لعل ما يميز معظم الدبلوماسيين الأمريكيين عن نظرائهم في باقي دول العالم، هو أنهم يسجلون مرورهم وتجاربهم في دواليب الادارة وكواليس الدبلوماسية، في كتب ومؤلفات توثق التاريخ القريب للصراعات الدولية و رهاناتها وتكشف خيوط المؤامرات المحبوكة وخباياها وترسم «بورتريهات» للشخصيات الفاعلة والمتحركة على الرقعة الدولية والصانعة للتاريخ. ومن بين الدبلوماسيين الأمريكيين الذي بصموا مرورهم، كتابة، على التاريخ الدولي المعاصر السفير الأمريكي لمدة طويلة في اسرائيل «مارتن أنديك» الذي شغل هذا المنصب ما بين 1995 و 2001، خلال فترة تميزت بمحاولات الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» حلحلة خيوط قضية الشرق الأوسط من أجل التوصل إلى سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين. وحول هذه الفترة، كتب «مارتن أنديك» كتابه الذي نشر بنيويورك في العام الماضي «بريء في الخارج» وهو كما ورد في عنوانه الفرعي «رواية حميمية لدبلوماسية السلام الأمريكية بالشرق الأوسط»، وهو الكتاب الذي سنترجم منه في هذه العجالة بعض المقتطفات التي تضعنا داخل البيت الأبيض وتقودنا إلى لقاء شخصيات مختلفة وأماكن متعددة من الشرق الأوسط. قال الأسد ببرود «أفهم من هذا أن رابين قد تراجع عن التزامه الذي نقلته الادارة الامريكية، هذا مؤشر خطير» ثم أضاف «إذا كان هناك أي شخص يعتقد بإيجاد سلام بدون سوريا فهو مخطئ. إذا تأكدنا من تراجعهم، فإنهم يكونون قد عرقلوا مسلسل السلام بأيديهم.. لقد كنا معتدلين حتى الآن ولن نكون كذلك بعد» ورغم هذه الكلمات الحادة فقد ترك الأسد الباب مفتوحا حين أخبرنا أنه ينتظر الرد الرسمي على هذا السؤال من كريستوفر وزير الخارجية. وكلاعب شطرنج حكيم لم يقم حافظ الأسد بأي رد فعل لعرقلة المفاوضات الأردنية الاسرائيلية (الجارية سرا) الى أن جاء كريستوفر ومعه التزام رابين المشروط للانسحاب من الجولان. استقبل الأسد ضيفه الأمريكي بحفاوة ووافق على اقتراح كريستوفر بلقاء الوفدين الاسرائيلي والسوري بواشنطن كما وافق على مغادرة اليهود السوريين الى الخارج إن أرادوا وفي المقابل سلمه كريستوفر دعوة للقاء كلينتون في جنيف. وفي 16 يناير 1994 وصل كلينتون الى سويسرا للقاء الأسد وبعد محادثات بفندق «أنتركونتنتال» خرج الرئيسان مبتسمين أمام الصحفيين الذين ينتظرون الندوة: وقرأ الرئيس السوري تصريحا بالعربية مما جاء فيه: «إن سوريا تريد سلاما عادلا ومتفاهما عليه مع إسرائيل كخيار استراتيجي.. نريد سلام الشجعان، سلاما حقيقيا يمكنه العيش والاستمرار.. إذا كان للقادة الاسرائيليين ما يكفي من الشجاعة للاستجابة لمثل هذا السلام، فإن عصرا جديدا من الأمن والاستقرار بعلاقات سلام عادية بين الجميع يمكنه البزوغ». وكان السؤال الأول من مبعوث «أسوشييتد بريس» «باري شويد» وهو خبير في متاهات الشرق الاوسط الى كلينتون حول ما إذا كانت كلمات الأسد تعني فتح الحدود وتحرير التجارة وربط علاقات دبلوماسية. وكان كلينتون قد أثار هذه المواضيع مع الأسد فأجاب بثقة «نعم، أعتقد أن الرئيس الأسد قد قام بتصريح واضح ومهم جدا حول إقامة علاقات سلام عادية». خلال لقائهما، أكد كلينتون للأسد بأن التزام رابين بالانسحاب الشامل في جيبه ،لكنه لن يسلمه حتى يضع الأسد في جيبه الثاني التزاما سوريا بترتيبات أمنية وتطبيع العلاقات لكن ما كان يسعى إليه الأسد، كان مختلفا بعض الشيء، ففي المساء الذي سبق لقاء الأسد كلينتون بعث الرئيس السوري وزير خارجيته فاروق الشرع للقاء كريستوفر من أجل تفاهم أمريكي سوري ، لكن كريستوفر أوضح للشرع بكلمات مهذبة وواضحة أنه لا أمل في تطوير العلاقات الامريكية السورية طالما لم تلغ دمشق دعمها للمنظمات الإرهابية. وحينما أثار الأسد الموضوع مع كلينتون في الغد رد عليه الرئيس لامريكي بتقنية بيروقراطية جيدة عارضا إنشاء لجنة أمريكية سورية مختلطة تحت إشراف وزيري خارجيتي البلدين للبحث في حل المشاكل التي تعترض العلاقات الثنائية، ففهم الأسد الرسالة ولم يقدم الكثير في المقابل. وهكذا حينما عرض عليه كلينتون إرسال قوات أمريكية لحفظ السلام في الجولان تلبية لحاجة إسرائيل للأمن، رفض الأسد مستعرضا تاريخ الاعتداءات الاسرائيلية على سوريا وقائلا أن دمشق هي أقرب الى حدود 1967 مما هي عليه تل أبيب أو القدس وأن الترتيبات الأمنية ينبغي ان تكون متعادلة ومتساوية بين البلدين إضافة الى تأكيده على أن يتم الانسحاب الاسرائيلي من الجولان في مرحلة واحدة خلال عام واحد (كان رابين يريده على ثلاث مراحل خلال خمس سنوات على أن يتم فتح السفارات بين البلدين في المرحلة الاولى وتفكيك المستوطنات في المرحلة الاخيرة) ومع ذلك فقد قدم الأسد تنازلين: الأول هو إعادة تعريفه «للسلام المتفاهم حوله» باعتباره السلام بين دمشق وتل أبيب (ليس بالضرورة انتظار حل المشكل الفلسطيني). أما التنازل الثاني فهو استعداده لقبول «علاقات سلام عادية» مع إسرائيل . وما ان انتهي اللقاء، حتى بعثنا كلينتون الى رابين لإبلاغه بفحوى المحادثات واللقاء. وهبطنا في إسرائيل متوقعين ترحيبا حماسيا من المسؤولين الاسرائيليين. لكننا وجدنا العكس. استقبلنا رابين بمكتبه في وزارة الدفاع ذلك المساء، ثم دعا رئيس مخابراته العسكرية «يوري ساغي» ليشرح لنا بأن الأسد لم يقدم أي تنازل وأنه يخادعنا جميعا، وشرح لنا الفرق بين «العلاقات العادية» التي قالها الاسد بالعربية والتي لا تعني بالضرورة سعلاقات طبيعية» كما قد فهمنا ، ثم وزع علينا «ساغي» نسخة من صحيفة سورية تعود الى أبريل 1993 ليؤكد لنا بأن الأسد قد تحدث عن «العلاقات العادية» قبل قمة جنيف. وعبر رابين صراحة عن تفضيله المسار الأردني و«نسيان سوريا».
بعد مجزرة الخليل يوم الجمعة 25 فبراير 1994، التي قتل فيها «باروخ غولدشتاين» وهو مستوطن صهيوني من «كريات أربع» 29 مصليا فلسطينيا بمسجد الخليل تغيرت الاوضاع وتوقفت المفاوضات الاسرائيلية العربية. وأصبحت إسرائيل تحت ضغط دولي وشرع مجلس الأمن الدولي في إعداد مشروع قرار يدين المجزرة ويعتبر القدس أرضا محتلة. وهو ما كانت واشنطن وتل أبيب تتفاديانه بشكل كبير. في هذه الظروف قام رابين بزيارة مبرمجة مسبقا الى واشنطن عرض خلالها أن يقوم كريستوفر بتقديم عرض اتفاق شامل مع الاسد يتضمن التوقيت والمراحل والتطبيع، وهو ما اعتبره كلينتون هدية مهمة للأسد، فقام بالاتصال هاتفيا بالأسد متحدثا عن عرض رابين ومقترحا ان يقوم كريستوفر برحلات مكوكية بين دمشق وتل أبيب وبنفس المناسبة طلب من الأسد أن يتدخل لدى القادة العرب كي ينخرطوا أكثر في مسلسل السلام لكي يتحرك المسار السوري الاسرائيلي أسرع. وخلال الأربع والعشرين ساعة التالية أبلغ الأسد كلينتون بأنه اتصل بالملك حسين وبالرئيس اللبناني إلياس هراوي وأنهما وافقا على الاستجابة للطلب الأمريكي، وأعلن البيت الابيض أن «الرئيس السوري بعد تشاوره مع باقي الدول العربية، قرر مواصلة المفاوضات» وقد كان الرئيس السوري مسرورا جدا لأن واشنطن اختارته عوض مصر كي يقوم بالمشاورات ويتحدث باسم العرب. وخلال الزيارة الثانية لكريستوفر الى دمشق، تحدث الأسد عن «انسحاب اسرائيل الى حدود رابع يونيه 1967» فقال له كريستوفر أنه لم يسمع رابين يتحدث عن «حدود 4 يونيه» في مقترحه، فأجابه الأسد بأن دنيس روس وكريستوفر قالا له ان الانسحاب سيكون الى حدود 4 يونيه 1967 (وهو ما لم يكن صحيحا) مما دفع كريستوفر الى الاعتذار والى طلب مهلة للاستعلام من رابين نفسه. فقال له الأسد أنه إذا لم يتمكن كريستوفر من طمأنته حول هذه النقطة فإنه سيضطر الى إعادة النظر في موقفه. وخشية انهيار المسار، قال كريستوفر مدافعا عن نفسه «أنه هو من يستحق التوبيخش لأنه لم يكن على علم بأن هناك فرق بين الحدود الدولية وبين حدود 4 يونيه 1967. وهنا انبرى الأسد في شرح تاريخي مطول ومفصل لتاريخ المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى. بيد أن رابين رفض الطلب السوري معتبرا إياه طلبا جديدا. ورغم أن الفرق بين «الحدود الدولية» و«حدود 4 يونيه 1967» لا يتعدى بضع مئات من الأمتار إلا أن الأسد قال لكريستوفر «إنها مسألة حياة أو موت. لن يسجل في تاريخي بأني تنازلت عن متر واحد من الأرض». وقد ارتاح رابين لهذا الموقف لأن الانسحاب الشامل من الجولان كان مغامرة بالنسبة له وأن حياته السياسية قد تتعرض للخطر إذا أقدم على هذا الانسحاب خاصة وأن استطلاعات الرأي العام الاسرائيلي تتجه نحو رفض التنازل عن مرتفعات الجولان. ومع ذلك فقد رأى في الموقف السوري فرصة لتقديم طلب مقابل الموافقة على حدود 4 يونيه 1967، وكان طلب رابين هو ربط مراحل الانسحاب الاسرائيلي من الجولان مع مراحل التطبيع مع سوريا. وهكذا سلمنا «إيتامار رابينوفيتش» كبير المفاوضين الاسرائيليين جواب رابين ونحن أنا ودنيس روس نتناول «الحريرة» المغربية بمطعم الأقواس الثلاثة بالقدس، حيث سحب قطعة ورق من جيبه وقرأ علينا «الانسحاب الشامل بالنسبة لإسرائيل سيكون من كافة التراب السوري المحتل نتيجة حرب 1967». وحين عاد كريستوفر الى دمشق لتسليم الجواب للأسد، عوض أن يقبله بترحيب باعتباره تنازلا من رابين، فإن الأسد طالب بمزيد من التوضيح حول هذه النقطة وإلا فلن تكون هناك مفاوضات. حينها وكان قد قام ثلاث مرات برحلة ذهاب وإياب بين دمشق وتل أبيب عبر كريستوفر عن حنقه قائلا للأسد أنه الشبيه الكامل لرابين. فرد عليه الأسد «حين يقوم الفلاح بحرث أرضه ويجد صخرة فيها، فإما أن ينتزعها أو يتجاوزها.. وإذا تجاوزها فسيفقد الجزء من الأرض التي تقف عليها الصخرة.»