كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرض «التعشير» على كل البضائع التي تأتي من «الخارج» وتدخل «بلاد الإسلام» بقصد التجارة فيها. وهذا التعشير (الضريبة) وإن تفاوت مقداره فإنه يؤديه المسلم والحربي والذمي. وبدل أن يكن ذلك منطلقا لنظام ضريبي مضبوط ومحكوم بمبدأ «من يدفع له حق المحاسبة» فإن الذي استقر عليه الفقه هو قصر الأداء الواجب شرعا على الزكاة. يقول الماوردي في الأحكام السلطانية بعد الإشارة إلى الأعشار التي تؤدى في الحدود: «واما اعشار الأموال المتنقلة في دار الإسلام من بلد الى بلد فمحرمة لا يبيحها شرع، ولا يسوغها اجتهاد، ولا هي من سياسات العدل ولا من قضايا النصفة وقل ما تكون إلا في البلاد الجائرة، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «شر الناس العشارون الحشارون». ونقلنا عن الوزاني قبل قليل قوله:«هذا العشر الذي يؤخذ من التجار، إنما هو في أهل الذمة والحربيين الكفار، وأما المسلمون فليس عليهم إلا الزكاة، هذا الذي نطق به القرآن وجاءت به الشريعة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام». واستشار السلطان محمد بن عبد الرحمن عقب حرب تطوان (1860) العلماء في شأن المعونة لأداء التعويضات الملتزم بها لإسبانيا، و لإنشاء جيش نظامي، فكانت أجوبة العلماء بين القبول الصريح أو المشروط، وبين الرفض البات للمعونة مثل الفقيه أحمد العراقي الذي اعتبر الصلح نفسه مع الإسبان غير مشروع. واختلاف الفتاوى بين الإجازة والتحريم تعذر معه تطبيق المقترح موضوع الاستفتاء، لذلك بعد وفاة محمد بن عبد الرحمن طرح ابنه الحسن الأول نفس السؤال على العلماء، فكانت النتيجة أكثر سلبية حيث لم يجب عن السؤال إلا عالم واحد هو الفقيه عبد الوهاب بن سودة. وفي ذلك يقول صاحب عناية الاستعانة: «فسكت الجميع مع حضور من له العلم في عدة فنون، وله كتب في شروح وفنون، وهم فضلاء المصر وعلماء الدهر، إلا عالم هو قلادة في نحور الحسان تناسى فيها اللؤلؤ والمرجان أجاب بأن سيدنا... من بيت آل النبي الرسول وأبناء فاطمة البتول عنده كتب تعطي خبر كل عالم داثر ومالك غابر...» وهذا التوجه العام لرفض كل ما عدا الزكاة من مكوس وعشور تجلى أحيانا في فرضه شرطا من شروط البيعة للملك الجديد، كما حدث مع مولاي سليمان ومولاي عبد الحفيظ. 3 عدم التفاعل مع المبادرات الخاصة بتقنين موارد بيت المال: نشير هنا بالخصوص إلى ظهير 10 جمادى الثانية عام 1319 (24 غشت 1901) الذي أصدره السلطان عبد العزيز أسس به ضريبة «الترتيب» وحدد مقاديرها المفروضة على الممتلكات من ماشية، وأشجار ومزروعات. وأهم ما في هذا الظهير من إيجابيات أنه: حدد بدقة وعاء الضريبة والمبلغ الواجب أداؤه، عوض ما كان عليه الأمر من تفويض التحصيل الى العمال والقواد الذين يتحكمون في الأعراض والأموال. ألغى الامتياز الضريبي الذي كان يتمتع به المحميون والشرفاء، وأصحاب الزوايا والنفوذ وحاملو ظهائر التوقير والاحترام. فالترتيب المحدث يستوي فيه «المشروف والشريف والقوي والضعيف وحتى من كان عاملا أو شيخا أو خليفة أو نحوه يكون فيه كسائر الناس، بحيث لا يستثنى أحد من شمول هذا الضابط وعموم هذا القياس». ألغى ما كان يسمى بالكلف المخزنية الراجع تقديرها الى القواد والعمال.«وأما العامل فلم يبق له سبيل على فرض شيء عليكم أو قبض شيء منكم ولو قلامة ظفر، لأننا عينا له ما يكون يقبضه راتبا من بيت المال عمره الله، على أن لا يعود لمد اليد في متاع أحد من القبيلة، أو يتطاول لأخذ شيء بطمع أو حيلة». والحقيقة ان هذا الظهير كان ثورة إصلاحية عميقة في مجال موارد بيت المال التي لم يعالجها الفقه بجدية منذ فجر تدوينه الى الآن. وما يهمنا الآن هو أن «العلماء» لم يلتقطوا المبادرة ويناقشوا مضمونها لتدارك ما قد يكون فيها من نقص، وإضافة الأفكار المؤسسة لنظام تمويل واقعي وعادل لبيت المال. ولكن الذي حدث هو العكس حيث كان إصدار ظهير الترتيب من »الأسباب الشرعية« المثارة في الدعوة الى خلع السلطان عبد العزيز، كما كان من الشروط الواردة في بيعة أخيه عبد الحفيظ إلغاء المعونة والمكوس. إن أداء الضرائب في المجتمعات المتحضرة يشكل الالتزام الأساسي والشرفي للمواطنة ولذلك يعتبر التهرب منه جريمة مشينة وطنيا واجتماعيا وأخلاقيا. لكن الذي يحدث عندنا غير ذلك، فإصرار الفقه على حصر ما يجب أداؤه على المسلم في الزكاة (ونقصد الوجود الذي يجبر الممتنع عن أدائه) رسخ ثقافة مجتمعية عامة مؤداها ان الضرائب بمختلف أنواعها لا علاقة لها بالشريعة، والذي فرضها هو «قانون وضعي»مستورد. ولذلك، فإن التهرب منها أو التحايل على أدائها أمر عادي جداً، لا يمس الأخلاق ولا يشعر معه «المسلم» بأي حرج وإن كان من المبالغين في أداء شعائر دينه والمحافظين على سننه ومندوباته. كما أن أداءها «يجوز» أن يتم من «مال حرام» مثل «الفوائد البنكية» حسب بعض الفتاوى الرائجة. ومن أبرز نتائج ثقافة المجتمع إزاء الضرائب، موقفه من تجريم التهرب أو التحايل على أدائها. فقد قدم مشروع التجريم في الثمانينات ورفضه البرلمان مرتين. وفي القانون المالي لسنة 1997/96 أقر التجريم شكليا وفي حالات محصورة جداً كما يلي: نصت م. 49 المكررة على أنه: «يعاقب بغرامة من خمسة آلاف درهم الى خمسين ألف درهم كل شخص ثبت في حقه استعمال إحدى الوسائل التالية قصد الإفلات من إخضاعه الى الضريبة، أو التملص من دفعها أو الحصول على خصم منها أو استرداد مبالغ بغير حق: تسليم أو تقديم فاتورات صورية. تقديم تقييدات محاسبية مزيفة أو صورية. بيع بدون فاتورات بصفة مكررة. إخفاء أو إتلاف وثائق الحسابات المطلوبة قانونيا. اختلاس مجموع أو بعض أصول الشركة أو الزيادة بصورة تدليسية في خصومها قصد افتعال اعسارها». ثم أضافت م. 49 المكررة مرتين: «ان الشكايات التي ترمي الى تطبيق العقوبات المنصوص عليها في م. 49 المكررة أعلاه يجب أن يعرضها سلفا وزير المالية أو مندوبه لهذا الغرض على سبيل الاستشارة على لجنة خاصة بالمخالفات الضريبية يرأسها قاض وتضم ممثلين لإدارة الضرائب، وممثلين للملزمين يختاران من قوائم تقدمها المنظمات المهنية الأكثر تمثيلا. ويعين أعضاء هذه اللجنة بقرار للوزير الأول. وبعد استشارة اللجنة المذكورة، يمكن (نعم يمكن فقط) أن يوجه وزير المالية أو الشخص المفوض إليه من لدنه لهذا الغرض الشكوى الرامية الى تطبيق الجزاءات الجنائية المنصوص عليها في المادة 49 المكررة أعلاه إلى أعلاه الى وكيل الملك المختص بحكمة المكان المرتكبة فيه المخالفة...». وقرار الوزير الأول الخاص بتعيين أعضاء اللجنة إلى الآن (2008) لم يصدر وبالتالي لم يكن للتجريم أي أثر. هذا الموقف من البرلمان والسلطة التنفيذية من التهرب الضريبي لم يأت عرضا، وإنما هو نتيجة ثقافة شكلت عبر قرون أنتجها الرأي المتداول القائل بأن المسلم لم تفرض عليه الشريعة إلا أداء الزكاة وان كل ما عدا الزكاة مما يفرضه «السلطان» «حرام» و «غير شرعي». وهذا الأساس اعتمدته فتاوى تبيح التهرب من أداء ما يفرض على الناس من«السلطان».