبية ب 30 في المائة . اضطرابات عصبية مع غيبوبة عميقة ب 35 في المائة . وتحصل الوفاة بين هامش زمني يتراوح ما بين 15 دقيقة و 240 ساعة، وتقع الوفاة المبكرة في أقل من 48 ساعة . كما بينت دراسة معهد الطب الشرعي بالدارالبيضاء الوفيات التالية عند تشريح جثث الضحايا : انسكاب غشاء الرئة يحتل رأس القائمة من الوفيات ب 70 في المائة . انسكاب تاموري ب 25 في المائة . حبن ب 40 في المائة . احتقان للمعدة 70 في المائة . احتقان رئوي ب 60 في المائة .. وبنظرة سريعة لهذه المعطيات وبناء على الوفيات المسجلة في ظرف زمني قصير، يتضح أنه يتعين على جميع المتدخلين اتخاذ الاجراءات اللازمة لمنع تداول واستيراد هذه المواد السامة، مع ارساء برنامج وقائي تحسيسي لتفادي الاصابة العرضية والارادية بها.