لعل ما يميز معظم الدبلوماسيين الأمريكيين عن نظرائهم في باقي دول العالم، هو أنهم يسجلون مرورهم وتجاربهم في دواليب الادارة وكواليس الدبلوماسية، في كتب ومؤلفات توثق التاريخ القريب للصراعات الدولية و رهاناتها وتكشف خيوط المؤامرات المحبوكة وخباياها وترسم «بورتريهات» للشخصيات الفاعلة والمتحركة على الرقعة الدولية والصانعة للتاريخ. ومن بين الدبلوماسيين الأمريكيين الذي بصموا مرورهم، كتابة، على التاريخ الدولي المعاصر السفير الأمريكي لمدة طويلة في اسرائيل «مارتن أنديك» الذي شغل هذا المنصب ما بين 1995 و 2001، خلال فترة تميزت بمحاولات الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» حلحلة خيوط قضية الشرق الأوسط من أجل التوصل إلى سلام دائم بين إسرائيل والفلسطينيين. وحول هذه الفترة، كتب «مارتن أنديك» كتابه الذي نشر بنيويورك في العام الماضي «بريء في الخارج» وهو كما ورد في عنوانه الفرعي «رواية حميمية لدبلوماسية السلام الأمريكية بالشرق الأوسط»، وهو الكتاب الذي سنترجم منه في هذه العجالة بعض المقتطفات التي تضعنا داخل البيت الأبيض وتقودنا إلى لقاء شخصيات مختلفة وأماكن متعددة من الشرق الأوسط. الرباط دسمبر 1993: بدأنا نتساءل، أنا و «دنيس روس» عن السبب الذي جعل موكب «وارن كريستوفر» يتسمر بدون حراك. كنا قد غادرنا طائرة البوينغ 707 وهي نفسها التي أقلت جثمان الرئيس «دجون كيندي» من دالاس إلى واشنطن قبل ثلاثة عقود بعد أن حطت بمطار الرباط في دسمبر 1993 وعلى متنها كريستوفر وزير الخارجية الأمريكي وفريقه من القاهرة، وبعد أن استعرضنا على البساط الأحمر، حرس الشرف المغربي المرتدي بذلة بيضاء ودلفنا قاعة كبار الشخصيات. بعد تلك المراسيم المعتادة، ركبت سيارة خفيفة على بعد سيارتين من الكادياك السوداء التي تقل «كريستوفر» و «مارك غينسبرغ» السفير الأمريكي بالمغرب. ونحن ننتظر دون معرفة سبب لهذا الانتظار، كان التوتر يزداد بالتدريج. وبعد خمسة عشر دقيقة، جاءنا الجواب عبر أمن وزير الخارجية :«الرجل ليس في بيته»، كان يبدو أن الملك (الحسن الثاني) لم يكن بقصره من أجل استقبال وزير الخارجية ، هذا ماجعل الموكب يتوقف في انتظار الإشارة. قبل ذلك، زوال نفس اليوم، ونحن نستعد لمغادرة القاهرة في اتجاه واشنطن، اتصل فريق وزارة الخارجية من الرباط كي يبلغنا بأن جلالة الملك قد دعا وزير الخارجية والوفد المرافق له لمأدبة عشاء بالقصر الملكي، وما أن سمعت ذلك حتى بدأ ريقي يتحلب على فكرة تناول وجبة مغربية لذيذة مُعدَّة داخل المطبخ الملكي. ورغم أن كريستوفر كان مُحبا للطعام وذواقاً، إلا أنه كان يتجنب تناول الطعام في الدول العربية. وهكذا كانت رحلاته للشرق الأوسط تُرتَّب قدر الإمكان بشكل يُجنِّبُه المبيت في أي عاصمة من العواصم العربية. وحين يكون الأمر مستحيلا، فإن سكرتيرته «ليز لاينبري» كانت تتدبر أمرها كي تحضر له وجبات جاهزة من الطائرة تعمل على تسخينها بمطبخ الفندق. وفي المقابل، كان يجعل من القدس قاعدة له أثناء جولاته بالشرق الأوسط حيث كان يعشق المطبخ اليهودي، وبالخصوص وجبات مطبخ «إسحق رابين» رئيس وزراء اسرائيل لدرجة أنه في مرة من المرات، رفع نخب «مطبخ ليا (رابين)». حين سمع كريستوفر دعوة الملك، رفضها فوراً، ورغم جهودنا لثنيه عن ذلك، إلا أنه ظل رافضاً. بيد أن الأمر انتهى به إلى قبول الدعوة الملكية. ومع ذلك، فإن «كريستوفر» لم يكن راغباً في المشاركة في مأدبة مع طاغية آخر من الطغاة العرب، مما كان سيؤذي الملك دون شك لو أنه رفض. غير أن فترة الانتظار بالمطار لم تساهم إلا في الزيادة من تكدير مزاج «وارن كريستوفر». يقع المغرب في أقصى غرب العالم العربي، وتعود علاقاته الدبلوماسية مع الولاياتالمتحدة إلى عام 1786 حين تم التوقيع على معاهدة مراكش بين البلدين، وهو بلد معروف بمزيجه الفريد بين الثقافتين العربية والافريقية. ومن موقعه هذا، لعب الملك الحسن الثاني دوراً مهماً في مسلسل السلام باستضافته المحادثات السرية بين المبعوثين المصريين والاسرائيليين في بداية السبعينات مما مهَّد الطريق لزيارة السادات التاريخية للقدس عام 1977. وبعد توقيع اتفاقيات أوسلو، دعا الملك «إسحق رابين» للتوقف بالرباط في طريق العودة من واشنطن وهي أول زيارة رسمية يقوم بها وزير أول اسرائيلي للمغرب. كما أن الملك يحافظ على علاقة خاصة بالطائفة اليهودية القوية المكونة من 600 ألف يهودي معظمهم يعيشون الآن باسرائيل. لهذا، فإن زيارة المغرب من طرف وزير خارجية أمريكي عقب مهمته السلمية كانت مطلوبة مغربياً. لكن كريستوفر كان متلكئاً في إضافة عاصمة عربية جديدة إلى برنامج جولته بعد القاهرة وعمان ودمشق والرياض. بعد نصف ساعة تقريبا، تحرك موكبنا بسرعة الحلزون، في انتظار أن نتوصل بإشارة تؤكد استعداد الملك لاستقبال وزير الخارجية. لدى وصولنا الى القصر الملكي، استنتجنا تواجد الملك به من خلال كثرة الخدم المرتدين أحذية مدببة (بلغة) صفراء وطرابيش حُمر. استقبلنا الملك، وهو رجل قصير ونحيل، بذلة مخملية موشاة بالذهب، في قاعة مهيبة، وهو البروتوكول الملائم لمثل هذه المناسبات الرسمية.أشار إلى وزير الخارجية للجلوس على يمينه على رأس مائدة طويلة، ثم جلس بدوره على كرسي مماثل لعرشه وأشعل سيجارة. جلس أعضاء الوفد الأمريكي على جانب الطاولة، وحينها أشار الملك الى أحد مساعديه، ففتح بابا ضخماً مزدوج الدفتين كي يدخل الوفد المغربي. تقدم في البداية ولداه الشابان ولي العهد سيدي محمد والأمير مولاي (رشيد) ثم تلاهما وفد غريب من المستشارين، جنرال بعين واحدة يبدو أنه نسي غطاء عينه في البيت ، وزير خارجية بنصف وجه مشلول عقب أزمة قلبية كادت أن تودي به، وزير داخلية بدا بشعره الأشعث أشبه ببن غوريون منه بوزير قمع يرهب المعارضين، ثم «أندري أزولاي» المستشار اليهودي للملك، وواحداً تلو الآخر، كانوا ينحنون أمام الملك، فيقبلون يده وهو يصدّهم بإشارة متجاهلة. هذا المنظر لم يحسّن مزاج «كريستوفر» الذي لم يضيع وقته في المجاملات ودخل الموضوع مباشرة. فلتبرير زيارته للمغرب في نهاية جولة قادته الى ست عواصم شرق أوسطية خلال سبعة أيام، توصلنا إلى تفاهم مسبق مع المسؤولين المغاربة على أن تُثمر هذه الزيارة بعض الأشياء الملموسة، فعرفات ورابين كانا قد تصافحا في البيت الأبيض، وكان مسلسل السلام يتجه أماماً. لهذا، فقد كان التفاهم مع المغاربة يقضي بأن يعلن كريستوفر عقب لقائه مع الملك بأن المغرب يرغب في إقامة خطوط جوية مباشرة بين الدارالبيضاء وتل أبيب وخط تلفوني مباشر بين البلدين. كان هذا سيعد إنجازاً متواضعاً لكنه يؤشر لتطبيع أوسع في العلاقات بين اسرائيل والعالم العربي في أعقاب اتفاقيات أوسلو. قال كريستوفر للملك، إنه مسرور لتواجده بالمغرب ومرتاح لإعطائه فرصة الإعلان عن بدء تطبيع العلاقات مع اسرائيل. حينها حدجه الملك بنظرة حادة، ثم نفث الدخان من سيجارته الغالية الملفوفة باليد خصيصاً له، في اتجاه كريستوفر عبر الطاولة. ثم تناول الكلمة متحدثاً باللغة الفرنسية، رغم أنه يعرف الانجليزية بعض الشيء.فشرع في خطاب طويل يشرح فيه عدم ملاءمة إعلان مسؤول أمريكي من الرباط عن قرارات باستطاعة المغاربة أنفسهم إعلانها.ثم لم يكن هناك أي عشاء ولم يتم الإعلان عن أي شيء .هذا ما حدث ببساطة. ونحن قافلون، نسير نحو الليموزين في مربض القصر، ظللنا أنا ودنيس روس نعتذر لكريستوفر، مفسرين له أن مستشاري الملك أكدوا لنا أنه يريد من وزير الخارجية الأمريكية الإعلان عن مساهمة المغرب في مسلسل السلام، إلا أن الملك غيّر رأيه فيما يبدو، ابتسم وزير الخارجية واكتفى بالقول: »هذا ما يفعله الملوك«.