أخاف فاطمة أن تتحولي إلى مجرد أقصوصة، حكاية، مادة إعلامية للاستهلاك ولتجزية هذا الوقت الرمضاني.. وإلى كلام عابر في لحظة عابرة.. مثل كل اللواتي سبقنك واللائي سيلتحقن بك في أتون المعاناة والعذاب. معذرة فاطمة، من تكونين أولا.. طفلة نبتت منذ إحدى عشر سنة، بمرتفعات قبيلة دمسيرة، ناحية إمينتانوت، في الجزء من الوطن الذي اعتبر غير نافع ولا يستحق سوى التهميش والإقصاء العمدي، جزاء وقصاصا على انتفاضاته المبكرة، و»انسياقه واحتضانه لزمرة من الضالين المضلين المتمردين والمتآمرين..« أمثال البشير.. والفرقاني وبوشكوك وبلهرود والبارودي وإيخيش وصبري وبكبير والفكهاني لاحقا والقائمة طويلة. نعم فاطمة ، وكما تعرفين فقد ظل إقليمك يجر تبعات الماضي الأليم، ولم تستطع رتوشات الحاضر، إحداث تغيير يذكر. وقد تستغربين لاحقا معي لماذا لم تشمل محاولة جبر الضرر الجماعي المناطقي إقليمك هذا لحد الآن، وكأن كل الانتهاكات الجسيمة التي مست البشر والحجر والزرع والضرع والهواء والماء والتاريخ والجغرافية (التقسيم الإداري) لا تستحق الوقوف عند ها ولا الانتباه. يظهر فاطمة أن أهل الحل والعقد مازالوا يتهجون حروف طي الصفحات... لكن لندع فاطم كل ذلك لأولي العلم وذوي الألباب والقائمين على الأمر. هنا نبتتي فاطمة في أسرة تعيش تحت عتبة الفقر المطلق: بادية قاحلة جرداء، وسط دواوير معلقة بالجبال في بيئة تحالفت عليها قساوة وحدة الطبيعة وتجار الانتخابات والسياسة واللغط. ولدت بمنطقة عاش أهلها يقاومون بالشعر الفطري والشدو الحزين، شظف الحياة وضنك العيش. بلا أراضي خصبة، ولا فرص عمل مستقر، ولا مدارس أو مستشفيات أو حتى مواصلات. نبتتي كالفطر وسط الفقر المذقع والأمية والمرض بجوار خمسة إخوة آخرين صغار، فكان محتما عليك أن تتحولي إلى مشروع مدر للدخل في سن جد مبكرة، فتلقفتك الدارالبيضاء ، تلك الحمقاء الشمطاء التي ستجود عليك بفرصة العمل المبكر كخادمة بيوت، ولتنالي نصيبك من كرم البيضاء . سلمت كالرقيق أو السبية للسخرة لدى أسرة متواضعة تعليما ودخلا، بأحد أفقر الأحياء الشعبية البيضاوية . اغتيلت طفولتك في مهدها، فأصبحت مسؤولة عن الكنس والغسل والتنظيف والعناية بطفلين أصغر منك سنا والمقابل 500 درهم شهريا. لا غرابة في الأمر فللمبلغ هيبته في جبال الاطلس الكبير . ثم ماذا تريدين؟ فلك كذلك بقايا الطعام والأسمال. تركت وحيدة لمصيرك: سرقت منك طفولتك، حرمت من حضن الوالدين ودفء الأخوة، اقتلعت من هضابك وروابيك، صودر حتى حقك في اللعب فما أدراك بالتعليم . حرمت من حياة الاطفال وأبسط حقوقهم. زج بك في معمعان الشقاء والعذاب: عمل مضن طيلة النهار وإناء الليل، سوء تغذية، قلة نوم ثم فتحت طاقة جهنم أمامك... تحولت صغيرتي إلى مجرد وسيلة أو »ماعون« لتفريغ نوبات الغضب المتكرر والمكبوتات النفسية لمشغلتك. وبما أن لا رادع فعلي لأمثالها، فقد أبت إلا أن تحول جسدك النحيل للوحة تشكيلية تؤثتها كل أنواع الرضوض وأشكال الكدمات بألوانها الزرقاء والخضراء والحمراء وحتى القزحية، بل تحول جسمك إلى مجال للنحت بالأنياب والنواجذ وموضوع للكي بالنار، والذي لم يسلم منه حتى جهازك التناسلي الذي اصطلى نارا، في رغبة مرضية ولاشعورية ربما في إفقاده وظائفه البيولوجية. في أتون هذا الجحيم لم يسعفك لا الأب الذي باعك أنت وحتي حقك في التشكي لاحقا بأبخس الأثمان، ولا القائمون على الأمور. أسعفك فقط الفرار إلى اللاوجهة، وحالتك المزرية ورأفة البعض في إيقاف هذا العذاب مؤقتا فقط ، فسرعان ما سيستعيدون بحضور الأب زمام السيطرة عليك ، لتقيمي بين ظهرانيهم ويتفننوا ويجتهدوا ، لا أدري كيف ولا بأية وسائل في تلقينك كيف تنسي أثناء المحاكمة ، وتتنكري لعذاباتك، بل علموك أبجديات تعلق العبد بالسيد وكيفية تمثيل مشاهد ولقطات سوريالية لعبادة وافتتان الضحية بالجلاد... لا أدري كم كان المقابل ومن تقاضاه؟ ولا أدري كذلك فاطمة ما الذي كان أقسى عليك؟ العذاب الجسدي السابق؟ أم كل هذا التنكيل النفسي اللاحق؟ بماذا كنت تحسين عند محاولتهم تحويلك إلى ممثلة محترفة في أسبوع؟ بماذا شعرت أثناء تأدية الدور بنجاح، لم تخنه سوى براءة الطفلة البدوية وذكاء الأسئلة وقوة الحجج والبراهين؟ هل ستستطيعين فاطمة نسيان وتجاوز آثار كل هذا الألم والعذاب وفقدان الثقة بذوي القربى والكبار عموما؟ أستبعد ذلك فاطمة، ولو تدخلت المعالجة النفسية والمساعدة الاجتماعية، فما أقسى أن يتكالب الإقتلاع المبكر من أحضان الأم . كل العذاب الذي وسموك إياه، وتواطؤ ذوي القربى على نفسية الطفل التي تستبطن كل ذلك في أغوارها العميقة وتنتج إحساسا فظيعا وملازما لدى الفرد بكونه وحيدا في هذا العالم التعيس. * ملحوظة : الأمر يتعلق بالطفلة الخادمة فاطمة ، 12 سنة ، التي تعرضت للتعذيب من قبل مشغلتها والتي قضت المحكمة الابتدائية بعين السبع بالدارالبيضاء، يوم الاثنين الماضي، بسنة واحدة سجنا نافذة في حق المتهمة . كما قضت المحكمة بتعويض رمزي قدره درهم واحد لفائدة الجمعيات المنتصبة في هذه القضية كطرف مدني.